حديث حول المضائف في البحرين
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد -اللهم صل على محمد وآل محمد- وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.
عشقُ الحسين يُفضي إلى الإلتزام بقيَم الدين:
نقترب هذه الأيام من ذكرى موسم عاشوراء، عاشوراء الحسين، عاشوراء القيم والمُثُل، عاشوراء الإباء والتضحية، وهو من أخصب المواسم لو أحسنا استثماره وتوظيفه، فلا ينبغي للمؤمن المحبِّ لأهل البيت (عليهم السلام) أن يمرَّ عليه مثل هذا الموسم الشريف فلا يخرج منه بغير ما دخل فيه، فينبغي للمؤمن أن يعقد العزم قبل الدخول في هذا الموسم الشريف أن يخرج منه بمزيدٍ من وثاقة العلاقة بينه وبين الحسين (ع) فإذا كانت ثمة علاقة وطيدة كما هي كذلك مع الحسين (عليه السلام) فليكن حرص المؤمن أن تزداد علاقته بالحسين توثقاً وارتباطاً، فسرُّ الإلتزام بفرائض الله وسرُّ الإلتزام بقيم الدين وتعاليمه هو الارتباط بالحسين (ع) لأنَّ الحسين هو مثال الدين، فمتى ما عشق المؤمن الحسين (ع) عشقاً حقيقياً فإنَّ ذلك يُفضي به إلى أن يكون التزامه بالدين التزاماً تاماً أو شبه تام، ما نود أن نتحدث عنه في هذه الجلسة هو الإشارة إلى عددٍ من الملاحظات لغرض التذكير وإلا فقد تم الحديث عن مثلها في جلساتٍ سابقة:
الملاحظة الأولى: التي أودُّ أن أتحدث عنها بنحو موجز ترتبط بكيفية التعاطي مع هذا الموسم، فالكثير منَّا لا يفكر في هذا الشأن، ولا يتأمله فيصادفه موسم عاشوراء كما يتعاقب عليه الليلُ والنهار، فيرى نفسه وقد أصبح في هذا الظرف الزماني ويتعاطى معه على أساس أنَّه أيام جرت العادة فيها أنْ يذكر فيها الحسين(ع) وتُذكر فيها تعزية الحسين (ع) ثم تمضي هذه الأيام ويمضي أثرُ هذه التعزية من النفس، هذا بخسٌ للنفس قبل أنْ يكون بخساً للحسين (ع)، فلا ينبغي للمؤمن أن يكون على هذه الحال. التعاطي مع موسم عاشوراء على المستوى الشخصي هو أن أُعدَّ نفسي لهذا الموسم إعداداً روحياً وإعداداً فكرياً وإعداداً ثقافياً، وذلك من خلال العمل على كلِّ وسيلة تُساهم في ذلك، وقد تحدثنا عن ذلك فيما سبق، ولذلك نكتفي بهذا المقدار بالنسبة لهذه الملاحظة.
ظاهرةُ المضائف استُنسخت من العراق:
الملاحظة الثانية: هي أنَّ ثمة عدداً من الظواهر تقع في موسم عاشوراء ينبغي إما إلغاؤها أو تهذيبها، فمن ذلك ظاهرةٌ لم تكن في البحرين أصلاً ثم استُنسخت من العراق ولم تلبث حتى انتشرت انتشاراً واسعاً ملفتاً على غير مبرِّرٍ معقول يمكن تفهُّمه، هذه الظاهرة هي ظاهرة نصب المضائف في القرى، هذه ظاهرة لم تكن موجودة أصلاً، كانت هناك مآتم ولا زالت يُقام فيها العزاء على الحسين(ع) ثم بعد أن تنتهي التعزية يتصدَّى القائمون على هذه المآتم إلى تقديم بعض الوجبات للروَّاد المساهمين في التعزية. وإذا كان ثمة موكبٌ قد خرج فحين يعود يقومون بتقديم بعض الوجبات للمعزِّيين. هذا هو ما كان سائداً في قرى البحرين.
وأما اليوم فقد اختلف الحال، وانتشرت مواقع يُعبر عنها بالمضائف في عموم قرى البحرين، وبنحوٍ مُبالَغٍ فيه ولا يمكن تبريره حتى أنَّك لو ادَّعيت أنَّ في ما بين كلِّ خمسين متراً هناك مضيفٌ لما كنت مخطئاً.
