الحسين (ع) عنده مواريث الأنبياء
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد -اللهم صل على محمد وآل محمد- وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.
اَلسَّلامُ عَلى الْحُسَيْنِ الْمَظْلُومِ الشَّهيدِ، اَلسَّلامُ على اَسيرِ الْكُرُباتِ وَقَتيلِ الْعَبَراتِ، اَللّـهُمَّ! اِنّي اَشْهَدُ اَنَّهُ وَلِيُّكَ وَابْنُ وَلِيِّكَ وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ الْفائِزُ بِكَرامَتِكَ، اَكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَةِ وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَةِ، وَاَجْتَبَيْتَهُ بِطيبِ الْوِلادَةِ، وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السادَةِ، وَقائِداً مِنَ الْقادَةِ، وَذائِداً مِنْ الْذادَةِ، وَاَعْطَيْتَهُ مَواريثَ الاَْنْبِياءِ، وَجَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلى خَلْقِكَ مِنَ الاْوْصِياءِ(1).
هذه المقطوعة من الزيارة المأثورة التي رواه مثل الشيخ الطوسي في مصباح المتهجِّد، وهي من الزيارات التي يُزار بها الإمام الحسين (ع) يوم الأربعين، ونحن هنا إنْ شاء الله تعالى سنقف على فقرةٍ واحدة منها وهي قوله: "وَاَعْطَيْتَهُ مَواريثَ الاْنْبِياءِ".
ما هو المراد من قوله (ع): "وَاَعْطَيْتَهُ مَواريثَ الاْنْبِياءِ"؟
المراد من ذلك أنَّ الحسين الشهيد (ع) قد ورث كمالاتِ الأنبياء، كلِّ الأنبياء، وملكاتِهم، وسجاياهم، وورث مكارم أخلاقهم، كلُّ ذلك قد ورثه الحسين الشهيد (ع) من الأنبياء، وورث مناصبَهم والمسؤولياتِ التي أُنيطت بهم، فكما كانوا حُججَاً لله تعالى على خلقه والأدلاءَ عليه وعلى شريعته كذلك هو الحسين (ع) كان حجَّةَ الله على جميع خلقه، والدليلَ على دينه وشريعته، وورث الحسين (ع) الرسالات التي أُنزلت عليهم فكُلِّفوا بحمل أعبائها، كذلك حملَ الحسين(ع) أعباءَ رسالات الله عزوجل.
الحسين (ع) جمع كمالات الأنبياء:
وتخطَّى مقامُ الحسين (ع) مقامات سائر الأنبياء ما عدا الرسول الكريم (ص) فهو مضافاً إلى أنَّه جمع كمالاتِهم وملكاتهم وجمع سجاياهم ومكارم أخلاقهم وحمل الأعباء التي أُنيطت بهم، مضافاً إلى كلِّ ذلك فإنَّ الله عزوجل أكرمه على سائر الأنبياء ما عدا الرسول الكريم (ص)، فهو أحظى عند الله من جميع الأنبياء، وأكرمُ على الله عزوجل من جميع الأنبياء. لذلك ثبت عن النبي الكريم (ص) أنَّه قال: "الحسن والحسين (عليهما السلام) سيدا شباب أهل الجنة"(2) فالجنة لا تختصُّ بأمة النبي الكريم (ص)، بل يدخلها الأبرار من الأولين من لدن آدم، ويدخلها الأبرار من الآخرين، والحسين سيدهم، فيهم الأنبياء، وفيهم الأوصياء، وفيهم الأصفياء، وفيهم الأبرار والأخيار والأتقياء من الأولين ومن الآخرين، كلُّ هؤلاء يقول الرسول (ص): إنَّ الحسن والحسين سيدان عليهم فكلِّ هؤلاء من الأنبياء والأصفياء والأولياء والأتقياء والأخيار والأبرار هم دون الحسن والحسين (عليهما السلام) في الفضل.
تعلمون -أيُّها الأخوة الأعزاء- إنَّ من الثابت عند عموم المسلمين هو انَّ الجنة ليس فيها إلا من هو في عمر الشباب، فلا يدخلها أحدٌ وهو كهلٌ أو شيخ، وكلُّ من يموت شيخاً أو كهلاً فإنَّه يُصبح في الجنة شاباً إذا حباه الله عزوجل نعمة الدخول إليها، وكل مؤمنٍ يموت كهلاً فإنَّه يُصبح شاباً في الجنة، والحسين سيده، والسيادة تقتضي الأفضلية بلا ريب.
