حوار مُختلَق بين السجاد (ع) ويزيد

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

السؤال:

ما هو ردُّكم على ما يدَّعيه البعض من أنَّ الإمام السجاد (ع) تخضَّع ليزيد بن معاوية؟ ويستدلُّون على ذلك بروايةٍ في كتاب الكافي.

 

الجواب:

المذكور في كتاب الكافي للكليني (رحمه الله تعالى) أنَّ يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يُريد الحج فأرسل إلى الإمام زين العابدين (ع)، فلمَّا حضر طلبَ منه أن يُقِرَّ له بأنَّه عبدٌ له إنْ شاء باعَه وإن شاء استرقَّه.

 

فقال له عليُّ بن الحسين (ع): "أرأيتَ إنْ لم أقر لك أليس تقتلني، فقال يزيد: بلى. فقال له عليُّ بن الحسين (ع): قد أقررتُ لك بما سألت أنا عبد مكرَهٌ، فإنْ شئتَ فأمسِك وإنْ شئتَ فبِعْ، فقال له يزيد: أولى لك قد حقنتَ دمَك ولم ينقصك ذلك من شرفك"(1).

 

هذه الرواية وإنْ كانت مذكورة في روضة الكافي إلا أنَّها ساقطة عن الاعتبار، بل لا ريب في كذبها، ووجودُها في كتاب الكافي لا يعني وقوع مضمونها فإنَّنا نحن الإماميَّة لا نقول بأنَّ كلَّ ما ورد في كتاب الكافي صحيحٌ وصادر كما هو رأي مشهور العامَّة في كتاب صحيح البخاري، فكتابُ الكافي وإنْ كان من الكتب المعتمَدة إلا أنَّ من المسلَّم به عند علماء الإماميَّة أنَّ فيه الضعيف كما أنَّ فيه الصحيح، وتمييزُ الصحيح من السقيم يخضعُ لعددٍ من الضوابط المتَّصلة بالسند والمتَّصلة بالدلالة.

 

وأمَّا منشأ سقوط هذه الرواية عن الاعتبار والحجيَّة:

فهو اشتمالها على دعوى أنَّ يزيد بن معاوية دخل المدينة مريدًا للحج بعد مقتل الحسين (ع) وهو منافٍ لما هو المقطوع به عند المؤرِّخين وأهل السِيَر من أنَّ يزيد بن معاوية لم يذهب للحجِّ بعد مقتل الحسين (ع)، بل لم يخرج من الشام، وقد بقيَ بعد مقتل الحسين (ع) ثلاث سنوات ثم أهلكه اللهُ تعالى، فمات في بلاد الشام.

 

وقد أجمع المؤرِّخون والمحدِّثون على أنَّ مكة الشريفة كانت في عهد يزيد بعد مقتل الحسين (ع) مضطربة اضطرابًا شديدًا نظرًا لتمرُّد عبدالله بن الزبير ثم أصبحت تحت نفوذ عبدالله بن الزبير، وقد بعث إليها يزيد جيشًا من الشام(2) فحاصرها وضربها بالمنجنيق ثم مات قبل أنْ يتم القضاء على تمرُّد ابن الزبير، فعاد الجيشُ أدراجه إلى الشام، وبقيتْ مكة تحت هيمنة ابن الزبير إلى عهد عبد الملك بن مروان الذي بعث الحجَّاج بن يوسف الثقفي فحاصر مكة ثم تمكَّن من القضاء على عبدالله بن الزبير سنة ثلاث وسبعين وحينها عادت مكة إلى سلطان بني أمية(3).

 

وقد نصَّ المؤرِّخون على أنَّ أمير الحاج في سنة إحدى وستين بعد مقتل الحسين (ع) هو الوليد بن عتبة الوالي من قِبل يزيد على الحجاز ثم عزله يزيد لعدم تمكُّنه من القضاء على تمرُّد عبدالله بن الزبير المتعاظم، وحجَّ بالناس في سنة اثنتين وستين عثمان بن محمد بن أبي سفيان أو غيره من الأمويين وفي هذه السنة تمَّ طرد الوالي الأموي وسائر الأمويين من الحجاز، وأمَّا في سنة ثلاث وستين فحجَّ بالناس عبدُالله بن الزبير حيث استحكم أمرُه في هذه السنة، وفي سنة أربع وستين مات يزيد في ربيع قبل موسم الحج.