وجود المضائف في العراق مبرَّر:
المضائف كما قلنا ظاهرة استُنسخت من العراق، ووجود المضائف في مثل العراق مبررٌ عقلائياً، فكما هو معلوم إنَّ المآتم في العراق وكذلك في إيران ليست هي بعدد المآتم في البحرين إذا ما قسنا ذلك إلى التفاوت الهائل في العدد واتَّساع المدن. فتجد في المدينة الكبيرة كمدينة قم المقدسة لو احصيت جميع المآتم فيها فلن يتجاوز الخمسة أو العشرة -ولا أذكر أن فيها عشرة مآتم- ومدينة قم بحجم البحرين من حيث المساحة، وأما من حيث العدد فهي تفوق عدد سكان البحرين فيحتاجون إلى عقد مواقع يتمُّ فيها التعزية وليست مآتم ويُعبِّرون عنها بالتكيات، فقد يُفرِّغ أحدُ المؤمنين دكانه ويُفرِّغ جاره دكانه من البضائع ويُهيئون ذلك المكان ثم يعقدون فيه مجلس العزاء مدة الموسم ثم يعود الدكان إلى ما كان عليه بعد الموسم، هذا ما يقع في مثل قم المقدسة.
كذلك في العراق فإنَّ عدد المآتم بالمقارنة إلى حجم وعدد الشيعة محدود، وهذا ما يُبرر وضع المضائف. وثمة مبررٌ آخر لوضع المضائف في العراق هو أنَّ الآلاف من الناس يمشون إلى قبر الحسين (عليه السلام) مسافة طويلة يقطعون فيها عشرات الكيلومترات بل مئات الكيلومترات حتى يصلوا إلى كربلاء، فهم يحتاجون إلى أن يُنصب لهم بين كلِّ مسافةٍ مضيفاً يستريح فيه الناس ويتناولون شيئاً من الطعام أو الشراب، لذلك تجدون المضائف في العراق كثيرة ومنتشرة. فالمبرِّر لوجود المضائف في العراق موجود، على انَّ المآتم في مثل النجف وكربلاء غير قادرة على استيعاب العدد الهائل من الزوار في مثل موسمي عاشوراء والأربعين.
وجود المضائف في البحرين غير مبرَّر عقلائياً:
وأما في البحرين فما هو المبرِّر لوجود المضائف؟! وبهذا الحجم الملفت؟! وبهذا العدد اللافت؟! فكلُّ المنتفعين من هذه المضائف هم من أهل نفس القرية، وإذا اتفق وجود مَن هم من غير أبناء تلك القرية فلهم في تلك القرية أقرباء وأصدقاء، فهم لا يحتاجون أصلاً إلى طعامٍ ولا إلى شراب أكثر مما تُقدمه المآتم، إذن لماذا المضيف؟! المضيف إنَّما يُوضع لكي يقصده الغرباء عن البلدة الذين لا يجدون مكاناً يسكنون فيه أو يستريحون، أو يتناولون فيه شيئاً من طعامٍ وشراب، لمثل هذا الغرض تُعقد المضائف ويكون وجودها مبرَّراً.
أما في البحرين فلماذا المضائف؟!
