منشأ الحرمة التكليفيَّة لليانصيب

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

قال السيد السيستاني في حكم بيع وشراء أوراق اليانصيب ما نصُّه: "هذه العملية يمكن أن تقع على وجوه: الأول: أن يكون إعطاء المال بإزاء البطاقة بغرض احتمال إصابة القرعة باسمه والحصول على الجائزة، وهذه المعاملة محرمة وباطلة بلا إشكال"(1)، والسؤال: ما هو وجه الحرمة التكليفيَّة؟ فإنَّ الأسباب المتصورة لبطلان المعاملة هي السفه أو الغرر وكلا السببين لا يثبتان أكثر من الحرمة الوضعيَّة؟ نعم ذكر الشيخ زين الدين (رحمه الله) أنَّ المعاملة في بعض صورها تكون ربوية، ولم يبيِّن ذلك الفرض؟

الجواب:

الوجه في البناء على الحرمة التكليفيَّة مضافاً إلى الحرمة الوضعية هو انَّ المعاملة في الفرض المذكور تُعدُّ من أنحاء الميسر الذي أفاد القرآن الكريم حرمته تكليفاً في مثل تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(2).

والمراد من الميسر هو مطلق أنحاء القمار كما ورد ذلك في مثل رواية جابر عن أبي جعفر (ع) قال لمَّا أنزل الله عزَّ وجلَّ : ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ قيل يا رسول الله ما الميسر؟ فقال: " كلُّ ما تُقومَر به حتى الكعاب والجوز, قيل فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم التي يستقسمون بها"(3).

وكما في معتبرة معمر بن خلاد عن أبي الحسن (ع) قال: "النردُ والشطرنجُ والأربعة عشر بمنزلةٍ واحدة, وكلُّ ما قُومرَ عليه فهو ميسر"(4).

والقمار والمقامرة تعنى بحسب مدلولها اللُّغوي والعرفي مطلق التسابق في مقابل مالٍ مجعول ومحدَّد يُعبَّر عنه بالرهن يكون على عهدة المسبوق للسابق, وهذا هو الميسر كما أفاد اللُّغويون، وذكروا أنَّه كان فيما يفعله عرب الجاهليَّة من أنحاء الميسر والمقامرة أنَّ عدداً منهم يشترون جزوراً نسيئة ثم يُجزِّؤونه إلى ثمانية وعشرين جزءً أو عشرة أجزاء ثم يضعون أسماءهم في قِداح, كلُّ واحدٍ من هذه القداح لها اسمٌ ونصيبٌ محدَّد من أجزاء الجزور, فبعض هذه القِداح يجُعل لمنَ يخرج عليه جزء من الجزور وبعضها جزءان وبعضها ثلاثة, وثمة واحدٌ من القداح أو ثلاثة لا يُسمى لها نصيب من أجزاء الجزور، فمَن خرجت هذه القداح على أسمه لا يكون له من الجزور شيءٌ ويكون ملزمَاً بسداد ثمن الجزور بأكمله أو يشترك في سداده الثلاثة الذين خرجت القداح غير ذات النصيب بأسمائهم. فهذا النوع من المقامرة يُسمى اللعب بالقداح وهو من الاستقسام بالأزلام ويُعبَّر عنه بالميسر كونه أحد أنواعه.

فالميسر والذي هو القمار لا يختصُّ صدقه على ما إذا كان التسابق والرهان بواسطة الأدوات المعدةَّ للقمار كالنرد والشطرنج, ولهذا أفادت الروايات الواردة عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) وكذلك اللغويون أنَّ القمار يصدق حتى على مثل اللعب بالجوز والكعاب والخاتم. وهذا المقدار -أعني صدق الميسر والقمار على مطلق التسابق برهنٍ يكون للغالب- ثابتٌ ولا إشكال فيه والبحث في المقام إنَّما هو في اعتبار دفع المال في مقابل بطاقة اليانصيب من الميسر والقمار؟

والظاهر هو صدق القمار والميسر على مثل هذه المعاملة, وذلك لأنَّ مفروض هذه المعاملة هو أنَّ عدداً من الناس يدفع كلُّ واحدٍ منهم مبلغاً من المال يتأهَّل به للدخول في الاقتراع فإنْ خرجت القرعةُ على اسمه كان هو السابق ولذلك يكون مستحقَّاً بحسب المعاملة للجائزة المرصودة للسابق ويخسر المسبوقون ما كانوا قد دفعوه، والجائزة في مفروض هذه المعاملة هي عينها الأموال التى دفعها المتسابقون أو هي جزءٌ منها ويكون الجزء الآخر للقائمين على تنظيم المعاملة، فهذه المعاملة تُشبه إلى حدٍّ كبير اللعب بالقداح الذي كان يتعاطاه عربُ الجاهلية ويسمُّونه ميسراً، وكيف كان فالواضح من مفروض المعاملة هو ابنتناؤها على المغالبة في مقابل رهنٍ يلتزمه المسبوقون للسابق منهم وهذا هو عينُه معنى القمار.