 

فمتى جاء يزيد للحج بعد مقتل الحسين (ع) وهو قد مات بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) بثلاث سنوات في منتصف ربيع الأول سنة أربع وستين من الهجرة، وقد كانت مكة حينذاك تحت نفوذ عبدالله بن الزبير بإجماع المؤرخين(4).

 

ولم تكن المدينة المنورة صافية للأمويين في عهد يزيد بعد مقتل الحسين (ع) وقد انتهى بها الأمر أنْ تمرَّد أهلُها على النظام الأموي بقيادة عبدالله بن حنظلة غسيل الملائكة، فعمدوا إلى مَن كان من الأمويين في المدينة فطردوهم منها وأخروجوا معهم الوالي على المدينة من قِبل النظام الأموي ثم خندَّقوا المدينة استعدادًا لمواجهة الجيش الأموي(5).

 

وحين بلغ ذلك يزيد بن معاوية وهو في الشام بعث بجيش يزيدُ عددُه على العشرة آلاف بقيادة مسلم بن عقبة المرِّي وأمره بعد دحر التمرُّد بإباحة المدينة لجيش الشام ثلاثة أيام، فأحدثَ جيشُ الشام في المدينة العظائم، فقتل الكثيرَ من الصحابة والتابعين وأبناءَ المهاجرين والأنصار(6) ولجأ الناس إلى المسجد النبويِّ الشريف فتتبعهم جيشُ الشام وقتلوهم عند حجرة الرسول الكريم (ص) حتى روَّثت خيولهم(7) على قبر الرسول (ص) وقد أكَّد المؤرخون والمحدِّثون أنَّه قد وُلدتْ بعد هذه الواقعة ألفُ عذراء من غير زواج(8).

 

وبما ذكرناه يتبيَّن أنَّ الخبر لا أساس له من الصحَّة، لمنافاته مع الحقائق التأريخية، فلا يصحُّ الاحتجاج به على شيء.

 

تفنيد ما احتمله البعض من أنَّ المقصود في الرواية هو مسلم بن عقبة: 

وأمَّا ما احتمله البعض مِن أنَّ الذي خاطب الإمام (ع) في الرواية ليس هو يزيد -فإنَّ ذلك تصحيف من الناسخ أو خطأٌ وقع فيه ناقلُ الخبر- بل هو مسلم بن عقبة المرِّي الذي كان على رأس الجيش الأموي المبعوث من قِبل يزيد للقضاء على ثورة أهل المدينة وعلى تمرُّد عبد الله بن الزبير في مكَّة إلا أنَّ هذا الاحتمال في غاية السقوط، وذلك لأنَّ الرواية صرَّحت أنَّ الذي خاطب الإمام زين العابدين (ع) بالخطاب المذكور "دَخَلَ الْمَدِينَةَ وهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ" ومسلم بن عقبة لم يدخل المدينة للحج بل دخلها غازيًا وقد استباحها ثلاثًا بعد القضاء على الثوار.

 

ثم إنَّ الرواية اشتملت على حوارٍ وقع بين يزيد وبين رجلٍ من قريش وخاطبه القرشيُّ بما هو صريحٌ في أنَّ مَن يُخاطبه رجل من قريش "فَقَالَ لَه الرَّجُلُ: والله يَا يَزِيدُ مَا أَنْتَ بِأَكْرَمَ مِنِّي فِي قُرَيْشٍ حَسَبًا، ولَا كَانَ أَبُوكَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ والإِسْلَامِ، ومَا أَنْتَ بِأَفْضَلَ مِنِّي فِي الدِّينِ ولَا بِخَيْرٍ مِنِّي" فالمخاطِب والمخاطَب كلاهما من قريش ومن المعلوم أنَّ مسلم بن عقبة المرِّي لم يكن قرشيًّا.

