المراد من الغواية في قوله: ﴿وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

إذا لاحظنا هذه الآية: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾(1) مع قوله تعالى: ﴿وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾(2) وآيات الوسوسة نخلص إلى نتيجة وهي أنَّ آدم(ع) ليس من المخلَصين وأنَّ للشيطان عليه سبيل، فكيف يجتمع هذا مع نبوَّته (عليه السلام)؟

 

الجواب:

يتبين من ملاحظة سياق الآية المباركة أنَّ المراد من الغواية هي الغواية المستوجبة لاستحقاق العذاب في الآخرة، فبعد أنْ توعَّد ابليسُ عباد الله تعالى بالغواية والتزيين واستثنى المخلَصين منهم كان جواب الله تعالى على وعيده هو: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾(3) فبقرينة الجواب يُعلم أنَّ الغواية التي أرادها ابليس من قوله: ﴿وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ هي الغواية الموصلة لذات المصير الذي تحتَّم أنْ يصير إليه ابليس بسوء اختياره وإلا لو كانت الغواية شاملة لما دون ذلك لما صحَّ أنْ يتوعَّد اللهُ تعالى الواقعين في غواية إبليس بالجحيم.

 

فقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ قرينةٌ بيِّنة على أنَّ مراد ابليس من الإغواء الذي توعَّد به الإنسان في هذه الآية هو الإغواء الموجب لاستحقاق الجحيم، فهو الغاية التي عقد الشيطانُ العزم على إيقاع الإنسان فيها، وعليه فكلُّ من لم يتمكَّن الشيطانُ من إيصاله إلى هذه الغاية فهو ممَّن أفلتَ من حبائله وإنْ مسًّه طائفٌ منه لكنَّه حيث لم يصل به إلى غايته المنشودة وهي الاستحقاق للجحيم، لذلك فهو ليس من الغاوين.

 

ويؤكدُ ذلك ما أفاده القرآن المجيد من أنَّ المؤمنين قد يصيبهم طائفٌ من الشيطان فيقعون في المعصية ولكنَّ ذلك لا يُخرجهم عن حيِّز المؤمنين ولا يصيِّرهم في زمرة الغاوين، قال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾(4) فالمؤمنون بمقتضى مفاد هذه الآية قد ينالهم نزغ من الشيطان ويمسُّهم طائف منه فيقعون من ذلك في المعصية ولكنهم سرعان ما يثوبون إلى رشدهم ويؤبون إلى ربهم.

 

عصمة آدم (ع):

وأما جواب دعوى عدم ثبوب العصمة لآدم (ع) لقوله تعالى: ﴿وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ فيكفي للجواب عن هذا الإشكال ما رواه الشيخ الصدوق في العيون بسنده عن أبي الصلت الهروي قال: لمَّا جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام ) أهل المقالات من أهل الاسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر المقالات، فلم يقم أحدٌ إلا وقد ألزمه حجَّته كأنَّه أُلقم حجراً قام إليه عليُّ بن محمد بن الجهم فقال له: يابن رسول الله أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال: نعم، قال: فما تعمل في قول الله عز وجل: ﴿وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ .. فقال الرضا (عليه السلام): ويحك يا علي اتقِ الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ولا تتأول كتاب الله برأيك، فإنَّ الله عز وجل قد قال: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ وأمَّا قوله عزَّ وجل في آدم: ﴿وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ فإنَّ الله عزَّ وجل خلق آدم حجَّةً في أرضه وخليفةً في بلاده، لم يخلقه للجنَّة وكانت المعصية من آدم في الجنَّة لا في الأرض، وعصمته يجب أن يكون-في- الأرض ليتمَّ مقادير أمر الله، فلما أُهبط إلى الأرض وجُعل حجَّة وخليفةً عُصم بقوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(5).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

3 فبراير 2014م

---------------------------

1- سورة الحجر / 39-40.

2- سورة طه / 121.

3- سورة الحجر / 42.

4- سورة الأعراف / 200، 2001.

5- عيون أخبار الرضا (ع) -الصدوق- ج1 / ص170.