التحليل ينافي الغرض مِن تشريع الخمس

القرينة الثانية: إنَّ روايات التحليل المطلق تنافي الغرض من تشريع الخمس، إذ بعد ثبوت إيجاب الشارع المقدس للخمس على المسلمين فهذا معناه نشوء الوجوب عن ملاك ومصلحة واقعية ملزِمة، شأنه شأن سائر الواجبات، فما من واجب من واجبات الشريعة إلا وهو ناشئ عن مصلحة واقعية في متعلَّق الوجوب أدركها الإنسان أو لم يدركها، وما من محرَّم من محرمات الشريعة إلا وهو ناشئ عن مفسدة واقعية في متعلَّق الحرمة سواء أدركها الإنسان أو لم يدركها، ولو لم نقل أن أحكام الله ناشئة عن المصالح والمفاسد الواقعية لكان لازم ذلك الالتزام بجزافيَّة الأحكام الشرعيّة وعبثيّتها، وذلك مالا يرضاه المقنِّنون لأنفسهم فكيف نرضاه للشريعة المقدسة.

وبناءً على ذلك يكون اللازم من التحليل المطلق للخمس أحد أمرين على سبيل مانعة الخلو: فإما أن نلتزم بجزافية تشريع الخمس من أول الأمر، وذلك ما لا يمكن الالتزام به لما ذكرناه من أنَّ أحكام الله تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، أو نلتزم بأنَّ تشريع الخمس نشأ عن ملاك ومصلحة واقعية ملزمة ورغم ذلك أهملت الشريعة تلك المصلحة المُلزِمة وأسقطت الوجوب، وذلك ما لا يمكن الالتزام به أيضاً، إذ مع افتراض اشتمال الخمس على المصلحة المُلزِمة كيف يسوغ إسقاط الوجوب عنه، إنَّ إسقاط الوجوب بعد افتراض بقاء المصلحة الملزمة مضاف إلى اقتضائه تفويت المصلحة على العباد يكون مِن الإجراء الجزافي غير المستند إلى مبرِّر عقلائي.

وبما ذكرناه يتأكد رجحان روايات وجوب الخمس وسقوط الحجيَّة عن إطلاق روايات التحليل المطلق وتعيُّن إرادة التحليل بالمقدار الذي أفادته الطوائف الثلاث.

وبتعبير آخر: إنَّ هذه القرينة تسلب الظهور الجدِّي عن إطلاق روايات التحليل المطلق، وحينئذ تصبح مجملة، إذ أن الإجمال قد ينشأ من نفس الخطاب، وقد ينشأ من القرائن الخارجية المحتفَّة به، وإذا كانت روايات التحليل مجملة بسبب القرينة المذكورة وغيرها سقطت عن الحجيَّة، إذ لا حجيَّة للروايات المجملة، نعم لو وُجِد ما يصلح لتفسيرها بما لا ينافي مقتضى القرينة التي أوجبت إجمالها تعيَّن اعتماده، وبذلك يتعين تفسير روايات التحليل المطلق بالطوائف الثلاث لصلاحيتها عرفاً للتفسير نظراً لكون العلاقة بينها وبين روايات التحليل المطلق هي علاقة الإطلاق والتقييد، وذلك يقتضي عرفاً كما ذكرنا حمل الإطلاق على إرادة التقييد وأنَّ الظهور في الإطلاق لم يكن مراداً جدَّياً للمتكلم من أوّل الأمر.

مناشئ استبعاد تحليل الخمس

القرينة الثالثة: هي استبعاد صدور التحليل المطلق عن أهل البيت (عليهم السلام)، ومنشأ الاستبعاد مجموعة أمور:

الأمر الأول: إنّ أحد ملاكات جعل الوجوب للخمس هو تعويض فقراء أقرباء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الزكاة التي حُرِّمت عليهم بإجماع الشيعة وبمقتضى الروايات المتكاثرة والصحيحة الواردة من طريق الشيعة والسنة كما ذكرنا بعضاً منها فيما تقدّم، فإذا كانت الزكاة محرَّمة عليهم كما أثبتنا ذلك كانت النتيجة هي عدم تشريع مورد يعتمده فقراء آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لسدِّ حاجاتهم، وذلك مستبعد جداً لأن مقتضاه عدم رعاية الشريعة لهم واعتبارهم أسوأ حالاً مِن كلِّ أصناف الفقراء الذين أمَّن الشارع حاجاتهم بتشريع الزكاة لهم حتّى أنَّه فرض للعبيد سهماً من الزكاة بقوله: (وفي الرقاب) وذلك لا يناسب حكمة التشريع ولا عدالته كما لا يناسب الملاك من تحريم الزكاة عليهم، وهو إكرامهم وتنزيههم عن أوساخ الناس كما نقلنا ذلك عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواه البخاري في صحيحه.

وإذا قلت إنَّ الزكاة مباحة لأقرباء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بنظر بعض علماء السنَّة، قلنا إننا نتحدث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الملتزمين بحرمة الزكاة على أقرباء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف يصح الالتزام بذلك وفي ذات الوقت يتمُّ الالتزام مِن قِبلهم بحرمان أقرباء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من الخمس الذي هو نتيجة تحليله المطلق للشيعة.

فلأنَّه لا يُنتظر مِن غير الشيعة الالتزام بإخراج الخمس نظراً لعدم وجوبه في غير غنائم الحرب، لذلك كان التحليل المطلق للشيعة يساوق حرمان أقرباء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن الخمس.

وإنَّ ذلك هو ما يبعِّد إرادة الإطلاق من روايات التحليل.

الأمر الثاني: الذي ينشأ عنه الاستبعاد أن الخمس ليس حقاً شخصياً للإمام (عليه السلام) حتى يسوغ إسقاطه وإنما هو حق له باعتبار منصبه الإلهي وهو الإمامة والتي تقتضي أن يكون له مورد مالي يستعين به على إدارة منصبه الذي هو أخطر المناصب بعد الرسالة، فهو بطبيعته يفتقر إلى مورد مالي ثابت كما هو المتعارف في النظم العقلائية، إذ لا يستقيم نظام دون مورد مالىّ ثابت خصوصاً إذا تم الالتفات إلى أن الموارد الأخرى كالخراج والفي والأنفال والزكاة قد تمَّت الهيمنة عليها من قبل الولاة الظاهريين.

فإسقاط الخمس عمَّن هو ملتزم به أعني الشيعي مناف للحكمة التي من أجلها تم تشريعه وتفويتٌ للمورد الوحيد الذي قد يساهم في إحقاق الحق.

هذا فيما يتصل بالأسهم الثلاثة الأولى، وأما الأسهم الثلاثة الأخرى فهي حق للفقراء من أقرباء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن غير المناسب التفويت لحقهم خصوصاً مع عدم جعل مورد آخر لهم يعوِّضهم عما تم تفويته منهم.

والإمام المعصوم (عليه السلام) وإنْ كانت له الولاية المطلقة على الأسهم الثلاثة الأخرى إلا أن الولاية تقتضي الرعاية للحق لا أنها تقتضي التضييع له فهذا مبرِّر آخر لاستبعاد إرادة الإطلاق من روايات التحليل.

الأمر الثالث: الذي ينشأ عنه الاستبعاد هو أن الولاة العدول لا يُسقطون الحقوق التي على بعض رعاياهم لغرض التخفيف عليهم إذا كان ذلك الإسقاط موجباً لوقوع آخرين من رعاياهم في الحرج والضيق، فإذا كان ذلك هو شأن الولاة العدول فكيف نرضى لأئمَّتنا (عليهم السلام) ذلك خصوصاً إذا ما التفتنا إلى أنَّ المُفترض هو قدرة مَن عليهم الحق على أدائه واحتياج من لهم الحق إليه.

إنَّ ذلك مبعِّد ثالث لإرادة الإطلاق من روايات التحليل.