 

وثالثًا: فإنَّ هذا القرشي قال: "لَيْسَ قَتْلُكَ إِيَّايَ بِأَعْظَمَ مِنْ قَتْلِكَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (ع) ابْنَ رَسُولِ اللَّه (ص)" ومن المعلوم أنَّ مسلم بن عقبة المرِّي ليس هو مَن قتل الحسين (ع) ولم يكن شريكًا في قتله ولم يكن أساسًا حاضرًا في العراق حينها فهو من القادة العسكريين لبني أمية في الشام، وذلك كلُّه يؤكِّد أنَّ ناقل الخبر لم يقصد مسلم بن عقبة المرِّي. بل كان يقصد يزيد بن معاوية كما صرَّح بذلك، نعم لم يكن مفتري الخبر يعلم أنَّ يزيد لم يحج ولم يأتِ المدينة بعد مقتل الحسين (ع) ولهذا صار كذبُه مفضوحًا.

 

هذا مضافًا إلى أنَّ ما يذكره المؤرِّخون من تعامل مسلم بن عقبة المرِّي مع الإمام (ع) بعد استباحته للمدينة منافٍ تمامًا لما ورد في الخبر المذكور، فكلُّ من تصدَّى للحديث عن اللقاء الذي وقع بين مسلم بن عقبة وبين الإمام (ع) بعد واقعة الحرة أكَّد أنَّ مسلم بن عقبة قد بالغ في أكرام الإمام (ع) وتوقيره، وزعم أنَّه يفعلُ ذلك امتثالًا لوصيَّة يزيد(9) بل أفاد بعضُ المؤرِّخين أنَّه صرَّح لجلسائه بعد أنْ أعربوا عن استغرابهم من إكباره للإمام (ع) صرَّح لهم بأنَّه وجد نفسه مأخوذًا بما عليه الإمام (ع) من جلالٍ وهيبة، فقد ذكر المسعودي في كتابه مروج الذهب أنَّ مسلم بن عقبة المرِّي قد عبَّر لجلسائه عن اغتياظه من الإمام زين العابدين (ع) وأنَّه تبرأ في محضرهم منه ومن آبائه فما إنْ رأى الإمام (ع) وقد أشرف عليه حتى "ارتعدَ، وقام له، وأقعدَه إلى جانبه، وقال له: سَلْنِي حوائجك، فلم يسأله في أحدٍ ممَّن قُدِّم الى السيف إلا شفَّعه فيه .. ثم انصرف عنه، فقيل لمسلم: رأيناك تسبُّ هذا الغلام وسَلَفه، فلمَّا أُتي به إليك رفعتَ منزلته، فقال: ما كان ذلك لرأيٍ مني، لقد مُلئَ قلبي منه رعبًا"(10).

 

قرينة أُخرى على أنَّ الرواية مكذوبة:

والملفت في الرواية أنَّها ذكرت أولاً أنَّ يزيد "بعث إِلَى رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَتَاه فَقَالَ لَه يَزِيدُ: أتُقِرُّ لِي أَنَّكَ عَبْدٌ لِي إِنْ شِئْتُ بِعْتُكَ وإِنْ شِئْتُ اسْتَرْقَيْتُكَ فَقَالَ لَه الرَّجُلُ: واللَّه يَا يَزِيدُ مَا أَنْتَ بِأَكْرَمَ مِنِّي فِي قُرَيْشٍ حَسَبًا ولَا كَانَ أَبُوكَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ والإِسْلَامِ ومَا أَنْتَ بِأَفْضَلَ مِنِّي فِي الدِّينِ ولَا بِخَيْرٍ مِنِّي فَكَيْفَ أُقِرُّ لَكَ بِمَا سَأَلْتَ فَقَالَ لَه يَزِيدُ: إِنْ لَمْ تُقِرَّ لِي واللَّه قَتَلْتُكَ فَقَالَ لَه الرَّجُلُ: لَيْسَ قَتْلُكَ إِيَّايَ بِأَعْظَمَ مِنْ قَتْلِكَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (ع) ابْنَ رَسُولِ اللَّه ص فَأَمَرَ بِه فَقُتِلَ".

