﴿قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾ وشبهة الجبر

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

قال تعالى في سورة النساء في الآية 78: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ﴾(1)، هذه الآية يُشَمُّ منها تأييدٌ لرأي المجبِّرة، فالحسنة في اللغة العربيَّة لها مَعَانٍ كثيرة منها: الرحمة والخير وكذلك السَّيئة لها معاني عديدة: كالمصيبة والحدث المؤلم ونقص الأموال.

كما وورد في سورة آل عمران في الآية 120: ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا﴾(2)، ولكن أريد توضيحًا منكم في الجزء الأخير المذكور في الآية 78 من سورة النّساء المذكورة في مبدأ الكلام: ﴿قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾(3) وذلك لقصر استيعابي وفهمي.

الجواب:

مفاد الآية المباركة:

ليس المراد من الحسنة في الآية الشريفة هي الطاعة كما أنّ السيئة في الآية الشريفة ليست بمعنى المعصية، بل المراد من الحسنة في المقام هو ما يتلائم مع طبع الإنسان من صحَّةٍ ورخاءٍ وعافية وسعةٍ وأمنٍ وسلامة، والمراد من السيئة هو ما تنفرُ منه طبيعةُ الإنسان من فقرٍ وجدْبٍ ومرضٍ وهزيمةٍ وخوفٍ وشدة، وعليه يكون المراد من قوله: ﴿قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾(4)، أنَّ مطلق ما يُصيب الإنسان سواءً كان ممَّا يستحسنُه ويستسيغُه أو كان مما يسوؤه هو من عند الله تعالى.

والمؤيِّد لكون المراد من الحسنة والسيئة هو ما ذكرناه هي التعبيرُ بالإصابة ﴿إِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ﴾، ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ فكلا الأمرين خارجين عن فعلهم إذ إنَّ الإصابة تعني وقوع الشيء عليهم وليس صدروه عنهم.

فمعنى الآية المباركة كما هو مفاد بعض الروايات(5) أنَّ المنافقين ويهود المدينة المنوَّرة كانوا إذا صلحت الزروع والثمار وغمرتهم الأمطار وانتعشت مواشيهم وبهائمُهم وتناسلت وتكاثرت قالوا: هذا من عند الله تعالى، وإذا أجدبوا أو نفقت مواشيهم وتلفت زروعهم لآفةٍ سماويَّة أو غيرها قالوا: هذا بسبب النبيِّ (ص) بمعنى أنّ مجيئه للمدينة كان شؤماً عليهم. فأجابهم القرآن الكريم بقوله: ﴿قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾(6).

فيكون مساق هذه الآية هو مساق قوله تعالى حكايةً عن بني إسرائيل: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ﴾(7)، أي إذا أصابتهم شدَّة ومِحنة تشاءموا من نبيِّ الله موسى (ع) ومَن معه من المؤمنين.

وبما ذكرناه يتبيَّن عدم دلالة الآية المباركة على نظرية الجبر والتي تعني أن الأفعال الإختيارية التي تصدر عن الإنسان سواءً كانت من سنخ الطاعات أو من سنخ المعاصي ليست في واقع الأمر اختيارية للإنسان بل هو مجبور عليها.

فممَّا ذكرناه يتبيَّن أنَّ الآية أجنبية عن هذه الدعوى تمامًا، إذ هي ليست بصدد الحديث عن الأفعال الاختياريَّة للإنسان وإنَّما هي بصدد الحديث عن النوازل والحوادث التي تُصيب الإنسان فهي المراد من قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾.

انتفاء الشبهة حتى بناءً على إرادة الأفعال:

على أنّه لو كانت الآية تشمل بإطلاقها الأفعال الصادرة عن الإنسان من طاعاتٍ ومعاصٍ. فإنه يصحُّ أن يقال: "إنَّ الطاعات والمعاصي من عند الله على أساس أنَّ الله أقدَرَ الإنسان على اختيارها، فهي وإنْ كانت صادرةً بمشيئة الإنسان ولكن يصحُّ نسبتها لله عزّ وجل من جهة أنّ الله تعالى أودع في الإنسان الاختيار والقدرة على ارتكابها، وأين هذا من الجبر الذي يعني أنَّ الإنسان بمثابة الآلة غير العاقلة والتي يُحرِّكها المختار في أيِّ وجهة أرادها.

فالإنسان بناءً على نظرية الجبر مثل السكين أينما غرزتها تنغرز، لذلك لا يصحُّ نسبة القتل إليها وكذلك لا يصحُّ نسبة المعصية -كالزنا- للإنسان بناءً على نظرية الجبر وإنَّما تُنسب إلى الله -تعالى عمّا يقولون علوّاً كبيراً- لأنَّه أُجبر بحسب الدعوى على ارتكابها.

وهذا بخلاف نظرية الاختيار -الأمر بين الأمرين- فإنَّها وإنْ كانت تُصحِّح إسناد كلِّ الأفعال لله تعالى إلا انَّ ذلك على أساس أنّه تعالى منح الإنسان المشيئة والقدرة ثمّ إنّ الإنسان بعد ذلك قد يختارُ الطاعة وقد يختارُ المعصية.

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة النساء / 78.

2- سورة آل عمران / 120.

3- سورة النساء / 78.

4- سورة النساء / 78.

5- التبيان -الشيخ الطوسي- ج3 / ص264، الصراط المستقيم -علي بن يونس العاملي- ج1 / ص25، تفسير الواحدي -الواحدي- ج1 / ص276، تفسير أبي السعود -أبو السعود- ج2 / ص205، تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج3 / ص346، تفسير القرطبي -القرطبي- ج5 / ص284.

6- سورة النساء / 78.

7- سورة الأعراف / 131.