اليانصيب الذي لا يكون من الميسِر: 

ومن ذلك يتَّضح أنَّ الجائزة لو كانت مرصودة من قِبل طرفٍ خارج عن المتسابقين ولم يُفترض فيها خسران المغلوب لشيءٍ من أمواله وإنَّما يُفترض فيها ربح الغالب فإنَّ هذه المعاملة لا تُعد من القمار والميسر. ومثال ذلك مالو رصدت شركةٌ جائزةً لمن تخرج القرعة بإسمه وصرفت لذلك بطاقات الاقتراع على أساس أنَّ من يشتري بضاعة من هذه الشركة فإنَّه يُعطى بطاقة يدخل بها الاقتراع فإنَّ ذلك لا يُعدُّ من الميسر لأنَّ البطاقة التى دُفعت لكلِّ مقترعٍ لم تكن في مقابل مالٍ قد يخسره وقد يربح أضعافه نعم هو دفع مالاً في مقابل بضاعة اشتراها من الشركة فهو إنْ لم تخرج القرعة باسمه فإنَّه لا يكون قد خسر شيئاً وإنْ خرجت القرعة باسمه فإنَّه يكون ربح مالاً دون يكون ذلك منتجاً لخسران المغلوب لأنَّ الجائزة التى ربحها الغالب لم تكن من أموال المتسابقين، فالمتسابقون لم يدفعوا مالاً في مقابل الدخول في الاقتراع ، وما دفعوه كان في مقابل أعيانٍ اشتروها من الشركة.

وعلى خلاف ذلك مفروض المعاملة التى قلنا بأنَّها من أنحاء الميسر والقمار، وذلك لأنّ الرابح فيها قد ربح ما خسره المسبوقون من أموالهم, فهم كانوا قد دفع كلُّ واحدٍ منهم المال بإزاء الجائزة المحتمل كسبها في فرض خروج القرعة باسمه.

وممَّا ذكرناه يتضح أنَّه لو دفع كُّل واحدٍ من المقترعين مالاً محدَّداً أو غير محدَّد ليصُرف في وجوه الخير مثلاً فكان القصد من دفع المال هو التبرُّع ولم يكن من قصدهم المعاوضة إلا أنَّ الجهة المتبرَع عندها أعطت كلَّ واحدٍ من المتبرعين بطاقة اقتراع ورصدت جائزة لمَن تخرج القرعة باسمه فإنَّ مثل هذه الفرضية لا تُعدُّ من الميسر لوضوح أنَّه لا خاسر في هذه المعاملة ، فما دفعه كلُّ واحدٍ من المقترعين لم يكن بإزاء الجائزة المحتملة بل كان الدفع بقصدِ التبرُّع في وجهٍ من وجوه الخير مثلاً غايته أنَّ الجهة المنظِّمة أرادت أن تُكافىء المتبرِّعين فأعطت كلَّ متبرعٍ بطاقة يتأهَّل بها للدخول في الاقتراع فإنْ ربح فإنَّه لم يربح ما خسره الآخرون، وإنْ لم يربح الجائزة فإنَّه لم يخسر شيئاً.

معاملة اليانصيب الربويَّة:

وأمَّا الصورة التى تكون فيها معاملة اليانصيب ربويَّة فهي ما لو افتُرض أنَّ كلَّ مقترعٍ دفع المال للجهة المنظِّمة بعنوان القرض أو بعنوان الضمان لقيمته على أيِّ تقدير ويشترط حين دفع المال أن يُعطى بطاقة الدخول في الاقتراع، فيكون الاقراض بشرط الدخول في الاقتراع، فهذه المعاملة ليست من الميسر لأنَّ المقترع لن يخسر ماله بعد افتراض أنَّه قد دفعه بقصد الاقراض والضمان للقيمة، نعم قد يربح الجائزة المرصودة لواحدٍ ممَّن ساهم في اقراض الجهة المنظمة فليست المعاملة من القمار ولكنها من القرض الربوي، لأنَّه قرض بشرط الفائدة وهو الدخول في الاقتراع.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- فقه الحضارة -السيد السيستاني- ص95.

2- سورة المائدة / 90.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج17 / ص165.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج17 / ص323.