 

فالروايةُ تنقل إباء هذا القرشي وامتناعه للإقرار ليزيد بالعبوديَّة، وتنقل أنَّه أغلظ ليزيد في القول ولم يعبأ بما آل إليه مصيره، ثم تنقل أن عليَّ بن الحسين (ع) تخضَّع له وأقرَّ له بالعبوديَّة ليدرأ عن نفسه القتل، فالواضح من مساق الرواية أنَّها بصدد التنقُّص والتوهين للإمام زين العابدين (ع) على لسان ابنه الإمام الباقر (ع) وهو ما يؤكد أنَّ الرواية مكذوبة وأنَّ مَن اختلقها أراد منها الإساءة للإمام زين العابدين (ع).

 

مؤيِّدات على اختلاق الخبر:

ثم إنَّ ما ورد في الخبر من أنَّ يزيدَ هدَّد الإمام عليَّ بن الحسين (ع) بالقتل إنْ لم يقِر له بالعبودية وإنْ كان غير مستبعدٍ عن مثل يزيد الذي قتل الحسين (ع) وسبى ذرية الرسول (ص) وأباح المدينة لجيش الشام ثلاثة أيام ثم حاصر مكة الشريفة وقذف البيت الحرام بالمنجنيق، فلا يبعد عن مثله أن يتهدَّد عليَّ بن الحسين (ع) بالقتل إنْ لم يبايعه على الإقرار له بالعبودية إلا أنَّ المستبَعد بل المقطوع بكذبه ما ورد في الخبر من أنَّ الإمام عليَّ بن الحسين (ع) أقرَّ له بالعبودية ليدرأ عن نفسه القتل فإنَّ مثل هذه الدعوى لو نُسبت إلى غير عليِّ بن الحسين (ع) من أشراف العرب وذوي الحسب والنسب لكان علينا استبعاد صدق الدعوى، وذلك لما عُرف عن أشراف العرب من الحميَّة والإباء إذا بلغ الأمر هذا الحد. أعني الإقرار للسلطان بالعبوديَّة.

 

وكذلك لو نُسبت هذه الدعوى إلى أحدٍ من الصحابة أو التابعين المعروفين بالزهد في الدنيا لكان علينا تكذيب هذه النسبة لوضوح أنَّ أهل الزهد الحقيقيين لا يرون للحياة قيمة إذا كان ثمنها الذلَّ والهوان.

 

وعليُّ بن الحسين زين العابدين ابنُ رسول الله (ص) قرشيٌّ هاشمي، جدُّه أمير المؤمنين (ع) وهو في ذات الوقت ممَّن لا نظير له في الزهد والانقطاع إلى الله تعالى كما أجمع على ذلك علماء الفريقين ممَّن عاصروه ومَن تأخَّروا عنه(11).

 

فلا يصح لعاقلٍ يحترم عقله أنْ يقبل على مثلِه هذه الفِرية.

 

على أنَّ الإمام عليَّ بن الحسين (ع) لو كان يخشى القتل ويحذرُه لكان عليه المحاذرة منه وهو في الأسر، إذْ أنَّ قتله حينذاك كان أيسر مِن قتله بعد ذلك، لأنَّ قتله بُعيد مقتل الحسين (ع) سوف لن يكون أوقع من قتل الحسين (ع) وقد قُتل حينها العديد من أولاد الحسين وأولاد عليِّ بن أبي طالب (ع) فما أيسر حينذاك أن يَقتِلَ يزيدُ أو عبيدالله بن زياد الإمامَ عليَّ بن الحسين (ع). فيكون ضمن من قُتل من أهل البيت (ع).

 

في ذلك الظرف لم يكن عليُّ بن الحسين (ع) يُحاذر من وقوع القتل عليه، فقد كان يجأرُ بذمِّ يزيد وذمِّ ابن زياد وهو في الأسر، وظلَّ على هذه الحال إلى أنْ رحل إلى ربِّه.

 

وقد كانت بينه وبين يزيد وبين وابن زياد خطابات أغلظ فيها عليهم القول دون أنْ يكترث بما يترتَّب على ذلك عادةً من الاستحقاق بنظر السلطان الجائر للقتل.

