آداب الصائم

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين ابي القاسم محمد .. وعلى آله الأخيار الأبرار الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .. اللهم اخرجنا من ظلمات الوهن وأكرمنا بنور الفهم وافتح علينا ابواب رحمتك وانشر علينا خزائن علومك ومعرفتك.

نظرا لعدم اتساع الوقت لاستعراض احكام الصوم والفروع المتصلة به نجد من المناسب أن نصرف الحديث الى بيان بعض ما ورد في آداب الصوم.

الصوم الأكمل:

ثمة آداب تتصل بالجوارح والسلوك، وثمة آداب ترتبط وتتصل بالجوانح والقلب، وينبغي للصائم أن يحرص على كلِّ ذلك؛ ليكون صومه تاماً. فالكثير من الناس يصومون، ولكنَّ منازل الصائمين متفاوتة، فمنهم من يكون صومه أكمل من الآخر؛ وذلك ليس ناشئاً من أنّ الآخر لم يلتزم بترك المفطِّرات، ولا لأنَّه لم يلتزم بالضوابط والشروط المعتبرة في صحة الصوم، فكلٌ منهما التزم بذلك، ولكنَّ أحدهما كان صومه أكمل من الآخر، وثوابه أعظم من الآخر، ومنزلته عند الله أرقى من منزلة الآخر، فما هو منشأ ذلك؟ المنشأ أيها الإخوة الأعزاء هو أنَّ أحدهما كان أكثر التزاماً من الآخر بآداب الصوم -سواءً منها الآداب المرتبطة بالجوارح، أو الآداب المعنوّية للصوم-، وسوف نستعرض مجموعة من الآداب المرتبطة بالجوارح، ثمَّ نستعرض مجموعة من الآداب المرتبطة بالقلب والجوانح.

الآداب المؤثرة في كمال الصوم:

الآداب تعني المُستحبَّات والمكروهات، فثمَّة مستحبات يحسن بالصائم أن يلتزم بها، فيكون التزامه بها من كمال الصَّوم، وثمَّة مكروهات يحسن للصائم أن يجتنبها، فيكون اجتنابها كمالاً في الصوم. ألا تسمعون أنَّ صوم هذا مجروح، وأنَّ هذا الفعل جارحٌ للصوم؟ المقصود من ذلك أنَّه جارح لكماله، جارح لتمامه، فكلّما ارتكب فعلاً مكروهاً جرح بذلك صومه.

المستحبات:

أولاً: إفطار الصائم المؤمن:

نبدأ بذكر بعض المستحبات: يستحب للصائم -مطلق الصائم- وخصوصاً الصائم في شهر رمضان، يستحب له ان يتصدَّى لتفطير صائمٍ آخر، وهذا من كمال الصوم، فحين تُفطِّر صائماً من المؤمنين، أو صائمين، أو ثلاثة، عندها يكون صومك أكثر كمالاً، وأكثر ثواباً بالقياس إلى مَن لم يُساهم في تفطير صائم، فقد ورد عن الرسول الكريم (ص): "من فطَّر فيه أي في شهر رمضان مؤمناً صائماً، كان له بذلك عند الله عتق رقبة، ومغفرة لذنوبه فيما مضى، قيل: يارسول الله، ليس كلُّنا يقدر أن يُفطِّر صائماً -فتفطير الصائم قد يُشكل عبئاً على بعضنا؛ نظراً لضعف الحال، وقلة المال- فقال (ص): "إنَّ الله كريم، يعطي هذا الثواب لمن لم يقدر إلا على مذْقةٍ من لبن يُفطِّر بها صائماً، أو شربة من ماءٍ عذب، أو تمرات لا يقدر على أكثر من ذلك"(1) فمن لم يقدر، كفاه أن يبذل تميرات لصائمٍ مؤمن -حتى لو لم يكن هذا الصائم فقيراً-. وعن أبي عبد الله، عن أبيه (ع) قال: "دخل سدير على أبي (ع) في شهر رمضان، فقال يا سدير هل تدرى أي الليالي هذه؟ قال: نعم فداك أبي، هذه ليالي شهر رمضان فما ذاك؟ فقال له: أتقدر على أن تُعتق في كلِّ ليلة من هذه الليالي عشر رقاب من ولد إسماعيل فقال له سدير: بأبي أنت وأمي لا يبلغ مالي ذاك، فما زال يُنقص حتى بلغ به رقبة واحدة، في كلِّ ذلك يقول: لا أقدر عليه، فقال له: فما تقدر على أن تُفطِّر في كلِّ ليلة رجلا مسلما؟! فقال له: بلى وعشرة، فقال له أبي فذاك الذي أردت، يا سدير، إنَّ إفطارك أخاك المسلم يعدل رقبةً من ولد إسماعيل"(2). وورد عن أبي الحسن موسى ابن جعفر (ع) قال: "فطرك أخاك الصائم أفضل من صيامك"(3). صيامك له ثواب، ولكن الثواب الذي يترتب على إفطار المؤمن إذا قيس بالثواب المترتب على الصوم المُجرَّد عن كلِّ الآداب، فإنَّ ثواب الإفطار أكثر. وورد عن أبي عبد الله (ع) قال: كان عليُّ بن الحسين (ع) إذا كان اليوم الذي يصوم فيه أمر بشاةٍ فتُذبح وتُقطَّع أعضاؤه وتطبخ، فإذا كان عند المساء أكبَّ على القدور حتى يجد ريح المرق وهو صائم، ثم يقول: هاتوا القصاع يعني الأواني، اغرفوا لآل فلان، اغرفوا لآل فلان، ثم يُؤتى بخبزٍ وتمر فيكون ذلك عشاءه"(4)، يُوزِّع على العوائل مما يطبخ، هذه هي سُنَّة أهل البيت (ع)، نحن التزمناها ونخشى أن تذهب هذه السُنَّة من بيننا، إنَّ لهذه السُنَّة أثراً بالغاً في تقويم البناء الاجتماعي مضافاً إلى أثرها الأخروي وهو الثواب الجزيل، هكذا كان يصنع أئمتنا، "اغرفوا لآل فلان، اغرفوا لآل فلان"(5). ثم أنَّه إذا وزَّع الطعام فإنه لا يأكل منه، يُؤتى إليه بخبز وتُميرات، ويكون من ذلك افطاره. وورد عن أبي عبد الله (ع) قال: "من فطَّر مؤمنًا كان كفارة لذنبه إلى قابل ومن فطَّر اثنين كان حقاً على الله أن يُدخله الجنة"(6)، وعن أبي عبد الله (ع)قال: "من فطَّر صائماً مؤمناً وكَّل الله به سبعين ملَكاً يقدِّسونه إلى مثل تلك الليلة من قابل"(7)، سنة كاملة!، يعني أن هؤلاء الملائكة يُسبِّحون الله عاماً كاملاً، ويكون ثواب تسبيحهم إليه، ويستغفرون له. والروايات في ذلك كثيرة.

ثانياً: تناول السحور:

سوف نعدد آداب الصوم دون أن نرتبها، من آداب الصوم السحور، أحدنا يتسحَّر لأنه يريدُ أن يشبع، ويريد أن يحتاط لنفسه حتى لا يجوع ولا يظمأ في النهار، وهناك مَن يتسحَّر بقصد الإستنان بسُنَّة رسول الله (ص) وقصده أن يمتثل ما ورد عن رسول الله (ص). هذا الثاني له ثواب أكثر. لذلك ورد عن النبي (ص) أنَّه قال لأبي ذر: "يا أبا ذر، إنْ استطعت أن يكون في لبسك لثيابك أجر، وفي أكلك أجر، وفي شربك أجر، وفي ممشاك أجر، وفي كلِّ حركةٍ وسكونٍ أجر إن استطعت أن تكون كذلك فافعل. كيف؟ قال: "أن تقصد من ذلك القربة من الله، والزلفى إلى الله"، عندما نقوم بفعلٍ أمر به الرسول (ص)، ونقصد بذلك الإستنان بسُنَّة رسول الله (ص)، فإنَّ لذلك الفعل حتى لو لم يكن راغباً في الطعام فليأكل وإن كان مقتضى حاجة الإنسان أن يفعل ذلك الفعل. فالسحور هو غذاء للجسد، و فيه ثواب أيضاً، ومثله النوم، فالنوم في شهر رمضان أيضا من آداب الصوم كما سيأتي.