فمعنى أنَّ الحسين (ع) ورث الأنبياء هو انَّه حظي بكل ما حظي به الأنبياء من سجايا وملكاتٍ ومناصب وقامات، لذلك ورد في الزيارات المأثورة عن أهل البيت قولهم: "السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله! السلام عليك يا وارث نوح نبي الله! السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله! السلام عليك يا وارث موسى كليم الله! السلام عليك يا وارث عيسى روح الله! السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله" فهو وارثهم لأنَّه امتدادٌ لهم في حمل أعباء الرسالة، وامتدادٌ لهم في كمالاتهم ومكارم أخلاقهم، وامتدادٌ لهم في كونه إماماً للخلق كما كانوا أئمةً للخلق يُقتدى بهم ويحتذى بسجاياهم وأفعالهم وأقوالهم، هذا هو أحدُ معاني ما ورد من انَّ الله تعالى منحَ الحسين مواريث الأنبياء.
الحسين (ع) ورث علوم الأنبياء:
وكذلك فإنَّ من معاني قوله (ع): "وَاَعْطَيْتَهُ مَواريثَ الاْنْبِياءِ" هو أنَّ الحسين (ع) مُنِحَ العلم الذي منحَهُ اللهُ تعالى للأنبياء وأنزله من لدنه عليهم، فكلُّ علمٍ أنزله اللهُ تعالى على أنبيائه ورسله من لدن آدم إلى النبيِّ الكريم (ص) قد ثبت أنَّ الله عزَّوجلَّ قد جمعه في قلب الرسول الكريم (ص)، فما مِن علمٍ أنزله الله عزوجل على نبيٍّ من أنبيائه أو رسولٍ من رسله أو صفيٍّ من أصفيائه إلا وقد أعطاه للنبيِّ الكريم (ص)، وكلُّ ما يعلمه الرسول الكريم (ص) عن الله تعالى فقد علَّمه عليَّ ابن أبي طالب (عليه السلام)، فعليٌّ جامعٌ لعلوم الأنبياء، كلِّ الأنبياء، وبعده الحسن (ع) وبعده الحسين(ع)، وبعده عليُّ بن الحسين إلى أنْ ورث كلَّ ذلك العلم قائمُ آل محمد صلى الله على محمد آل محمد.
رويَ عن أبي جعفر الباقر (ع) انَّه قال: "إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ جَمَعَ لِمُحَمَّدٍ ص سُنَنَ النَّبِيِّينَ مِنْ آدَمَ وهَلُمَّ جَرّاً إِلَى مُحَمَّدٍ (ص)، قِيلَ لَه: ومَا تِلْكَ السُّنَنُ؟ قَالَ: عِلْمُ النَّبِيِّينَ بِأَسْرِه، وإِنَّ رَسُولَ اللَّه ص صَيَّرَ ذَلِكَ كُلَّه عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع)"(3).
وروي عن أَبي عَبْدِ اللَّه (ع) انَّه قال: "إِنَّ سُلَيْمَانَ وَرِثَ دَاوُدَ وإِنَّ مُحَمَّداً وَرِثَ سُلَيْمَانَ، وإِنَّا وَرِثْنَا مُحَمَّداً وإِنَّ عِنْدَنَا عِلْمَ التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ والزَّبُورِ وتِبْيَانَ مَا فِي الأَلْوَاحِ"(4) إنَّ سليمان ورث داود، وإنَّ محمداً (ص) ورث سليمان وإنَّا ورثنا محمداً (ص) وإنَّ عندنا علم التوراة والإنجيل والزبور وتبيانُ ما في الألواح يعني عندنا ألواحُ موسى والتي هي التوراة، وعندنا تبيانها من عند الله عز وجل وبيانها.
وروى الكليني بسندٍ معتبر عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: "ألواح موسى (عليه السلام) عندنا، وعصا موسى عندنا، ونحن ورثة النبيين"(5).
هذا شيء من علوم الأئمة (عليهم السلام) التي منحهم الله عزوجلَّ إياها، وكان الحسين (ع) واحداً من هؤلاء الأوصياء الذين ورثوا علوم الأنبياء.