لا يوجد مبرِّر عقلائي يقتضي نصب هذا العدد الكبير من المضائف في كلِّ قرية من قرى البحرين، ولو أنَّ وجود المضائف غير مبرَّر لكنَّه غير ضارٍّ لهان الأمر، وسنقول هذا عمل ليس له فائدة ولكن ليس فيه مضرَّة فسنقبل ونسكت إلا أنَّ الأمر ليس كذلك، فانتشار المضائف في القرى علاوةً على أنَّه لا جدوى منه ولا مبرِّر لوجوده، فثمة عددٌ من المحاذير والآثار السيئة تترتب على وجودها. والجميع يُدرك هذه المحاذير وهذه الآثار السيئة المترتِّبة على وجود المضائف ولكن الناس تعوَّدوا على السكوت وعدم الجرأة على معالجة أي طارئٍ اجتماعي يحدث، لأنَّنا لا نستشعر المسؤولية واقعاً تجاه مجتمعنا، فلو أخطأ أحد أبنائي أو رأيتُه قد طرأ عليه بعض السلوك غير الصحيح فإنِّي أبادر لتقويم سلوكه. لماذا؟ لأنِّي استشعر المسؤولية تجاه ولدي فابذلُ كلَّ جهدي من أجل تقويم ما أعوجَّ من سلوكه. وأما إذا وقع خطأٌ قد يضرُّ بالمجتمع فلا أرى نفسي مسئولاً عن معالجة هذا الخطأ أو المساهمة في معالجته، فاسكتُ رغم أنِّي متبرِّمٌ وغير راضٍ، وهذا هو واقعنا. فالمجتمع في واقعنا الذي لا يمثل بمجموعه سلطة قادرة على معالجة ما يطرأ من أخطاء في الوسط الإجتماعي، ولهذا فمثل هذا المجتمع محكومٌ عليه بالتفكك وعدم القدرة على الاستمرار كقوةٍ قادرة على التكامل. وهذا للأسف هو ما وقعنا فيه، فالكثير من الظواهر تبرز في المجتمع على غير رضىً من الكثير من أبناء المجتمع ثم تنتشر ثم تستفحل وتتجذَّر ولا نجد بعد ذلك طريقاً لمعالجتها، لأنَّه حين كانت هذه الظاهرة في أول ظهورها لم نُبادر لمعالجتها ولم نكترث بوجودها. ومسألة المضائف واحدٌ منها.
على أيِّ حالٍ نعود لأصل الفكرة وهي أنَّ المضائف لو كان وجودها غير مُبرَّرٍ ولكنَّه غير ضار لهان الأمر إلا انَّ واقع الحال ليس كذلك، فهي مضافاً إلى كونها غير مُبرَّرةٍ عقلائيَّاً فإنَّه يترتب عليها عددٌ من المحاذير والآفات الاجتماعية، سأُشير إلى بعضها رغم انَّكم تجدونها ماثلةً أمامكم في كلِّ وقت ولكنِّي أذكرها لبلورتها:
المضائف تتسبَّب في إحراج النساء:
من الآفات المترتِّبة عن وجود المضائف بهذا العدد وهذا الكم الملفت والمبالغ فيه -حتى انَّك لا تجد طريقاً إلا وفيه مضيف أو مضيفان أو ثلاثة أو أربعة- هو انَّه يكون مركزاً يجتمع فيه ثلَّة ليست قليلة من الشباب يتضاحكون ويتحادثون، وهم متفاوتون من حيث الانضباط: فبعضهم منضبط، وبعضهم متوسط الانضباط، وبعضهم قليل الانضباط وقد يتَّفق فيهم مَن هو عديم الانضباط، وحيث انَّ المضائف والأعداد التي تجتمع حولها ليست بالقليلة، وهي واقعةٌ على قوارع الطريق التي يكثر فيها المارة، فأولُمن يستشعر الحرج الشديد من وجود هذه المضائف هم النساء، فأنتم تعلمون انَّ موسم عاشوراء يكون الناس في حالة استنفار: فالصغير والكبير والمرأة والرجل والشيخ الكبير كلهم يخرجون ويمرُّون من هذه الطرق للوصول إلى مواضع التعزية، ويكون ذلك في تمام الأوقات تقريباً في الصباح وفي الظيهرة وفي العصر وفي أول الليل وفي وسطه بل وحتى في آخره فكلُّ هذه الأوقات هي من أوقات التعزية، وفي كلِّ هذه الأوقات يمرُّ النساء من هذه الطرق يقصدنَ مجالس التعزية فيشعرن بالحرج الشديد نتيجة وجود هذه الأعداد من الشباب المجتمعة عند هذه المضائف، هذه هي إحدى الآفات التي نعاني منها والناشئة عن وجود هذه الأعداد من المضائف.
وقوف النساء عند المضائف أو استيقافهم!!