إذن يستحب للصائم أن يتسحَّر، يقول الرسول (ص): "السحور بركة"(8)، ويقول (ص): "لا تدع أمتي السحور، ولو على حشفة"(9)، يعني التمرة اليابسة، أي حتى لو على تمرة يابسة فلا يدع السحور، وحتى لو لم يكن راغباً في الطعام فليأكل شيئاً يسيراًاستناناً بسنة الرسول (ص) فيكون بذلك مثاباً مأجورًا. عن أبي عبد الله (ع) عن أبيه (ع) قال: قال رسول الله (ص): "تسحَّروا ولو بجرع الماء، ألا صلواتُ الله على المتسحِّرين"(10). هذا من آداب الصوم، طبعا السحور في حدِّ نفسه واحدٌ من السنن، وإذا أراد المؤمن أن يستنَّ بسُنَّةٍ أخرى في السحور فيُضيف إلى فضيلة السحور فضيلةً أخرى فليتسحَّر بالماء والتمر، فقد ورد أنَّ الرسول (ص) كان يتسحَّر بالماء والتمر، أو بالماء والرطب.

أيُّها الاخوة، إنَّ أحد المناشىء التي استوجبت المقام السامي لعلي بن ابي طالب (ع) هو التمثُل بسيرة الرسول (ص) في كلِّ شيء، كان لا يفعل شيئاً لم يفعله رسول الله (ص)، وكان لا يترك شيئاً فعله رسول الله (ص)، حتى في محقَّرات الأمور ومثالاً على ذلك أنَّه جيء لعليٍّ (ع) وهو في الكوفة بخبيصةٍ مزعفرة -على ما أذكر- قال: ما هذا؟ قيل: يا أمير المؤمنين، هذه خبيصة مطيَّبة ألا تأكل؟ قال: لم يأكل منها رسول الله! ويقول أستحي أن آكل شيئاً لم يأكله رسول الله (ص)، يتنغَّص على النبي (ص)، يقول لا آكل شيئاً لم يأكل منه النبي (ص)، وفي رواية أخرى، جيئ له بفالودج، ولأنَّ الكوفة قريبة من إيران فجيء له بهذه الطبخة الفارسية، فلما قدموها للإمام علي (ع) قال: ما هذا الطعام -فهذه الطبخة غير معروفة لدى العرب-، قيل: هذه فالودج. بأيّ جواب أجاب؟ قال (ع): لا آكل، أراه طيباً، وأخشى أن آكلها فترغب نفسي فيها مرَّة أخرى! هكذا كان عليّ (ع) يروِّض نفسه.

ومن الآداب أيضاً أن يتسحَّر الانسان بما فيه حلاوة، فقد كان رسول الله (ص) يُفطر على الأسودين، قلت: رحمك الله وما الأسودان؟ قال: التمر والماء أو الزبيب والماء، ويتسحَّر بهما.

ثالثاً: الدعاء بالمأثور قبل الإفطار:

ومن آداب الصوم، أن يبدأ قبل إفطاره بقراءة الدعاء المأثور، فليس من الآداب أنْ تأكل بمجرد أن تسمع الأذان، فلا يكاد الأذان يُرفع حتى ترفع اللقمة للفم، فثمة آداب ينبغي رعايتها، لأنك في عبادة، فيستحب لمن أراد أن يُفطر أن يقرأ الدُّعاء المأثور. فالنبي (ص) هكذا كان يفعل، وأهل البيت (ع) هكذا كانوا يفعلون، فإذا أراد النبي (ص) أن يفطر يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. -البسملة غير موجودة في متن هذه الرواية، ولكنه حتماً يبدأ الأكل بالبسملة- اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقَّبله مَّنا، ذهب الظمأ، وابتلَّت العروق، وبَقيَ الاجر(11). وفي رواية أخرى: "الحمد لله الذي أعاننا فصمنا، ورزقنا فأفطرنا، اللهم تقبَّل منَّا، وأعنَّا عليه، وسلِّمنا فيه، وتسلَّمه منا في يسرٍ منك وعافية، الحمد لله الذي قضى عنا يوماً من شهر رمضان(12). هذه الرواية فيها بسم الله، قال (ص): "بسم الله، اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبَّل منَّا إنَّك أنت السميع العليم"(13).

رابعاً: تقديم الصلاة على الإفطار:

هل من آداب الصوم تقديم الافطار على الصلاة، أو تقديم الصلاة على الافطار؟

الروايات الشريفات الواردة عن أهل البيت (ع) تقول بأنَّ الافضل هو تقديم الصلاة على الافطار، فالافطار فريضة والصلاة فريضة، ويحسن بالمؤمن أن يقدِّم أفضلهما، وأفضلهما الصلاة، إلَّا في موردٍ واحد يستحب فيه تقديم الافطار على الصلاة، وهو ما إذا كان في جماعةٍ لا يُريدون أن يُقدِّموا الصلاة، فحينئذٍ لا ينبغي أن يجعلهم ينتظرونه، فلعلَّ ذلك لا يُريحهم، أويشقُّ عليهم، فهنا يكون الأفضل هو الافطار ثم الصلاة، والروايات عديدة في ذلك، عن أبي عبد الله (ع) أنه سُئل عن الافطار، أقبل الصلاة أو بعدها؟ قال: فقال: إنْ كان معه قوم يخشى أن يحبسهم عن عشائهم فليُفطر معهم، وإن كان غير ذلك فليُصلِّ ثم ليفطر"(14). وفي رواية أخرى عن أبي جعفر (ع) في رمضان تصلي ثم تفطر إلا أن تكون مع قومٍ ينتظرون الافطار، فإنْ كنتَ تفطر معهم فلا تُخالف عليهم، فأفطر ثم صلِّ وإلا فابدء بالصلاة، قلتُ: ولم ذلك؟ قال لأنَّه قد حضرك فرضان: الافطار والصلاة، فابدء بأفضلهما، وأفضلُهما الصلاة، ثم قال: تُصلِّي وأنت صائم فتكتب صلاتك تلك فتختم بالصوم أحب إلي(15).

الإمام (ع) ذكر منشأين لاستحباب تقديم الصلاة على الافطار:

المنشأ الاول: هو أنّ الصلاة فريضة، والإفطار فريضة، فيستحب تقديم أفضلهما.

وأما المنشأ الثاني: فهو أنَّه تكتب لك الصلاة صائماً، فإنّ صلاة الصائمليست كصلاة غير الصائم، فالذي يفطر قبل الصلاة يحرم نفسه من صلاة الصائم ولم ذلك؟ قال لأنَّه حضرك فرضان: الافطار والصلاة، -الفرض هنا بمعنى أنه لا يجوز للإنسان أن يُمسك إلى يومٍ آخر، بل لابدَّ أن يُفطر في الليل، ولا يوجد وقت مُحدَّد للإفطار، لكن لابدَّ أن تفطر؛ لأن صوم الوصال محرم-،قال: وأفضلهما الصلاة. ثم قال: تُصلِّي وأنت صائم فتُكتب صلاتك تلك فتَختم بالصوم أحبُّ إلي(16).