 

ونذكر لذلك نماذج:

النموذج الأول:

لمَّا أنْ أُدخل عليُّ بن الحسين (ع) وبنات الرسول (ص) على عبيد الله بن زياد التفت ابنُ زياد إلى عليِّ بن الحسين (ع) قال: أو لم يُقتل عليُّ بن الحسين قال: ذاك أخي وكان أكبر مني قتلتموه وأنَّ له مطلاً منكم يوم القيامة قال ابن زياد: ولكنَّ الله قتله فقال عليُّ بن الحسين: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾(12) فقال ابن زياد: ألك جرأة على جوابي اذهبوا به فاضربوا عنقه .. فتعلَّقت به زينب وقالت يا ابن زياد حسبك من دمائنا فقال عليُّ بن الحسين: لعمته اسكتي حتى أكلِّمه ثم اقبل على ابن زياد فقال: أبالقتل تهدِّدني؟! أما علمتَ أنَّ القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة"(13).

 

ألا تكفي هذه المواجهة أمام هذا السلطان الغشوم المستهتِر أن تُضرب عنقُ عليِّ بن الحسين(ع)، فلماذا لم يخشَ الموت فيلتمس العفو أو يسكت، فلا يقارع السلطان بما يُوغرُ صدره ويُزيد من غيظه، فهل كان الحلم منتظَراً من مثل هذا الفاسق العَسوف؟!

 

النموذج الثاني:

لمَّا اُدخل عليُّ بن الحسين (ع) وبنات الرسول (ص) على يزيد وكان عنده يومئذٍ وجوه الشام .. قال: ثم دعا يزيد بالخاطب وأمر بالمنبر فأُحضر ثم أمر الخاطب فقال: اصعد المنبر فخبِّر الناس بمساوئ الحسين وعلي وما فعلا قال: فصعد الخاطب المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم أكثر الوقيعة في عليٍّ والحسين وأطنبَ في تقريظ معاوية ويزيد، فذكرهما بكلِّ جميل قال: فصاح عليُّ بن الحسين: ويلك أيها الخاطب اشتريتَ مرضاة المخلوق بسخط الخالق فانظر مقعدك في النار"(14).

 

فهنا لم يعبأ عليُّ بن الحسين (ع) بأُبهة السلطان وشعوره بنشوة النصر، فصدحَ مُجلجلاً بصوته أنَّ كلَّ ثناءٍ تفوَّه به هذا المتزلِّف عليك وعلى أبيك، وكلَّ ذمٍ أوقعة في عليٍّ والحسين (ع) واقع في سخط الله وأنَّه من مصاديق قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾(15) فهو عليه السلام قد وبَّخ موظَّف السلطان في محضره وعلى مسمعٍ ومرأى من حاشيته حيث إنَّ مقتضى الرسوم في مثل هذا المشهد أنْ تأخذ السلطان العزةُ بالإثم فيفعل ما قد يتغاضى عنه لو لم يكن في هذا المحضر.

 

ثم إنَّه (عليه السلام) اختار وصفًا يستنكِّف منه الجبَّارون سيَّما في مثل هذا الظرف فوصف يزيد بالمخلوق تذكيرًا له بواقعه وإمعانًا في احتقاره وإيغارِ صدره دون أنْ يعبأ بطيشه المعهود، فهل يُقبل بعد ذلك على مثل هذا المتألِّه الإقرار بالعبوديَّة لمخلوق؟!

 

النموذج الثالث:

إنَّ يزيدَ قال لعليِّ بن الحسين (ع) في ذلك المحضر: أراد أبوك وجدُّك أنْ يكونا أميرين، فالحمد لله الذي أذلَّهما وسفك دماءهما، فقال له عليُّ بن الحسين (ع): يا بن معاويةَ وهندٍ وصخر لم يزالوا آبائي وأجدادي فيهم الإمرة من قبل أن تلد، ولقد كان جدِّي علي بن أبي طالب يوم بدرٍ وأُحد والأحزاب في يده راية رسول الله (ص) وأبوك وجدُّك في أيديهما رايات الكفار .. ثم قال عليُّ بن الحسين: ويلك يا يزيد إنَّك لو تدري ما صنعت وما الذي ارتكبتَ من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي إذاً لهربت في الجبال وفرشت الرماد ودعوتَ بالويل والثبور .. فأبشرْ بالخزي والندامة إذا جُمع الناس ليومٍ لا ريب فيه"(16).

