عصمةُ النَّبيِّ (ص) فيما يتَّخذُه من قرار

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

1- وقال تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾(1).

2- قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(2).

أليس هذا دليلاً على أنَّ الرَّسول (ص) ليس معصومًا في القرارات؟ وبالتَّالي ليس معصومًا بنحو العصمة المطلقة؟

الجواب:

الثَّابت بمقتضى الدَّليل العقليِّ القطعيِّ وكذلك النّصوص -القطعيَّة الصّدور- هو عصمةُ النَّبيِّ (ص) المطلقة، وأنَّه معصوم في كلِّ ما يصدرُ عنه، ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾(3)، ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى / إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾(4)، ولسنا في المقام بصدد التّفصيل في ذلك.

1- الجواب بحسب الآية الأولى:

وأمَّا قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾(5) فلا يُنافي ما ذكرناه من عصمةِ النَّبيِّ (ص) المُطلقة.

فقوله: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ﴾(6) سِيق لغرض التّلطّف في الخطاب، وهذا الأسلوب متعارفٌ عند أهل المحاورة، ولا يُعبِّر عن ارتكاب المخاطَب لخطأٍ يستوجبُ الدّعاء له بالعفو عن ذلك الخطأ بل هو دعاءٌ ابتدائي يُساقُ لغرض التّكريم والتّوطئة لبيان المطلوب للمخاطب.

فمَساقُ الآية مساق قولنا لأحدٍ: "حفظك الله ما هو قولُك في كذا؟"، أو قولنا: "غفر اللهُ لك متى ستزورُنا؟".

وأمَّا قوله تعالى: ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾(7)، فهو ليس استفهامًا لغرض العتاب والتَّوبيخ كما توهَّم ذلك بعضُ المفسِّرين، وإنَّما الغرض منه بيان واقع المأذون لهم، فهو فضحٌ لحقيقة المأذون لهم وكشفٌ عن نفاقِهم وعدم صدقِهم، وهذا هو معنى قول الإمام الرّضا (ع) حينما سُئل عن معنى الآية الشَّريفة: أنّ الآية سِيقت على طريقة إيَّاك أعني واسمعي يا جارة(8).

فالخطابُ موجَّه للرّسول (ص) إلاّ أنّ الغرض منه بيان واقع حال المأذون لهم للأمَّة وأنَّهم غير صادقين في أعذارهم التي اعتذروا بها لطلب الإذن في عدمِ الخروج إلى الحرب.

فالآيةُ لا تُعبِّر عن عدم مناسبة الإذن للمصلحة بل إنَّ الإذن لهم كان هو المُناسب للمصلحة التَّامّة كما يظهر ذلك من الآيتين السَّابعة والأربعين والثَّامنة والأربعين من نفس السّورة.

﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ / لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾(9)، فخروجُهم كان فيه مفسدة عظيمة على المسلمين، فلو أنّهم خرجوا كما أفادت الآيتان لزادوا المسلمين خبالاً، ولأوقَعوا الفتنة في صفوف المسلمين، ولأنَّ في المسلمين من يتأثَّر بما يُرجفون به من تضليلٍ وفتنة لذلك كانت المصلحةُ في عدم خروجهم كما تُقرِّرُ الآية السَّابعة والأربعون.

والآية التي تليها تُعبِّر عن معرفة النّبيِّ (ص) بواقعِهم وأنَّه كانت له معهم تجربة سابقة حين أوقعوا الفتنة بين المسلمين وقلّبوا له الأمور، فلم يكن النّبيُّ (ص) غافلاً عن واقعِهم وسوءِ أثرِهم وما يترتَّب على مشاركتِهم للمسلمين في الخروج.

إذن فالآيتان تُقرِّران صوابيَّة القرار الذي اتَّخذه رسولُ الله (ص) معهم حين أَذِنَ لهم بعدم الخروج، وهو ما يُؤكِّد أنَّ الآية التي هي محلُّ البحث لم يكن المقصود منها التعبير عن عدم مُناسبة الإذن لهم بعدم الخروج.