خامساً: الإفطار على أطعمة مخصوصة:

من آداب الصوم أيضا، الإفطار على الحلواء، يعني الشيء المحلَّى، أو الرطب، أو الماء، أو السكر، أو التمر، أو الزبيب، أو اللبن، أو السويق. وأكثرها أشياء حلوة المذاق، إلَّا اللبن، والماء. ويستحب للانسان أن لا يبدأ باللَّحم، بل يستحب له الافطار على تلك الأمور التي ذكرناها. فقد كان رسول الله (ص) يفطر أوَّل ما يُفطر عليه -في زمن الرطب- علىالرطب، وفي زمن التَّمر علىالتّمر. إذن فأفضل ما يحسن الإفطار عليه هو الرطب في أوانه، وإلّا فالتمر في أوانه. وإذا أفطر المؤمن بالرُّطَب لأنَّ رسول الله (ص) كان يفطر على الرطب، كان لتمثُّله بسنة الرسول (ص)ثواب وأجر. وإذا لم يجد رسول الله شيئاً حلواً -لا رطب، ولا تمر، ولا شي مُحلَّى بالسكَّر مثلاً- فعلى أيِّ شيء يفطر؟ كان يفطر (ص) حينذاك على الماء، فيبدأ به، ويأمر بالماء الفاتر -أي معتدل الحرارة، فلا هو ماء حار ولا هوبارد-، عن أبي عبد الله (ع) قال: "إذا أفطر الرجل على الماء الفاتر نقَّى كبده، وغسل الذنوب من القلب، وقوى البصر والحدق"(17). عن جعفر، عن أبيه (ع) قال: "كان رسول الله (ص) إذا صام فلم يجد الحلو أفطر على الماء".(18) لاحظوا، ان الامام أفاد بأنَّ الافطار على الماء يغسل الذنوب من القلب! فما هو ربط الماء بالذنوب؟ الذنوب من الأمور المعنوية وغير المادية، فكيف أنَّ الماء يغسلها؟ هذه في الحقيقة منحة للإستنان بسُنَّة النبيّ (ص)، ثم إنَّ استشعار الرضا عند شرب الماء، واستشعار الشكر لله عز وجل، واستشعار الإستنان بسُنَّة رسول الله (ص)، نفس هذا الشعور الذي يُزامن شرب الماء حال الافطار، له أثر معنويّ هو زوال الذنوب. يروى أنَّ علي ابن أبي طالب (ع) عندما كان في الكوفة -الرواية عن أبي عبد الله (ع)، عن أبيه (ع) قال: "جاء قنبر مولى علي (ع) بفطره إليه فجاء بجراب فيه سويق وعليه خاتم، قال: فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إنَّ هذا لهو البخل تختم على طعامك؟! قال: فضحك علي عليه السلام قال: ثم قال: أو غير ذلك؟ لا أحب أن يدخل بطني شئ لا أعرف سبيله(19) ..". لك الله يا علي، سيرة عليّ لها طعم خاص في كلِّ شي، جيء له بالفِطْر، وهو موضوع في شيء مثل الجراب، مختوم مقفول، حتى قنبر لا يُسمح له بفتحه، وما الذي في الجراب؟ سويق فيه خبز مفتوت، وفيه قليل من الشيرة، عليه خاتم، يعني عليه قفل. قنمبر رأى هذا المنظر فقال للإمام -ملاطفاً كما يظهر- إنَّ هذا لهو البخل تختم على طعامك؟! يعني لا تريد أن يراه أحد، وهذا من البخل. فضحك علي (ع) ثم قال: لا أحب أن يدخل بطني شيء لا اعرف سبيله"(20). هذا هو المنشأ! يعني نحن ندخل البيت ونأكل ما نجده، ولا أسأل نفسي: من أين أتيت بهذا الطعام؟ وبأيِّ ثمن اشتريتُه؟ وما هو هذا الطعام؟ مَن الذي صنعه؟ لا أبالي بشيءٍ من ذلك، أما علّي (ع) فله شأن مختلف، عليٌّ(ع) ليس هكذا، عليٌّ لا يأكل شيئاً إلا أن يعلم من أين أتى، ومن الذي صنعه، هكذا كان علي (ع).

هذه بعض الآداب المرتبطة بالجوارح.