 

هذا مشهد آخر من المشاهد الكثيرة المعبِّرة عن شموخٍ في النفس تتصاغر دونه الجبال ورباطةِ جأشٍ ليس مثلُه الصمَّ من الصخور، فهو عليه السلام يُخاطب السلطان المنتشي بالنصر في عاصمة ملكه وأمام حاشيته وفي الحفل الذي أعدَّه للتعبير عن عزِّته ومنعته يُخاطبه دون وسام ثم لا يُسمِّيه بإسمه بل ينسبه إلى هندٍ وصخرٍ إمعاناً في استصغاره ثم يفتخر عليه بآبائه وأجداده وينتقص من آباء وأجداد يزيد ويصفُهم بأنَّهم الحملة لرايات الكفر يوم بدرٍ وأُحدٍ والأحزاب ثم يصفه بأنَّه لا يدري ما فعل وتلك سجيةُ الحمقى، فهو كمن يبحث عن حذفه بظلفه ثم يُخاطبه مبشِّرًا له بالخزي والعار والندامة فهل يصدر مثل هذا الخطاب ممَّن يخشى الموت ويقبل بالعبودية حرصًا على بقيةِ حياة؟!

 

وثمة نماذج أخرى كثيرة أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- ونصُّ الرواية بتمامها عن بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ الباقر (ع) يَقُولُ: "إِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ فَبَعَثَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَتَاه فَقَالَ لَه يَزِيدُ: أتُقِرُّ لِي أَنَّكَ عَبْدٌ لِي إِنْ شِئْتُ بِعْتُكَ وإِنْ شِئْتُ اسْتَرْقَيْتُكَ فَقَالَ لَه الرَّجُلُ: واللَّه يَا يَزِيدُ مَا أَنْتَ بِأَكْرَمَ مِنِّي فِي قُرَيْشٍ حَسَباً، ولَا كَانَ أَبُوكَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ والإِسْلَامِ ومَا أَنْتَ بِأَفْضَلَ مِنِّي فِي الدِّينِ ولَا بِخَيْرٍ مِنِّي فَكَيْفَ أُقِرُّ لَكَ بِمَا سَأَلْتَ؟! فَقَالَ لَه يَزِيدُ: إِنْ لَمْ تُقِرَّ لِي واللَّه قَتَلْتُكَ فَقَالَ لَه الرَّجُلُ: لَيْسَ قَتْلُكَ إِيَّايَ بِأَعْظَمَ مِنْ قَتْلِكَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (ع) ابْنَ رَسُولِ اللَّه (ص) فَأَمَرَ بِه فَقُتِلَ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (ع) مَعَ يَزِيدَ لَعَنَه اللَّه ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ع فَقَالَ لَه مِثْلَ مَقَالَتِه لِلْقُرَشِيِّ فَقَالَ لَه عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع): أرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أُقِرَّ لَكَ ألَيْسَ تَقْتُلُنِي كَمَا قَتَلْتَ الرَّجُلَ بِالأَمْسِ فَقَالَ لَه يَزِيدُ لَعَنَه اللَّه: بَلَى فَقَالَ لَه عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع): قَدْ أَقْرَرْتُ لَكَ بِمَا سَأَلْتَ أَنَا عَبْدٌ مُكْرَه فَإِنْ شِئْتَ فَأَمْسِكْ وإِنْ شِئْتَ فَبِعْ فَقَالَ لَه يَزِيدُ لَعَنَه اللَّه: أَوْلَى لَكَ حَقَنْتَ دَمَكَ ولَمْ يَنْقُصْكَ ذَلِكَ مِنْ شَرَفِكَ" الكافي للشيخ الكليني ج8 / ص235.