الكتاب الذي نزل على محمد (ص) من مواريث النبوة:
ومن مواريث النبوة العلم بكلِّ كتاب الله الذي نزل على قلب رسول الله (ص) ولذلك روي عن أَبي عَبْدِ اللَّه (ع) انَّه قال: "واللَّه إِنِّي لأَعْلَمُ كِتَابَ اللَّه مِنْ أَوَّلِه إِلَى آخِرِه كَأَنَّه فِي كَفِّي فِيه خَبَرُ السَّمَاءِ وخَبَرُ الأَرْضِ وخَبَرُ مَا كَانَ وخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ قَالَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: {فِيه تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ }"(6)
وعن أبي عبد الله (ع) أنَّه قال تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾(7) -من هو؟ واحدٌ من أوصياء سليمان وهو آصف بن برخيا، كانوا جلوساً يتذاكرون أمر بلقيس بعد أن جاء الهدهد بخبرها وخبر قومها، وبعد مكاتبات أزمعت على أن تأتي إلى سليمان، فسليمان (ع) أراد أن يُريها شيئاً من آيات النبوة، قال: من يأتيني بعرشها قبل أن تصل؟ فقال: عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من هذا المجلس، ﴿قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾(8)، و﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ يعني انَّه سيأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى الشام في طرفة عين، وهذا ما وقع، فقبل أن يرتدَّ إلى سليمان طرْفُه وإذا بعرش بلقيس بين يديه، ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا﴾(9). الإمام الصادق يقول: هذا عنده علمٌ من الكتاب، وكلمة (من) تفيد التبعيض لذلك يُعبَّر عنها في علم النحو ب(من) التبعيضية، فمفاد الآية انَّ الذي جاء بعرش بلقيس كان عنده شيء من علم الكتاب، ونحن عندنا علم تمام الكتاب،- "وعندنا -والله- علم الكتاب كله"(10).
وروى الكليني بسندٍ معتبر عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ جُنْدَبٍ أَنَّه كَتَبَ إِلَيْه الرِّضَا (ع): أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مُحَمَّداً (ص) كَانَ أَمِينَ اللَّه فِي خَلْقِه، فَلَمَّا قُبِضَ (ص) كُنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ وَرَثَتَه، فَنَحْنُ أُمَنَاءُ اللَّه فِي أَرْضِه عِنْدَنَا عِلْمُ الْبَلَايَا والْمَنَايَا... نَحْنُ النُّجَبَاءُ النُّجَاةُ، ونَحْنُ أَفْرَاطُ الأَنْبِيَاءِ ونَحْنُ أَبْنَاءُ الأَوْصِيَاءِ ونَحْنُ الْمَخْصُوصُونَ فِي كِتَابِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ ونَحْنُ أَوْلَى النَّاسِ بِكِتَابِ اللَّه .."(11).
فأحد معاني أن الحسين أُعطي مواريث النبوة هو انّه أُعطي علم الكتاب كلِّه.
الاسم الأعظم من مواريث الأنبياء:
ومن مواريث الأنبياء، الاسم الأعظم، وقد أعطاه الله عزوجل أو أعطى بعضه لأهل البيت (عليهم السلام). فبالاسم الأعظم كان يُحيي عيسى الموتى بإذن الله تعالى ويُبرأ الأكمه والأبرص، وكان يخبرهم بما يأكلون وما يدَّخرون في بيوتهم، وبإسم الله الأعظم كان يمشي على الماء، وبإسم الله الأعظم كانت تظهر الكثير من المعجزات على أيدي الأنبياء،، وقد ثبت أنَّ الله تعلى علَّم نبيَّه الكريم (ص) الاسم الأعظم وورث علمه الأئمة(عليهم السلام) من بعده، والروايات في ذلك كثيرة:
منها: ما رواه الكليني بسنده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر (ع): "إِنَّ اسْمَ اللَّه الأَعْظَمَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وسَبْعِينَ حَرْفاً -لعله بمعنى انَّ له ثلاثاً وسبعين مرتبة ومقاماً -"وإِنَّمَا كَانَ عِنْدَ آصَفَ -الذي تحدَّثنا عنه قبل قليل وقلنا انَّه الذي جاء بعرش بلقيس من اليمن إلى الشام في طرفة عين، جاء به لأنَّ عنده من الاسم الأعظم- يقول الإمام أبو جعفر(ع): وإِنَّمَا كَانَ عِنْدَ آصَفَ مِنْهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ فَتَكَلَّمَ بِه فَخُسِفَ بِالأَرْضِ مَا بَيْنَه وبَيْنَ سَرِيرِ بِلْقِيسَ حَتَّى تَنَاوَلَ السَّرِيرَ بِيَدِه ثُمَّ عَادَتِ الأَرْضُ كَمَا كَانَتْ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ ونَحْنُ عِنْدَنَا مِنَ الِاسْمِ الأَعْظَمِ اثْنَانِ وسَبْعُونَ حَرْفاً وحَرْفٌ وَاحِدٌ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِه فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَه ولَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ"(12).