المكروهات:

ثمة مكروهات أيضا يحسن بالمؤمن الصائم أن يلتزم بتركها، منها: أنه يكره له أن يشمَّ الرَّياحين، ومنها: أنَّه يكره للمرأة أن تجلس في الماء، ويكره للصائم أن يبلَّ ثوبه بالماء، ويكره للصائم أن يُنشد الشعر إلَّا أن يكون في مدح أو رثاء أهل البيت (ع)، ويكره للصائم أن يُداعب أهله -أي زوجته-، كلُّ ذلك خلاف آداب الصوم.

الآداب المعنوية للصيام:

ولنصرف الكلام بعد ذلك إلى ما يُعبَّر عنه بالآداب المعنوبة للصوم: عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): "إذا صُمتَ فليصُم سمعُك، وبصرُك، وجلدك -وعدَّد أشياء غير ذلك- ثم قال: فلا يكون يوم صومك مثل يوم فطرك"(21).

كيف يصوم سمع الإنسان؟ وكيف يصوم بصر الإنسان؟ نعلم أنَّ الصّوم هو الإمساك عن الطعام والشراب، وسائر المفطِّرات، وليس منها شيءٌ يتَّصل بالسَّمع والبصر. قال بلى، من كمال الصوم أن يصوم سمعك، فمن استمع للغناء لم يصم سمعه، ومن سمع الغيبة فهو ممن لم يصم سمعه، ومن سمع اللغو فذلك ممن لم يصم سمعه، ومن كذب فذلك ممن لم يصم لسانه، ومن اغتاب فذلك ممن لم يصم لسانه، ومن شتم، أوسبَّ أو جادل أو نابز بالألقاب أو ما شابه فذلك ممن لم يصم لسانه، ومن نظر لأمرأة نظرةَ حرام فهو ممن لم يصم بصره، ومن نظر إلى ما لا يجوز له أن ينظر إليه فاطلع على بيتِ مؤمن، على عورة مؤمن، أو تجسَّس عليه، وما شابه فذلك ممن لم يصم بصره. إذا صمت فلتصم جوارحك، من صام صامت جوارحه. عن أبي عبد الله (ع) قال: "إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، إنما للصوم شرط يحتاج أن يُحفظ حتى يتم الصوم، وهو صمت الداخل أما تسمع ما قالت مريم بنت عمران: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾(22) يعني صمتاً. فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم .."(23) صوم اللسان هو أن تُكثر من الصمت.

هناك من الناس اعتادوا كثرة الكلام حتى أصبح ذلك جزءً من طبيعتهم فمنذ أن يستيقظوا وإلى أن يناموا لا يكاد يتوقَّف لسانهم عن الكلام، وفي الحديث: "من كثُر كلامه كثُر خطؤه، ومن كثر خطؤه قلَّ حياؤه، ومن قلَّ حياؤه قلَّ ورعه، ومن قلَّ ورعه مات قبله، ومن مات قلبه دخل النار"(24). كثير الهذر قد لا يعصي في هذره، ولكنَّ هذا الهذر يُنافي كمال الصوم، ينبغي للمؤمن أن يُقلِّل من كلامه أثناء الصوم، إلَّا من ذكر الله عزَّ اسمه وتقدَّس.