2- تاريخ الطبري ج4 / ص381، الكامل في التاريخ ج4 / ص123، المستدرك على الصحيحين ج3 / ص550، مجمع الزوائد ج7 / ص252، الطبقات الكبرى لابن سعد ج5 / ص147، تاريخ خليفة بن خياط ص195، الأخبار الطوال -الدينوري- ص264، تاريخ مدينة دمشق ج14 / ص386، أسد الغابة -ابن الأثير- ج3 / ص163، سير أعلام النبلاء ج3 / ص322، الإصابة -ابن حجر- ج6 / ص232 وغيرهم.

3- الاستيعاب -ابن عبد البر- ج3 / ص907، شرح النهج -ابن أبي الحديد- ج20 / ص104، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج5 / ص43، تاريخ خليفة بن خياط ص206، الأخبار الطوال -الدنيوري- ص315، الثقات -ابن حبان- ج2 / ص316، أسد الغابة -ابن الأثير- ج3 / ص163، الإصابة -ابن حجر- ج4 / ص82.

4- راجع تفاصيل ما ذكرناه في تاريخ الطبري ج4 / ص366، الكامل في التاريخ ج4 / ص102، تاريخ خليفة بن خياط العصفري ص180، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج34 / ص371، تهذيب الكمال للمزي ج17 / ص121، البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص235، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج5 / ص38، كتاب المحبر -البغدادي- ص21، تاريخ الإسلام -الذهبي- ج5 / ص22، تاريخ مدينة دمشق ج26 / ص258، ج28 / ص208 وغيرهم.

5- التنبية والإشراف -المسعودي- ص264، تاريخ الطبري ج4 / ص374، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص115، البداية والنهاية ج8 / ص240.

6- الإمامة والسياسة -ابن قتيبة- ج1 / ص185، تاريخ اليعقوبي ج2 / ص250، البداية والنهاية -ابن كثير- ج6 / ص262، الاستيعاب -ابن عبدالله- ج3 / ص1431، أسد الغابة -ابن الأثير- ج3 / ص147، تاريخ ابن خلدون ج2 / ص295.

7- تذكر الخواص -سبط بن الجوزي- ص289، فيض القدير -المناوي- ج1 / ص58، السيدة الحلبية -الحليبي- ج1 / ص268، ينابيع المودة -القندوزي- ج3 / ص35.

8- البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 / ص241، تذكرة الخواص -سبط بن الجوزي- ص259.

9- الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج5 / ص215، الأخبار الطوال -ابن قتيبة الدينوري- ص266، الإمامة والسياسة -الدينوري- ص187، شرح الأخبار -القاضي النعمان- ج3 / ص274، الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص152، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص379، الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 / ص119، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج3 / ص325. 

10- مروج الذهب -المسعودي- ج3 / ص70.

11- معرفة الثقاة العجلي ج2 / ص153، الجرح والتعديل -الرازي- ج6 / ص178، تقريب التهذيب -ابن حجر- ج1 / ص692، إسعاف المبطأ -السيوطي- ص78 قال الواقدي: كان من أورع الناس وأعبدهم وأتقاهم لله عز وجل وكان إذا مشى لا يخطر بيده" البداية والنهاية ج9 / ص122، وقال سعيد بن المسيب: ما رأيت أورع منه" تهذيب الكمال -المزي- ج20 / ص289، تذكرة الحفاظ -الذهبي- ج1 / ص75، سير أعلام النبلاء -الذهبي- ج4 / ص391، تاريخ دمشق -ابن عساكر- ج41 / ص378، تاريخ الإسلام -الذهبي- ج6 / ص435، حلية الأولياء ج3 / ص133 وغيرهم كثير.

12- سورة الزمر / 42.

13- كتاب الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص123، مقتل الخوارزمي ج2 / ص52، اللهوف في قتلى الطفوف -ابن طاووس- ص95، بحار الأنوار -المجلسي- ج45 / ص117.

14- كتاب الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص132، مقتل الخوازمي ج2 / ص69، بحار الأنوار -المجلسي- ج45 / ص137، اللهوف في قتلى الطفوف -ابن طاووس- ص109، شرح إحقاق الحق -المرعشي- ج12 / ص127.

15- سورة البقرة / 86.

16- كتاب الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5 / ص132، بحار الأنوار -المجلسي- ج45 / ص136، العوالم -البحراني- ص436.