ومنها: ما رواه الكليني بسنده عَنْ هَارُونَ بْنِ الْجَهْمِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّه(ع) قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ (ع) أُعْطِيَ حَرْفَيْنِ كَانَ يَعْمَلُ بِهِمَا وأُعْطِيَ مُوسَى أَرْبَعَةَ أَحْرُفٍ وأُعْطِيَ إِبْرَاهِيمُ ثَمَانِيَةَ أَحْرُفٍ وأُعْطِيَ نُوحٌ خَمْسَةَ عَشَرَ حَرْفاً وأُعْطِيَ آدَمُ خَمْسَةً وعِشْرِينَ حَرْفاً وإِنَّ اللَّه تَعَالَى جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّه لِمُحَمَّدٍ (ص) وإِنَّ اسْمَ اللَّه الأَعْظَمَ ثَلَاثَةٌ وسَبْعُونَ حَرْفاً أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ (ص) اثْنَيْنِ وسَبْعِينَ حَرْفاً وحُجِبَ عَنْه حَرْفٌ وَاحِدٌ".(13).
والروايات التي أكدت على أن أهل البيت (عليهم السلام) كان عندهم من الاسم الأعظم اثنان وسبعون عديدة، نكتفي بهذا المقدار الذي قرأناه. هذا أحد معاني أن الحسين أُعطي مواريث الأنبياء.
الكتب السماوية من مواريث الأنبياء:
فالحسين (ع)- كما هو سائر الأئمة (عليهم السلام)- أُعطي جميع الكتب التي أُنزلت على الأنبياء كما أنزلت، التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وما أُنزل على نوح وما أُنزل على آدم وهكذا، فكلُّ كتاب نزل على نبيٍّ من الأنبياء الذين يصل عددهم إلى مئة ألف وأربع وعشرين ألف نبي- فكلُّ كتاب نزل على أحد هؤلاء الأنبياء أصبح من مواريث الأنبياء، وقد توارثها الأنبياء بعد ذلك إلى أن وصلت إلى النبيِّ محمد (ص) ثم إلى أهل بيته (عليهم السلام).
والروايات في ذلك كثيرة، منها ما رواه الكليني في الكافي بسنده عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ انه قصد أبا عبد الله الصادق (ع) وكان فِي رفقته رجلٌ من علماء النصارى يُسمَّى بُرَيْه، فحين جَاءَ مَعَه إِلَى مجلس أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) لَقِيَ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (ع) فَحَكَى لَه هِشَامٌ الْحِكَايَةَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ (ع) لِبُرَيْه: يَا بُرَيْه كَيْفَ عِلْمُكَ بِكِتَابِكَ؟ قَالَ: أَنَا بِه عَالِمٌ ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ ثِقَتُكَ بِتَأْوِيلِه؟ قَالَ: مَا أَوْثَقَنِي بِعِلْمِي فِيه قَالَ: فَابْتَدَأَ أَبُو الْحَسَنِ (ع) يَقْرَأُ الإِنْجِيلَ فَقَالَ: بُرَيْه إِيَّاكَ كُنْتُ أَطْلُبُ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ مِثْلَكَ قَالَ: فَآمَنَ بُرَيْه وحَسُنَ إِيمَانُه وآمَنَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ مَعَه فَدَخَلَ هِشَامٌ وبُرَيْه والْمَرْأَةُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَحَكَى لَه هِشَامٌ الْكَلَامَ الَّذِي جَرَى بَيْنَ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (ع) وبَيْنَ بُرَيْه فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع): ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فَقَالَ بُرَيْه أَنَّى لَكُمُ التَّوْرَاةُ والإِنْجِيلُ وكُتُبُ الأَنْبِيَاءِ قَالَ هِيَ عِنْدَنَا وِرَاثَةً مِنْ عِنْدِهِمْ نَقْرَؤُهَا كَمَا قَرَؤُوهَا ونَقُولُهَا كَمَا قَالُوا، إِنَّ اللَّه لَا يَجْعَلُ حُجَّةً فِي أَرْضِه يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي"
إذن فالكتب التي أنزلها الله عزَّوجل على أنبيائه هي من مواريث الأنبياء، وكذلك فإنَّ من مواريث الأنبياء هي مواريث نبوة النبي الكريم (ص)، فالنبي(ص) قد خصَّه الله بعلم لم يكن قد منحه لأنبيائه السابقين وهو علم الكتاب الذي فيه تبيانٌ لكلِّ شيء، فالتوراة مثلاً وصفه الله عزوجل بقوله: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾(14) وأما الكتاب الذي نزل على محمد (ص) فوصفه تعالى بقوله: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾(15)، فالكتاب الذي هو تبيانٌ لكلِّ شيء من مواريث النبوة، وكذلك فإنَّهم ورثوا السنة الشريفة بسعتها وبجميع تفاصيلها ودقائقها، فكان أهل البيت(ع) محيطين بها.