روي أيضاً: "إذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم، غضُّوا ابصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا"(25). قال وسمع رسول الله (ص) امرأةً تسبُّ جارية لها وهي صائمة، فدعا رسول الله (ص) بطعام، فقال لها: "كلي. فقالت: إني صائمة، فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك، إن الصوم ليس من الطعام والشراب فقط."، عن أبي عبد الله (ع) قال: "إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، إنما للصوم شرط يحتاج أن يُحفظ حتى يتمَّ الصوم، وهو صمت الداخل أما تسمع ما قالت مريم بنت عمران: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾(26) يعني صمتا. فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم وغضوا ابصاركم .."(27). في حين أنَّ الصوم -في هذه الأيام- يكون فرصة ذهبية للاستماع بالنظر إلى المسلسلات، والأفلام، فالوقت طويل ومملّ، ولا سبيل لتقطيعه إلّا بالتلفاز المليء بالصور والمشاهد المحرّمة! أيّ صومٍ هذا؟! "رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلَّا الجوع والعطش"، لا بأس بمشاهدة التلفزيون، لكن ليُبحث عن المناظر التي لا يحرم النظر اليها، "فاحفظوا ألسنتكم، وغضُّوا أبصاركم، ولا تنازعوا"(28)، حتى إذا كان بينك وبين أخيك منازعة، أجِّلها، وإن استطعت أن يكون ذلك مُنطلقاً وطريقاً لإنَّهاء النِّزاع فافعل، "ولا تنازعوا ولا تحاسدوا، فإنَّ الحسد يأكل الايمان كما تأكل النار الحطب"(29)، قال أبو عبد الله (ع): "إذا أصبحتَ صائماً، فليصم سمعك وبصرك عن الحرام، وجارحتك وجميع أعضائك عن القبيح"(30). اليد تصوم، والرجل تصوم، واللسان يصوم، وحتى الشعر أيضا يصوم، والجلد يصوم. كيف يصوم الشعر والجلد؟ من مسَّ امرأةً، أوصافح امرأةً أجنبية، فهذا ممن لم يصم جلده وشعره، فيكون ممن تشهد عليهم جلودهم يوم القيامة، ويقولون: ﴿لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾(31). الجلد يشهد، والشعر يشهد، وكلُّ جارحةٍ في الانسان تشهد، ثم يقول (ع): "ودع عنك الهذي"(32) أي الكلام الفارغ، ما أكثر الهذر، والكلام فيما لا جدوى من ورائه. "ودع عنك الهذي وأذى الخادم" الواحد منا في ساعات الصيام قد يتعكّر مزاجه فيؤذي خادمه، ويؤذي ولده، وزوجته!! ما هذا الصوم؟! يطلب الإنسان رضوان الله بالصوم وهو يؤذي مؤمناً، وهو خادمه، أو زوجته، أو ولده، أو اجيره! وهذا المسئول في العمل كأنه فرعون وما هو إلّا مسؤل عن خمسة أشخاص، ويظن أنّ عنده مملكة بابل! هذا الإنسان يحمل بين أضلعه نفسٌ فرعونية تستضعف مَن هم تحت سلطتها.

ثم تُضيف الرواية أدباً آخر من آداب الصوم: "وليكن عليك وقار الصائم وألزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلَّا عن ذكر الله"(33) لا يضر المؤمن وهو في وقت الفراغ، وهو يمشي بالسيارة، أن يستغفر الله، ويلهج بذكر الله -عز وجل-، "ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك واياك والمباشرة والقبل والقهقهة بالضحك فإنَّ الله يمقت ذلك"(34).