من الآفات الناشئة عن وجود هذه المضائف هي إنَّ روَّاد هذه المضائف -كما قلنا- ليسوا على مستوىً واحد من الوعي والانضباط لذلك نجد بعضهم يتصدَّى لتوزيع المأكولات على كلِّ مَن يمرُّ من طريق المضيف بما فيهم النساء، فتجد بعض الشاب وبذريعة التوزيع على حبِّ الحسين(ع) يستوقف المرأة ويُقدِّم لها الطعام تحت شعار البركة، وقد يتصدَّى بعضُهم للوقوف في وسط الطريق ويستوقف السيارات حتى التي يقودها النساء فيستوقف المرأة ويطلب منها فتح النافذة ويُناولها الطعام، وقد يتبادل معها حديثا قصيراً ويبدأها بالتحية ويبتسم إليها وقد تبتسم إليه بعفوية، أليس هذا هو ما يقع؟! وكيف نرضى بذلك؟! وكيف ترضى المرأةُ لنفسها أنْ تفتح نافذة السيارة وتقبل هذا الطعام من شابٍّ لا تعرفه؟! وكيف تُبادله الحديث والشكر والابتسامة والتعزية؟! هل ترون هذا السلوك لائقاً بالمرأة المؤمنة الملتزمة بوقار الحسين وحشمة بنات الحسين (ع)؟! وهل يليق هذا السلوك بالمؤمن الوقور المُلتزم بخطِّ الحسين (عليه السلام).
اللغو واللغط والضحك في المضائف:
ومن الآفات الناشئة عن وجود المضائف هي نفس تجمُّع الشباب في المكان الخطأ وتكاثرهم حوله، وهم حين يجتمعون يكثر اللغط واللغو وكثيراً ما يتضاحكون، وقد يتشاتمون ويتسابُّون، فتجد تلك المواقع في حالة هرجٍ ومرج، ومعنى ذلك انَّك تجد في الطريق الواحد المتكوِّن من مائتي متر فيه خمسةُ مضيفات أو أربعة أو ثلاثة، وعند كلِّ مضيف تجد هذا المشهد المنافي لوقار هذا الموسم الشريف وأجواء الحزن الذي ينبغي أن يصطبغ به، فعند كلِّ نقطة والتي قد تصل إلى الخمس في طريقٍ قصير تجد أعداداً من الشباب مجتمعين لا يشغلهم إلا اللغو والعبث والضحك والجدل. لماذا يقع ذلك!! وهل لمثل هذا نُحيي هذا الموسم الشريف؟!! وهل ضحَّى أسلافنا من أجل إحياء هذا الموسم لينتهي إلى هذه الطريقة المزرية؟!
الضجيج الذي تُحدثه المضائف:
ومما يقع في كلِّ مضيف تقريباً هو انَّه يتمُّ فيه تشغيل ستيريو ضخم تضج من علو صوته المنطقة تحت شعار "على حبِّ الحسين" يملؤون القرية ضجيجاً، وذلك لوجود المضائف في كلِّ ناحية، وفي كلٍّ منها مثل هذه الأصوات العالية، فلو كانت المضيفات قليلةً ومحدودة لأمكن غضَّ الطرفِ عنها أما والمنطقة كلُّها ملئى بالمضيفات وفي كلٍّ منها ضجيج يمتدُّ لتمام الوقت فهذا أمر يشقُّ على الناس تحمُّله إلا على مضض والخشية من الإستنكار.
صرف المضائف الشباب عن مجالس العزاء:
ومن الآفات المترتِّبة عن إنشاء هذه المضائف هو تجحيف مجالس العزاء أو المساهمة في تقليل الحضور إليها، فالشابُّ حين يجد موقعاً يكثر فيه الأكل ويجدُ مكاناً للحديث والسمر ويتمكن فيه من استعمال هاتفه دون تقيُّد فإنَّه سوف يُفضِّله على الحضور للمأتم الذي يفرض عليه التقيُّد بعددٍ من الآداب والإلتزامات، فيرى نفسه مُلزماً بالصمت والجلوس محتشماً حين يبدأ الخطيب وعليه أن يلتزم بالأعراف الخاصة حين يكون في المأتم أو الموكب، وقد لا يروق له ذلك، وحتى يعتبر نفسه مشاركاً في إحياء الموسم ولا يلوم نفسه باهمال الإحياء ينصرف إلى هذه المضائف فيرى نفسه مشاركاً في إحياء الموسم، فثمة عزاء يضجُّ منه الموقع وهو في مضيفٍ أُنشأ على حبِّ الحسين(ع) فلا غضاضة في عدم الحضور لمجالس العزاء!! لذلك تجد الكثير من الشباب منصرفين عن المشاركة في مجالس التعزية، والحال انَّ الحاجة ماسةٌ لحضور أمثال هؤلاء الشباب، فالكثير منهم لا يحضر للمأتم طيلة السنة ولم يكن يحضر إلا في موسم عاشوراء فلماذا نتسبَّب في صرفه عن الحضور والحال انَّه في أمسِّ الحاجة إلى أن يسمع موعظة تربطه أكثر بدينه وهو بحاجة إلى أن يتفاعل أكثر مع نهضة الحسين(ع) لعلَّ ذلك يُساهم في ربطه أكثر بأخلاق الحسين(ع) وأهدافه وقيمه. فالمخلصون يبذلون جهوداً مضنية لغرض تشجيع الشباب على حضور المآتم ويتوسَّلون بعدد من الوسائل التي تُساهم في اجتذاب الأولاد والشباب للمآتم، وهذه المضائف تُساهم في صرفهم عن الحضور للمآتم ومجالس التعزية، وهذا خطأ نتحمَّل جمعياً تبعاته.
