الواو في ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ .. عاطفة أو استئنافيَّة؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

قال تعالى في سورة آل عمران الآية: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾(1).

نحن نقولُ بأنَّ الرَّاسخين هم الذين يعلمون تأويل القرآن الكريم وهم أهلُ البيت (ﻉ) ولكنَّ الظاهر من سِياق الآية انَّ كلمة ﴿الرَّاسِخُونَ﴾ لا تعود على مَن يعلم بالتأويل بل هي بدايةٌ للجملة: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ﴾ أي: الراسخون في العلم يقولون آمنا به, وليسوا هم من يعلم تأويل القرآن .. فما رأيُ سماحتكم؟

الجواب:

لا ريبَ أنَّ رسول الله (ص) وأهلَ بيته (ﻉ) يعلمون تأويل الكتاب وأنَّهم مِن الرَّاسخين في العلم، وذلك للرّوايات الكثيرة والمعتبرة التي نصَّت على ذلك(2).

وإنَّما الكلام في دلالة الآية على ذلك حيث إنَّها تحتمل مَعنَيَيْن:

المعنى الأوَّل: أنَّ الواو في قولِهِ ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ..﴾(3)، واو استئناف، وعليه يكون الرَّاسخون مبتدأً وخَبَرُهُ ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ..﴾(4)، وبه لا تكون الآية دالَّةً على أنَّ الرَّاسخين في العلم يعلمون تأويل الكتاب وإنَّما هي متصدِّيةٌ لبيان أنَّ الرَّاسخين في العلم يؤمنون بالمُحكم والمُتشابه وإنْ كانُوا لا يعلمون بالمُتشابه بل يتوقَّفون فِيه إلا أنَّهم يقولون إنَّ كُلاًّ مِن المُحكم والمُتشابه مِن عِند رَبِّنا، وذلك في مقابل مَن كان في قلوبِهم زيغٌ فإنَّهم يَتَّبِعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويلِه.

وهذا المعنى لو تمّ استِظْهَارُهُ فإنَّه لا يُنافِي مَا دَلَّ على أنَّ الرَّسول (ص) وأهلَ بيته (ﻉ) يعلمون بتأويل الكتاب بتعليمٍ مِن الله تعالى كما هو الحالُ في علم الغيب فإنَّه تعالى يقول: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ..﴾(5)، إلاَّ أنَّه لا ريب في عِلْمِ النَّبيّ (ص) بشيءٍ مِن الغَيبِ بتعليمٍ مِنَ اللهِ تَعالى كما يدُّل عليه قَولُه تَعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ ..﴾(6).

فحصرُ العِلم بالتَّأويل على الله تعالى في الآية الشَّريفة: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ﴾(7)، إنَّما هو باعتبار أنَّ العِلم الذَّاتي بالتَّأويل لا يكون إلا لله جلَّ وعلا، وعِلمُ النَّبيِّ (ص) وأهلِ بيتِهِ (ﻉ) لا يكونُ إلا بالاكْتِسَاب والتَّلقِّي.

فقولُهُ تعالى في وَصف النَّبيِّ (ص): ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾(8)، يدلُّ على علم النَّبيِّ (ص) بالكتاب كلِّه مُحكَمِهِ ومتشابِهِهِ وإلا لم يكن له تعليم الكتاب بل هو تعليم بعض الكتاب، وهو خلاف الإطلاق في الآية الشَّريفة، وهكذا الحال بالنسبة لأوصيائِهِ فإنَّ وظيفتَهم تعليمُ النَّاس الكتاب وهو يقتضي علمهم به.

المعنى الثاني: أنّ الواو في قوله تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ..﴾(9)، واوٌ عاطفة، وذلك يقتضي أنَّ الرَّاسخين في العلم يعلمون بتأويل الكتاب، وعليه يكون قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ..﴾(10) في موقع الحال أي أنَّ الرَّاسخين في العلم يعلمون تأويل الكتاب حال كونهم يقولون آمنَّا بِهِ كُلٌّ مِن عِند ربّنا، أي أنّ كلمة ﴿يَقُولُونَ﴾ فعلٌ مضارعٌ والفاعل هو الضَّمير أعني الواو ومرجعه الرَّاسخون، والجملة من الفِعل والفاعل في موقع الحال للاسم المعطوف وهو ﴿الرَّاسِخُونَ﴾.

المتعيّن من المعنيين:

والمعنى الثَّاني هو المُستظهَر من الرّوايات المتصدَّية لتفسير الآية المباركة، وعليه لا بدَّ من ترجيحِه على المعنى الأول وإنْ كان محتملاً، نظراً لكون الأئمة من أهل البيت (ﻉ) هم ورثة الكِتاب بمقتضى الأدلَّة القطعيَّة فما يَثبُتُ عنهم من تفسير يكون هو المتعيَّن دون غيره.

فمِمَّا ورد عنهم (ﻉ) ما رواه الكُليني في الكافي بسنده عن أحد الصَّادقَين (ع) في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾(11)، قال: "فرسولُ الله (ص) أفضلُ الرَّاسخين في العلم، وقد علَّمه اللهُ عزّ وجلّ جميع ما أُنزل من التَّنزيل والتَّأويل، وما كان الله ليُنزل عليه شيئاً لم يعلِّمه تأويلَه، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلَّه..."(12).

وروى الكُليني في الكافي أيضاً بسنده عن أبي عبد الله (ع) قال: "نحن الرَّاسخون في العلم ونحنُ نعلم تأويلَه"(13).

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة آل عمران / 7.

2- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص213، ج8 / ص269، بصائر الدرجات -محمد بن الحسن الصفار- ص أخرج ما يزيد على العشر روايات في الباب العاشر في الائمة انهم الراسخون في العلم: 222، وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج7 / ص179 باب 13 من أبواب صفات القاضي.

3- سورة آل عمران / 7.

4- سورة آل عمران / 7.

5- سورة الأنعام / 59.

6- سورة آل عمران / 44.

7- سورة آل عمران / 7.

8- سورة آل عمران / 164.

9- سورة آل عمران / 7.

10- سورة آل عمران / 7.

11- سورة آل عمران / 7.

12- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص213.

13- الكافي -الشيخ الكليني- ج1 / ص213، تفسير العياشي -محمد بن مسعود العياشي- ج1 / ص164، لاحظ بحار الأنوار -العلامة المجلسي- باب انهم أهل علم القرآن والذين اوتوه والمنذرون به والراسخون في العلم ج23 / ص188.