روايات وجوب الخمس متواترة

القرينة الرابعة: على رجحان روايات وجوب إخراج الخمس هو أنها أكثر عدداً من روايات التحليل، فقد أحصيتُ ما ورد في كتاب وسائل الشيعة فقط من روايات وجوب إخراج الخمس فوجدتها تربو على الخمسين رواية تم التعبير فيها بمثل يُخرج الخمس، وجب فيه الخمس، عليه الخمس أدِّ الخمس، فيه الخمس، وما هو قريب من هذه العبائر، وهي موزَّعة على أبواب ما يجب فيه الخمس من غنائم الحرب والكنز والمال الحرام المختلط بالحلال والمعادن وأرباح المكاسب والتجارات والصناعات وما يفضل عن المؤنة والأرض التي اشتراها الذمي من المسلم وما يُستخرج من البحر بالغوص من لؤلؤ وياقوت وزبرجد، هذا بالإضافة إلى ما ورد في أبواب الأنفال، فإذا ضممنا إلى هذه الروايات ما ورد في الوسائل من كيفية تقسيم الخمس على مستحقيه والتي ظاهرها المفروغية عن وجوب إخراج الخمس كان حاصل هذه الروايات يربو على السبعين رواية، ورد الكثير منها بطرق متعددة، هذا بقطع النظر عن الروايات الكثيرة الواردة في المجاميع الروائية الأخرى.

وأمَّا روايات التحليل فقد عرفت أنَّها على طوائف ومجموعها لا يتجاوز الثلاث والعشرين رواية في الوسائل، وما يمكن الاستدلال به على التحليل المطلق بقطع النظر عن السند لا يتجاوز السبع روايات، وما بقي من روايات التحليل لا يدل على التحليل المطلق وإنما هو التحليل في خصوص ما بيَّناه في الطوائف الثلاث.

على أنَّ ثمة روايات صريحة في نفي التحليل نذكر منها ثلاث روايات:

الأولى: ما رواه الكليني في الكافي بسنده إلى محمد بن زيد الطبري قال: كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا (عليه السلام) يسأله الإذن في الخمس فكتب (عليه السلام) إليه: بسم الله الرحمن الرحيم إنَّ الله واسع كريم ضَمِن على العمل الثواب وعلى الضيق الهم، لا يحلُّ مال إلا من وجه أحلَّه الله، إنَّ الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالاتنا وعلى موالينا وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته، فلا تزووه عنا، ولا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه، فإنّ إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم وما تمهِّدون لأنفسكم ليوم فاقتكم، والمسلم من يفي لله ما عهد إليه، وليس المسلم من أجاب باللسان وخالف بالقلب، والسلام "(1).

الثانية: ما رواه الكليني في الكافي بسنده إلى محمد بن يزيد قال: قدم قوم من خراسان على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فسألوه أن يجعلهم في حلّ من الخمس فقال (عليه السلام): "ما أمحل هذا لا نجعل، لا نجعل، لا نجعل، لا نجعل لأحد منكم في حل ".

روى هذه الرواية بطريق آخر الشيخ الطوسي في التهذيب والاستبصار كما روُيت في المقنعة(2).

الثالثة: ما رواه الشيخ الصدوق في إكمال الدين بسنده إلى أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي قال: كان فيما ورد علىَّ من الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري قدس الله روحه في جواب مسائلي إلى صاحب الدار (عليه السلام): وأما ما سألت عنه من أمر من استحلَّ ما في يده من أموالنا ويتصرَّف فيه تصرُّفه في ماله من غير أمرنا فمن فعل ذلك فهو ملعون ونحن خصماؤه، فقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المستحل من عترتي ما حرَّم اللَّه ملعون على لساني ولسان كل نبي مجاب "(3).

وثمّة روايات أخرى أعرضنا عن نقلها خشية الإطالة وهي متفرقة في كتاب الخمس، وكتاب الأنفال من الوسائل، وإنْ شئت فراجع الباب الرابع من أبواب الأنفال فقد اشتمل على بعض من هذه الروايات.

وبمجموع ما ذكرناه يتجلَّى للقارئ الكريم زيف شبهة التحليل.

مقتبس من كتاب "الخمس فريضة إلهية - شبهات وردود"

لسماحة الشيخ محمد صنقور


1- وسائل الشيعة باب 3 مِن أبواب الأنفال ج2.

2- وسائل الشيعة باب 3 مِن أبواب الأنفال ج3، المقدّمة: 46.

3- وسائل الشيعة باب 3 مِن أبواب الأنفال ح7.