ارتياد النساء للمضايف منافٍ لقيم الحسين (ع):
ومن الآفات التي نجنيها من المضائف هي انَّ ارتياد هذه المضائف لتناول الطعام والشراب منه لا يقتصر على الأولاد والشباب أو الرجال بل يرتادها النساء والبنات والصغيرات فيتسابقن من أجل الحصول على بعض الوجبات خصوصاً إنَّ بعض المضائف تُقدِّم وجبات مميزة، فهم يتنوَّقون في اختيار الأطعمة التي تجتذب الروَّاد، لذلك تجد بعض النساء والبنات الصغيرات يقصدن هذه المضائف للحصول على شيء من تللك الأطعمة، وبعضهنَّ لا يلتزمن الحشمة فتقف على المضيف في محضر الرجال وقد تتبادل الحديث الجانبي والتبسُّم مع بعض القائمين أو الرواد للمضيف، فالمشاهد التي يتفق كثيراً وقوعها تبعث على التقزُّز والأسى، كيف تحوَّل هذا الموسم الشريف والمقدَّس إلى هذا الواقع المُزري؟!! نساء وبنات يقفن قريباً من شبابٍ قلنا انَّهم يتفاوتون في مستوى التديُّن والإنضباط في السلوك!!!.
التوزيع أثناء سير الموكب يسلبُه وقاره وهيبته:
ومن الآفات الناجمة عن هذه المضائف هو التسبُّب والمساهمة في تمييع المواكب الحسينية وإفراغها من مضمونها وهيبتها، فموكب الحسين(ع) ينبغي أن يكون عليه جلال الحسين وهيبة الحسين (عليه السلام)، إلا انَّ الأمر لم يعُد كذلك، فتلاحظون انَّ أصحاب المضائف حين يمرُّ الموكب الحسيني يقومون بتوزيع المأكولات والعصائر على المعزِّين، وكثيراً ما يدخلون إلى وسط الموكب للتوزيع، وهذا ما يُفقد الموكب هيبته ويسلب منه سمة الحزن الذي ينبغي أن يصطبغَ به ويشغل المعزين عن العزاء، فلا يستقيمُ عزاء واطعام خصوصاً مع تنوُّع الأطعمة وتنوُّقها: المشويات والمقليَّات والمعجنات والعصائر!!، فهل مثل هذا المشهد يستبقي وجوداً للحزن أو يبقي للوقارِ من أثر؟! وهل سيظلُّ المعزُّون في عزائهم وهم يتناولون معلبات الطعام والعصائر، فالنبيُّ (ص)على عظمته وجلالة قدره في نفوس المسلمين لكنَّهم حينما قُرعت طبول القافلة وهو قائمٌ يخطب في الجمعة انصرف عنه أكثرهم إلى تلك القافلة وتركوه قائماً يخطب كما قال تعالى يصف حالهم: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ﴾(1) تركوا النبيَّ الكريم (ص) قائماً يخطب وانصرفوا للتجارة واللهو، هذا هو طبعُ الناس، فحين يقوم أصحاب المضائف بتوزيع المشويَّات والمعجنات على المعزِّين أثناء سير الموكب فهل تنتظر منهم حينذاك الإعراض وعدم الإشتغال بالأكل؟! وعندئذٍ تُصبح هيبةُ الموكب ووقاره في مهبِّ الريح أليس هذا هو الواقع؟! فأين إذن الحرص على هيبة الموكب ووقاره؟!