الصحيفةُ والجامعةُ والجَفرُ من مواريث النبوة:
وكان من مواريث النبوَّة الصحيفةَ التي خلَّفها رسول الله (ص) طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله (ص) وبإملائه وخطِّ عليِّ بن أبي طالب (ع) ومن مواريث النبوة الجامعة كانت بإملاء رسول الله (ص) وخطِّ عليِّ بن أبي طالب (ع) ويدلُّ على ذلك رواياتٌ عديدة نكتفي هنا بقراءة بعضها:
الأولى: ما رواه الكليني في الكافي بسند معتبر عن أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) فَقُلْتُ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ هَاهُنَا أَحَدٌ يَسْمَعُ كَلَامِي؟ قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (ع) سِتْراً بَيْنَه وبَيْنَ بَيْتٍ آخَرَ فَاطَّلَعَ فِيه ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ شِيعَتَكَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) عَلَّمَ عَلِيّاً ع بَاباً يُفْتَحُ لَه مِنْه أَلْفُ بَابٍ قَالَ: فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ عَلَّمَ رَسُولُ اللَّه (ص) عَلِيّاً (ع) أَلْفَ بَابٍ يُفْتَحُ مِنْ كُلِّ بَابٍ أَلْفُ بَابٍ قَالَ: قُلْتُ: هَذَا واللَّه الْعِلْمُ قَالَ: فَنَكَتَ سَاعَةً فِي الأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّه لَعِلْمٌ ومَا هُوَ بِذَاكَ قَالَ: ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ وإِنَّ عِنْدَنَا الْجَامِعَةَ ومَا يُدْرِيهِمْ مَا الْجَامِعَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ ومَا الْجَامِعَةُ؟ قَالَ: صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً بِذِرَاعِ رَسُولِ اللَّه (ص) وإِمْلَائِه مِنْ فَلْقِ فِيه وخَطِّ عَلِيٍّ بِيَمِينِه فِيهَا كُلُّ حَلَالٍ وحَرَامٍ وكُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه حَتَّى الأَرْشُ فِي الْخَدْشِ وضَرَبَ بِيَدِه إِلَيَّ فَقَالَ: تَأْذَنُ لِي يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّمَا أَنَا لَكَ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ قَالَ فَغَمَزَنِي بِيَدِه وقَالَ حَتَّى أَرْشُ هَذَا كَأَنَّه مُغْضَبٌ -يعني فيه حكم ما لو خدش إنسانٌ جلد آخر، أي فيه بيان الدية المترتِّبة ذلك، وبهذا يُعبِّر عن اشتمال الصحيفة على دقائق وتفاصيل الأحكام الشرعية الخطير منها والحقير- قَالَ قُلْتُ هَذَا واللَّه الْعِلْمُ قَالَ إِنَّه لَعِلْمٌ ولَيْسَ بِذَاكَ. ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: وإِنَّ عِنْدَنَا الْجَفْرَ ومَا يُدْرِيهِمْ مَا الْجَفْرُ؟ قَالَ قُلْتُ: ومَا الْجَفْرُ؟ قَالَ: وِعَاءٌ مِنْ أَدَمٍ فِيه عِلْمُ النَّبِيِّينَ والْوَصِيِّينَ وعِلْمُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ مَضَوْا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ قُلْتُ: إِنَّ هَذَا هُوَ الْعِلْمُ، قَالَ: إِنَّه لَعِلْمٌ ولَيْسَ بِذَاكَ. ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: وإِنَّ عِنْدَنَا لَمُصْحَفَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) ومَا يُدْرِيهِمْ مَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)؟ قَالَ: قُلْتُ: ومَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)؟ قَالَ: مُصْحَفٌ فِيه مِثْلُ قُرْآنِكُمْ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، واللَّه مَا فِيه مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ -يعني انَّ حجمه بحجم القرآن ثلاث مرات ولكنَّه ليس مشتملاً على شيءٍ من آيات القرآن الكريم- قَالَ: قُلْتُ: هَذَا واللَّه الْعِلْمُ قَالَ: إِنَّه لَعِلْمٌ ومَا هُوَ بِذَاكَ. ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: إِنَّ عِنْدَنَا عِلْمَ مَا كَانَ وعِلْمَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ هَذَا واللَّه هُوَ الْعِلْمُ، قَالَ: إِنَّه لَعِلْمٌ ولَيْسَ بِذَاكَ. قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَأَيُّ شَيْءٍ الْعِلْمُ قَالَ: مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ، الأَمْرُ مِنْ بَعْدِ الأَمْرِ، والشَّيْءُ بَعْدَ الشَّيْءِ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(16).