إذ أنَّ قرار الإذن كان هو الأنسب للمصلحة كما أفادت الآيتان الكريمتان.

ثمَّ أنَّ هنا قرينةً أخرى تُعبِّر عن أنّ عدم خروجهم كان هو الأنسب للمصلحة وأنَّ إذنه لهم بعدم الخروج مطابِقٌ للإرادة الإلهيَّة، وهذه القرينة هي قوله تعالى في الآية الخامسة والأربعين: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ﴾(10)، فانبعاثُهم وخروجُهم كان مكروهًا لله عزّ وجلّ لذلك خذَلَهم وثبَّطهم.

وبذلك يتبيَّن أنَّ الإذن لهم بعدم الخروج كان مُطابقًا لمقتضى الإرادة الإلهيَّة، وبه يتأكَّد أنّ الاستفهام لم يكن لغرض العتاب للرّسول (ص) على مُخالفة الأَولى وإنَّما هو لغرض التّوبيخ والتَّعرية لواقع المنافقين.

فالقرآن الكريم أراد من هذه الآية أن يقول للمسلمين إنَّ الإذن الذي صدر عن الرَّسول (ص) لا يعني إعفاء المستأذنين من المسؤوليَّة وأنَّ العذر الذي قدَّموه لم يكن واقعيًّا بل كان كاذبًا، فاستئذانُهم لا يُسقِط التَّكليف عنهم، وبذلك يكونُ القرآن الكريم قد كشف زيفَهم للمسلمين، إذ أنَّهم قد يُبَرِّرون عدم خروجِهم بأنَّ التَّكليف بالخروج ساقطٌ عنهم لإذن النَّبيِّ (ص) لهم بعدم الخروج.

خلاصة:

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ الإذن لهم من قِبل النّبيِّ (ص) بعدم الخروج كان مناسبًا للمصلحة التَّامَّة، ومطابقًا للإرادة الإلهيَّة كما تبيَّن ذلك من الآيات الثَّلاث: الخامسة والأربعين، والسَّابعة والأربعين، والثَّامنة والأربعين، إلاّ أنَّ المسلمين كانوا بحاجة إلى أنْ يتعرَّفوا على واقع المنافقين وإنَّ اعتذارهم واستئذانَهم لم يكن صادقًا ولا مُسقِطًا للتَّكليف بالخروج، لذلك جاءت الآيةُ المباركة محلّ البحث لتبيِّن ذلك.

وخلاصة القول هو أنَّه لا ينبغي فهم الآية المباركة منفصلة عن سياقِها.

2- الجواب بحسب الآية الثانية:

وأمَّا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(11)، فليس فيه ما يُعبِّر عن عدم صوابيَّة ما اتّخذه النّبيّ (ص) من قرار التّحريم على نفسه، والمراد من التّحريم في المقام ليس هو التّحريم الشّرعيّ وإنّما هو إلزام نفسه بترك شيء بواسطة الحلف، وذلك بقرينة الآية التي تلت الآية المذكورة: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾(12)، أي التّحلل من اليمين والحلف بواسطة التّكفير.

فالمُستظهَر من الآية المُباركة أنَّ النَّبيّ (ص) كان قد حلف على ترك شيءٍ مباحٍ إرضاءً لزوجاته، إذ أنَّ ذلك الشَّيء الذي فعله رسول الله (ص) كان مكروهًا عند بعض أزواجه.

ولا محذور في أنْ يحلف الإنسان على ترك شيءٍ مباح خصوصًا إذا كان لغرض عقلائيّ كإرضاء الزَّوجة.

والخطاب وإن كان مُشعرًا بعتاب النّبي (ص) على تحريمِه ذلك المباح على نفسه إلا أنَّه واقعًا توبيخٌ لزوجته التي اضطرَّتْهُ لذلك حرصًا منه على تأليفها وحتَّى لا تُفشي ذلك لأنَّ إفشاءه يبعث الحياء في نفس رسول الله (ص) وكان الرّسول (ص) شديد الحياء والذي هو من الإيمان كما هو ثابتٌ قطعًا(13).