نختم الحديث بهذه الرواية الشريفة، وهي مروية عن أبي عبد الله (ع) قال: "إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، إنما للصوم شرط يحتاج أن يُحفظ حتى يتمَّ الصوم، وهو صمت الداخل أما تسمع ما قالت مريم بنت عمران: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾(35) يعني صمتا. فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم وغضوا ابصاركم، ولا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تغتابوا ولا تماروا .."(36). تعرفون ما معنى قوله (ع): (لا تماروا)؟ المماراة تعني المغالبة في الكلام ينتصر المتغالبان كلٌ منهما لرأيه بكلِّ وسيلة وهذا النوع من التخاطب يورث الأحقاد والضغينة، فكل واحد يريد الانتصار لنفسه، وقد يكذب لكي ينتصر لنفسه، وقد يُسيء إلى صاحبه حتى ينتصر لنفسه "ولا تماروا، ولا تكذبوا، ولا تباشروا، ولا تخالفوا، ولا تغاضبوا" أي أن كلَّ واحدٍ يفعل ما يُغضب الثاني، فالأول يتعمَّد فعل ما يبعث الغضب والحزن في قلب أخيه فيجازيه الآخر بفعل ما يُغيظه "ولا تسابُّوا، ولا تشاتموا، ولا تفاتروا، ولا تجادلوا، ولا تتأدوا ولا تظلموا" كلُّ واحد يُبدي من أخيه ما يعرف، ويكشف عورة أخيه، إن أنت أبديت عورة أخيك، أفلا تخشى أن يفضحك الله؟ "من كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته" (37)،"من سلَّ سيف البغي قُتل به"(38)، و"من حفر حفرةً لأخيه وقع فيها"(39)، ومن كشف عورةَ أخيه فضحه الله ولو في عقر داره. أنت رأيت خطأً فإن اٌتيح لك أن تصلحه فأصلحه، وإن كنت عاجزاً عن ذلك فلا تفضح أخاك نعم، "ولاتظلموا، ولا تسافهوا، ولا تضاجروا، ولا تغفلوا عن ذكر الله، وعن الصلاة، والزموا الصَّمت والسكوت، والحلم والصبر، والصدق ومجانبة أهل الشرّ يعني ليكن شهر رمضان هو الطريق للإلتزام بمثل هذه الآداب، قد يشقّ على الإنسان أن يلتزم بكلِّ ذلك طيلة أيام السنة، ولكن إذا روَّض نفسه، ولقَّنها، وعقد العزم على أن يترك هذه الأمور فقط في هذا الشهر، عند ذلك سيجد لنفسه مِرَان، ودُربه، وقدرة، ولياقة على تركها في سائر أيام السنة واجتنبوا قول الزور والافتراء، والكذب والمراء، والخصومة وظنُّ السوء، والغيبة والنميمة، وكونوا مُشرفين على الآخرة يعني تصوَّر نفسك، أنك غدا تموت، أو بعد غدٍ تموت، منتظرين لأيَّامكم منتظرين لما وعدكم الله متزودين للقاء الله، وعليكم السكينة والوقار، والخشوع والخضوع، وذلّ العبد الخائف من مولاه، راجين خائفين، راغبين راهبين، قد طهَّرتم القلوب من العُيوب، وتقدَّست سرائركم يعني قد تنزَّهت سرائركم وتنظفت من القاذورات وتبرأت الى الله من أعدائه، ثم قال: "إنَّ الصوم ليس من الطعام والشراب، إنما جعل الله ذلك حجاباً مما سواها من الفواحش من القول والفعل"، ثم قال: ما أقلَّ الصُوَّام، وأكثر الجُوَّاع" ونفس هذا المعنى ورد في كلام الإمام زين العابدين (ع)، قال: "ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج"(40) هنا أيضا يقول الرسول (ص): "ما أقلَّ الصُوَّام، وأكثر الجُوَّاع" ليس كلُّ من صام فهو صائم حقيقةً، -كما ذكرنا في بداية الجلسة-، كثيرٌ منا يصوم، ولكن القليل منّا من يكون صومه مقبولاً، قد يكون الصوم صحيحا، ولكن قد لا يكون مقبولا، فالقبول له شروط، وهذه هي شروط القبول.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص138.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص139.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص139.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص140.

5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص139.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص141.

7- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص141.

8- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص143.

9- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص143.

10- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص144.

11- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص147.

12- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص147.

13- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص148.

14- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص149.

15- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص150.

16- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص150.

17- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العامل- ج10 ص157.

18- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العامل- ج10 ص157.

19- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العامل- ج10 ص157.

20- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العامل- ج10 ص157.

21- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج93 ص292.

22- سورة مريم / 26.

23- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج93 ص292.

24- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج12 ص187.

25- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص163.

26- سورة مريم / 26.

27- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج93 ص292.

28- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص163.

29- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص163.

30- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص165.

31- سورة فصلت / 21.

32- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص165.

33- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص165.

34- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج10 ص165.

35- سورة مريم / 26.

36- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج93 ص292.

37- ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج3 ص2208.

38- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج12 ص37.

39- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج58 ص220.

40- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج96 ص258.