نحن أيُّها الإخوة مسؤولون عن المحافظة على جلال الموكب وهيبته حتى يتهيأ له الإيصال لرسالته، ومثل هذه المظاهر يجب أن تتوقف وإلا فاقبلوا بصيرورة الموكب مهرجاناً شعبياً ليس له من تأثير سوى الترويح عن النفس.
أيُّها الإخوة الأعزاء فكِّروا فيما هو مبرِّر التوزيع للطعام أثناء سير الموكب، هل الناس بحاجة للطعام والعصائر؟! فمسير الموكب لا يستغرق أكثر من ساعة أو ساعتين في أقصى الأحوال، ولم يشارك الناس في الموكب إلا بعد تناولهم لوجبةٍ أو وجبتين فهل هضمت بطونهم ذلك الطعام حتى يحتاجون إلى غيره ولا يسعهم الصبر إلى أن ينتهي سير الموكب؟!! فلماذا الطعام إذن في الموكب؟!! هل الناس مهووسةٌ بالأكل إلى هذا الحد؟!! وهل موسم عاشوراء أُقيم لذلك؟!! إذن لماذا نصبغ موسم عاشوراء بهذا اللون الباهت؟! ولماذا نغرس في أذهان الناس هذه الثقافة لماذا نغرس في أذهانهم انَّ موسم عاشوراء يُساوق البذل الكثير والمجاني للطعام؟!، لماذا لا نتعقَّل فيكون صرفنا وبذلنا خاضعا للموازين العقلائية؟!!
أيُّها الإخوة إنَّ الذي نُمارسه منافٍ للرشد والتعقُّل، والأدهى من ذلك هو الإسراف المنافي لضوابط الشرع الحنيف، فالأمر يحتاج إلى الوقوف الجاد والمتأني، لأنَّه سيتداعى إلى ما هو أسوأ إذا لم نعمل جادِّين على ترشيد هذا الواقع.
ليس من الرشد صرف هذا المقدار على الطعام:
علاوةً على كلِّ ذلك -أيُّها الأخوة الأعزاء- لو سألتم أصحاب المضائف عن مقدار الأموال المبذولة، وقد سألتُ بعضهم فكانت الأرقام مذهلة في عموم القرى، فأحدهم في احدى القرى يقول انَّ مضيفه متواضع فلا يصرف في الموسم سوى ثلاثة آلاف وخمسمائة دينار وأما غيره فيصل صرفه إلى السبعة آلاف دينار وأكثر، هذه المبالغ متوقعة بالنظر إلى حجم وتنوُّع ما تقدمه المضائف من الأطعمة. من أين هذه الأموال؟ الجواب هي من عند الناس فهم يبذلون على حبِّ الحسين (ع).
هل البذل في ذلك وبهذا المقدار يُعدُّ من الرشد؟! ثمة من لا يتمكَّن من تسديد أُجرة شقته التي قد لا تتجاوز المائة دينار وهو من شيعة الحسين ونصرف في مضيفٍ واحد عشرات الدنانير في ساعةٍ واحدة دون أن يكون لهذا الصرف حاجة، فالناس متخمة بالأطعمة التي تُقدِّمها المآتم، أليس من المناسب التصدِّي -بدلاً من الجمع لشراء الطعام- للجمع لتغطية اجرة شقة عائلة أو عائلتين لسنةٍ كاملة أو الجمع لتزويج أعزب أو تعليم شابٍ فقير أليس هذا هو ما يرضي الحسين (ع) أليس هذا هو المناسب لقيم الحسين (ع) لماذا التوهُّم انَّ ما يُرضي الحسين هو بذل الطعام وحسب؟! من أين جاءت إلينا هذه الثقافة؟! هل سيجوع الناس لولم تكن مضائف ولم نجمع للمضائف؟!