فقد أفادت الرّوايات أنَّ الذي حرَّمه رسول الله (ص) على نفسه بالحلف هو معاشرة جاريته التي اطلعت إحدى زوجاته على مُعاشرته لها في منزلها(14) أو أنَّه العسل الذي تناوله فادّعت إحدى زوجاته أنَّ ذلك سبَّبَ انبعاث رائحة غير طيّبة من فمه المُبارك، وكان يكره ذلك، فحلف أنْ لا يتناول العسل إرضاءً لها(15).

فالرَّسول (ص) أراد من حلفه إرضاءَ زوجته وهو غرض عقلائيّ راجح، فالآية لم يكن غرضها عتاب الرّسول (ص) وإنَّما كان غرضها توبيخ زوجته التي آذته واضطرّته للحلف ثُمّ أفشت سرَّه الذي حلف على ترك ذلك الشّيء من أجل أنْ تكتمه.

والقرينة على ذلك هو ملاحظة الآية الرَّابعة من سورة التَّحريم والآية التي تلتها: ﴿إِن تَتُوبَا إلى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ / عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾(16).

فالقرآن الكريم في هاتين الآيتين ينتصر للرسول (ص) ويُنبّأ زوجتَيه وهما حفصة وعائشة أنَّ الله تعالى هو ناصره عليهما إنْ تظاهرا وتواطئا على إيذائه، وكذلك ناصره جبرئيل وصالح المؤمنين وعموم الملائكة.

ثُمَّ أنَّه وبّخهما صريحًا وأفاد بأنَّ الرَّسول (ص) لو أوقع الطَّلاق بهما فإنَّ الله تعالى سيُبدله بزوجاتٍ خيرا منهما.

وكلُّ ذلك يُعبِّر عن أنَّ التَّوبيخ في الآية الأولى لم يكن موجَّهًا للرّسول (ص) وإنَّما كان موجَّهًا لزوجتَيه، فكأنَّ القرآن أراد أن يُسلِّيه ويُطيِّب نفسه ويقول إنَّ مَن حلفتَ لاسترضائها لم تكن تستحقُّ منك هذا الاسترضاء.

فمساق الآية هو مساق قولنا لمن أحسن للمسيء: "لمَ أحسنت له؟"، فالاستفهام في هذا المثال ليس عتابًا، إذ أنَّ الإحسان للمسيء أمرٌ راجح، فالغرض من هذا الاستفهام هو بيان أنَّ هذا الإنسان لا يستحقّ الإحسان، فهو توبيخٌ لمن أحسن إليه وليس إلى المُحسن، فلذلك يفهم المُحسن من الخطاب والاستفهام أنّه تعاطف وليس توبيخًا.

خلاصة:

وبما ذكرناه يتّضح أنَّ ما فعله رسول الله (ص) كان صائبًا ومُطابقًا للمصلحة التَّامة والإرادة الإلهيَّة، وأنَّ الغرض من الاستفهام في الآية المُباركة هو التَّسلية للرّسول (ص) والتَّعبير عن الاستياء من موقف تلك الزّوجة.

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة التوبة / 43.

2- سورة التحريم / 1.

3- سورة الأنعام / 50.

4- سورة النجم / 3-4.

5- سورة النّجم / 3-4.

6- سورة التَّوبة / 43.

7- سورة التَّوبة / 43.

8- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج2 / ص180.

9- سورة التوبة / 47-48.

10- سورة التوبة / 46.

11- سورة التّحريم / 1.

12- سورة التّحريم / 2.

13- روى أحمد بن حنبل بسنده عن ابي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله (ص) أشدُّ حياءً من عذراء في خدرها) ج3 / ص79 ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه الطبراني باسنادين أحدهما رجال الصحيح ج9 / ص17.

14- السنن الكبرى -البيهقي- ج7 / ص353، المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج2 / ص493.

15- صحيح البخاري -البخاري- ج7 / ص232، سنن أبي داود -ابن الأشعث السجستاني- ج2 / ص191، السنن الكبرى -النسائي- ج3 / ص130.

16- سورة التحريم / 4-5.