الثانية: ما رواه الكليني في الكافي بسند معتبر عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) يَقُولُ: إِنَّ عِنْدِي الْجَفْرَ الأَبْيَضَ قَالَ: قُلْتُ: فَأَيُّ شَيْءٍ فِيه؟ قَالَ زَبُورُ دَاوُدَ، وتَوْرَاةُ مُوسَى، وإِنْجِيلُ عِيسَى، وصُحُفُ إِبْرَاهِيمَ (ع) والْحَلَالُ والْحَرَامُ، ومُصْحَفُ فَاطِمَةَ، مَا أَزْعُمُ أَنَّ فِيه قُرْآناً، وفِيه مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْنَا ولَا نَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ حَتَّى فِيه الْجَلْدَةُ، ونِصْفُ الْجَلْدَةِ، ورُبُعُ الْجَلْدَةِ، وأَرْشُ الْخَدْشِ. وعِنْدِي الْجَفْرَ الأَحْمَرَ، قَالَ: قُلْتُ: وأَيُّ شَيْءٍ فِي الْجَفْرِ الأَحْمَرِ؟ قَالَ: السِّلَاحُ وذَلِكَ إِنَّمَا يُفْتَحُ لِلدَّمِ يَفْتَحُه صَاحِبُ السَّيْفِ لِلْقَتْلِ.."(17).
الثالثة: ما رواه الكليني أيضاً في الكافي بسند معتبر عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْجَفْرِ؟ فَقَالَ: هُوَ جِلْدُ ثَوْرٍ مَمْلُوءٌ عِلْماً، قَالَ لَه: فَالْجَامِعَةُ؟ قَالَ: تِلْكَ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فِي عَرْضِ الأَدِيمِ مِثْلُ فَخِذِ الْفَالِجِ فِيهَا كُلُّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْه، ولَيْسَ مِنْ قَضِيَّةٍ إِلَّا وهِيَ فِيهَا، حَتَّى أَرْشُ الْخَدْشِ. قَالَ: فَمُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)؟ قَالَ:.. إِنَّ فَاطِمَةَ مَكَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّه (ص) خَمْسَةً وسَبْعِينَ يَوْماً وكَانَ دَخَلَهَا حُزْنٌ شَدِيدٌ عَلَى أَبِيهَا وكَانَ جَبْرَئِيلُ (ع) يَأْتِيهَا فَيُحْسِنُ عَزَاءَهَا عَلَى أَبِيهَا، ويُطَيِّبُ نَفْسَهَا، ويُخْبِرُهَا عَنْ أَبِيهَا ومَكَانِه، ويُخْبِرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا، وكَانَ عَلِيٌّ (ع) يَكْتُبُ ذَلِكَ فَهَذَا مُصْحَفُ فَاطِمَة (ع)"(18).
فمعنى قوله (ع): "وَاَعْطَيْتَهُ مَواريثَ الاْنْبِياءِ" أنَّ كل ما كان قد أعطاه الله تعالى للأنبياء من آيات ومن علم فقد صار إلى أهل بيت رسول الله (ص) ومنهم الحسين الشهيد -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- مصباح المتهجد -الشيخ الطوسي- ص 788.
2- الأمالي -الشيخ الطوسي- ص 85.
3- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 222.
4- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 225.
5- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 231.
6- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 229.
7- سورة النمل / 40.
8- سورة النمل / 39.
9- سورة النمل / 41.
10- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 27 ص 181.
11- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 223.
12- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 230.
13- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 230.
14- سورة الأعراف / 145.
15- سورة النحل / 89.
16- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 239.
17- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 240.
18- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 241.