لدينا أيُّها الإخوة عوائل غيرُ قادرة على تغطية حاجاتها الأساسية و غير قادرة على سداد فواتير التلفون و فواتير الكهرباء وغير قادرة على تدريس أبنائها وتزويجهم وغير قادرة على توفير ما تُعالجهم به، فنحن نعيش هذا الوضع المأزوم، فليس لنا فائض حتى نصرفه فيما لا يُجدي، فالكثير من أبناء مجتمعنا يعيشون دون الكفاف، فلماذا إذن هذا الصرف المُبالَغ فيه؟ ولماذا نُضيف على الناس عبئاً على عبئهم، يكفي أيها الإخوة ما تبذله المآتم، فنحن وإنْ كنا ندعوا إلى إطعام الطعام في هذا الموسم، إلا انَّ فيما تبذله مآتم النساء ومآتم الرجال كفاية بل ينبغي ترشيد حتى ما يتمُّ بذله في المآتم.
فهذه المبالغ التي تُجمع ينبغي صرفها على مثل عوائل المعتقلين والشهداء والمتضررين من الأحداث الراهنة، هذا ما يقتضيه الرشد وهو ما تقتضيه توصيات أهل البيت(ع) فالكثير من عوائل المعتقلين ليس لهم عائل بعد تغييب معيلُهم في السجن، فلنجمع لعوائل المعتقلين والمتضررين وللعاجزين عن تدبير رسوم الدراسة أو العلاج بدلاً من الجمع لمورد يُمكن الاستغناء عنه بما تبذله المآتم.
ويُمكن الجمع للموارد المذكورة باسم الحسين(ع) والعباس والقاسم، فليس من الضروري ان يُصرف ما يبذل باسم الحسين (ع) في الطعام وسائر شئون التعزية، فيمكن اشعار المتبرِّعين وحثّهم على البذل لغرض الصرف في مطلق ما يُرضي الحسين(ع) أو القاسم أو علي الأكبر، يجب تصحيح هذه الثقافة القائمة على انَّ البذل الجالب للثواب هو ما يُصرف للطعام أو التعزية، إذ لا ريب في ترتُّب الثواب عند بذل المال باسم القاسم مثلا ً ليُصرف في تزويج أعزب أو علاج مريض.
صيرورة الموكب وظواهر الإحياء مهرجاناً شعبياً!!
وعلى أيِّ حال فإنَّ لدينا المزيد من الإشكالات حول المضائف، لكنَّ الوقت أدركنا، ولذلك أختم الحديث بالتنبيه على انَّه إذا كان من العسير علينا إلغاء المضائف -رغم انَّ بقاءها غير مبرَّر- فإنَّ المسئولية لا تسقط بذلك فالإلغاء إذا كان عسيراً فلنسعَ للتهذيب والتقليل من الأخطاء الناجمة عن هذه الظاهرة، فلننصح مثلاً النساء والبنات بعدم الوقوف عند المضائف وننصح أصحاب المضائف بأن يخصِّصوا مضائفهم للرجال وننصحهم بعدم ايقاف السيارات لتقديم الطعام خصوصاً التي تقودها النساء. وكذلك ننصح أصحاب المضائف بعدم تحويل المضيف إلى مقهى لشرب الشاي والتدخين، وننصحهم أنْ لا يجعلوا مضيفهم أشبه بالمُنتجَع للترويح عن النفس أو أشبه بالمطبخ الجوال يتماها فيه الشباب بالقلي والشواء فليهيئوا طعامهم بعيداً عن الأجواء التي لا ينبغي أن تسود فيها هذه المشاهد والتي تخلق جوَّاً من البهجة وتُوحي بأنَّ موسم عاشوراء مهرجان شعبي، فموسم عاشوراء الذي سُفكت من أجل إحيائه دماءُ الأبرار على امتداد ما يزيد على الألف عام إنَّما كان لأجل التخليد لقضية الحسين (ع) ومن أجل أنْ يبقى الحسين(ع) بمبادئه وقيمه حاضراً في ذاكرة الأمة، وتبقى نهضته متجدِّدة وفاعلة أيليق بنا ونحن عشاق الحسين أن نُحوِّل هذا المشروع الذي قام وتجذَّر بدماء الصالحين وبُني على أشلاء الشهداء أيليق بنا أن نُحوِّله إلى مهرجانٍ شعبي؟!!
والحمد لله رب العالمين
حديث الجمعة 1-11-2013
الشيخ محمد صنقور
1- سورة الجمعة / 11.