مولد النور والخلق العظيم

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(1)

صدق الله العلي العظيم

الحديث سيكون في محورين:

الأول حول مولد النور، والقيم الجديدة التي جاء بها من عندالله -تبارك وتعالى-، والمحور الثاني حول دلالات الآية المباركة التي صدّرنا بها الحديث.

المحور الأول: مولد النور

النبي المُنتظر

نبارك لكم بدايةً يوم المولد العظيم، الذي لم تطلع شمسٌ على يومٍ في هذه الدنيا هو أشرف، وأفضل، وأكثر بركةً منه، حيث هو اليوم الذي كانت تنتظره الأنبياء، وهو اليوم الذي كانت تنتظره الأولياء، وهو اليوم الذي كانت ترقبه الملائكة، وهو اليوم الذي مهّدت له الرسالات التي بعثها الله تعالى للأمم على امتداد تأريخها الضارب في عمق الزمن، لذلك هو أعظم يومٍ،، وأفضل يومٍ، وأشرف يومٍ على وجه التأريخ.

من الظلمات

فبولادة الرسول الكريم (ص) بدأ فصلٌ جديد لهذه البشرية، حيث كانت سادرةً في ظلمات الجهل، والضلال، والغيِّ، والفساد، وكان الظلم يعمُّ أرجاءَها، وكان الجهل مستشرياً في أوساطها، وكانت تعيش حالةً من الضعف والمسكنة، ومن الغوغائيةِ والفوضى، ولم يكن لها من قيمٍ سوى التفاخر بالأنساب والأحساب، وكان السائد في علائقها البطش والقوة والخديعة والمكر. وكان الناس على طبقات، فمنهم الضعيف، المظلوم، المكلوم، الذي لا يأمن على دمه، ولا يأمن على عرضه، ولا يأمن على ماله، ينامُ حين ينام وهو يتوجَّس؛ لعلَّ روحه تُزهق بضربة طائش، ولعلَّ عرضه يُهتك بفعل مستهتر وكما عبَّرت السيدة فاطمة (ع)، "وكنتم على شفا حفرةٍ من النار مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام تشربون الطرق وتقتاتون القدَّ، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم .."(2). فكانوا لا يأمنون على شيءٍ ممَّا في أيديهم .. فعلى مستوى القيم، وعلى مستوى الأمن، وعلى مستوى التحضر، كانت البشرية تعيش في أسوأ حالاتها.

إلى النور

حتى إذا ما بُعث الرسول الكريم (ص) انبعث معه النور والهدى، فقامت للبشرية حضارة -ولم تقم للعرب وحسب، بل قامت للبشرية كلِّ البشرية-، وكلُّ من تخلَّف عن الرسول (ص)، ودعوته فإنَّما تخلَّف عن حظِّه.

القيم المحمدية الجديدة:

فأسّس قيماً لم تكن الناس تعرفها، ومازالت هذه القيم تتحدَّى العلم والحضارات، وتتحدّى كل علماء الإنسان والاجتماع، وعلماء الفلسفة والأخلاق، وبقيت غير قابلة للتبديل، وغير قابلة للتغيير، وليس ثمةَ من قيمةٍ من هذه القيم يمكن أن يُبتكر ما هو أحسن منها، أو يستجدُّ ما يفضي إلى نقضها، فكلُّ القيم التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان قد جاء بها محمد (ص)، وكلُّ خُلقٍ رفيع يبني الإنسان في روحه، وفي فكره، وفي حضارته، وفي علاقاته، قد جاء به محمد (ص). وما من شيءٍ يُساهم في بناء المجتمعات، وتقويمها، وتطويرها، وتقدمها، وعلوِّها، إلا وجاء به محمد (ص).

لو أَنصَفنا الناسُ فالرسول الكريم (ص) لم يأتِ ليُغيِّر واقعاً اجتماعياً وحسب، بل جاء ليُغيِّر واقعاً إنسانياً، وجاء ليصوغ الإنسان من جديد، فصاغه في فكره، وفي مشاعره، وصاغه في سلوكه الشخصي، وفي علاقاته مع أسرته، ومع مَن يحيطه، ومع الآخرين، صاغه في علاقته مع الله -عز وجل-، وفي علاقته مع المستكبرين والجبابرة، ومع الصغار والمستضعفين.

نموذجين من القيم المحمدية:

أولاً: الحرية الحقيقية

قال: لا إله إلا الله، إلا الله، ولا عظيم إلا الله، ولا معبود إلا الله، فلتسقط الأصنام، وليسقط الأحبار والقساوسة، وليسقط المستكبرون والجبابرة .. لاكبير في الكون سوى الله، فهو الذي حقُّه أن يُخشى، وهو الذي حقُّه أن يُطاع، وهو الذي حقُّه أن يُتَّبع، فلا يصحّ لأحدٍ أن يتَّبع غير الله، أو أن يسجد لغير الله .. شعارٌ بعث العزةَ والكرامةَ في مشاعر الناس، فبعد أن كانوا يستكينون لأحبار اليهود والقساوسة، وبعد أن كانوا يخضعون للجبابرة وأهل البطش والقوة، قال لا يحقُّ لكم أن تخضعوا لغير الله، لذلك استحقَّ أن يُوصف -كما وصفه القرآن- ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾(3) .. كانت ثمَّة أغلالٌ كثيرة تُثقل كاهل البشرية، فرضتها طبيعة العلاقة بالجبابرة والمستكبرين وطبيعة العلاقة بالقساوسة والأحبار ومن يتسمَّون بالعلم، كلُّ هؤلاء ليس لهم من موقعٍ بعد أنْ صدع محمدٌ (ص) بالرسالة وأعلن شعاره أنْ لا إله إلا الله، ولا معبود ولا مُطاع إلا الله، ولا قوي، ولا عظيم إلا الله، وليس لأحدٍ الحقّ في أن يُعبد، أو أن يطاع، وأن يُمتثل أمره إلا الله -عزَّ اسمُه وتقدس- .. فتحرر الإنسان من كلِّ أحد، وعلى ذلك تأسست علاقات الناس مع بعضهم البعض.

ثانياً: المساواة الواقعية

فهم سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحدٍ على أحد، ولا فضل لقوي على ضعيف، ولا فضل لعربي على أعجمي، والتفاضل إنَّما هو في مستوى العلاقة مع الله، فمتى ما كنُتَ أوثق صلة بالله، فأنت أكرم على الله، وأنت أحظى عند الله -عزَّ اسمه وتقدس-.

هذه مفاهيمُ جديدة، وقيمٌ جديدة، فقد كان التفاضل بالأنساب، وكان التفاضل بالأحساب، وكان التفاضل بالقبيلة، وكان التفاضل بالقوة والبطش، وكان التفاضل بالمال والجاه .. أما بعد أنْ صدع محمد (ص) بالرسالة، فالتفاضل أصبح ليس بالأنساب، ولا بالأحساب، ولا بالقوة، ولا بالبطش.. فالخطاب الذي كان يُوجَّه لعمَّار ولبلال وجَّهه رسول الله (ص) لكسرى فارس، ولهرقل روما: كلكم عباد الله، فليس لكم أن تستعبدوا أحداً، وأنتم سواسية كأسنان المشط، فليس لأحدكم فضلٌ على أحد .. هذه قيمة إنسانية جديدة أسَّس لها الرسول الكريم (ص).

المحور الثاني: دلالات الآية الكريمة: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾

استحقَّ الرسول الكريم"ص"أن يصفه الله تعالى بهذا الوصف والذي لم يصف به أحداً من الخلْقِ على امتداد تاريخ الرسالات الطويل، فليس ثمَّة من رسول، ولا من نبيّ، ولا ملَك، ولا ولي كان قد وُصف بهذا الوصف، فهو الرجل الأوحد في تأريخ البشرية وفي مستقبلها.

دلالات الآية:

دلالات هذه الآية الكريمة يمكن استيحاؤها من خلال التوجُّه إلى مجموعة أمور، منها:

أولاً التوجُّه إلى مصدر المدح

قد يُمدحُ أحد بما هو أسمى من هذا المدح، ولكن يكون هذا المدح قد صدر من شاعرٍ، أو من متزلِّفٍ، أو من قاصر، أو من رجل عالم -أيَّاً كان مبلغ علمه- .. وتارة يصدر المدح من الله -جل وعلا-، ولا قياس بين المصدرين. وأيضاً، حينما نتوجه إلى أمرٍ آخر، وهو أنّ كلَّ خلق الله حاضرون عند الله -عزَّ وجل- في محضرٍ واحد، يُمايز بينهم في ملكاتهم، وفي صفاتهم، ثم نجده يصطفي من كلِّ هذا الخَلق -الذي مضى منه كثير، وسيأتي منه كثير-، محمداً، ويمتدحه بهذا المدح: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. حين نتوجّه لهذا المعنى سنعرف شيئاً من دلالات هذه الآية المباركة.

ثانياً: التوجُّه إلى معنى الخُلق الذي وُصف بالعظمة

المدلول الآخر هو وصف الخُلُق بالعظمة، ولا أعتقد أن ثمَّة وصفاً يُعبِّر عن مستوى الخُلُق بأعلى من هذا الوصف في لغة العرب. ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(4). ثم لنبحث عن خلفيات هذا الوصف، ما معنى الخُلُق؟ الخُلُق مَلَكةٌ نفسانية راسخة ومتجذِّرة ومتأصِّلة في القلب، بحيث تصدر السجايا الحميدة عن صاحب الملكة بسهولةٍ ويسر.

قد يتكلَّف الإنسان الكرم، وقد يتكلَّف الشجاعة، وقد يتكلَّف النُبل، وقد يتكلَّف السماحة في المعاملة والبُشر، وقد يتكلَّف الرأفة والرفق، وقد يتكلَّف الإيثار، فيشعر بصعوبةٍ ومشقةٍ عندما يمارس مثل هذا الخُلُق. ذلك لأنَّ هذه السجايا ليست نابعة من ذاته وإنَّما هي شيء يتخلَّق به وهو أمرٌ حَسَن .. ولكن قد يكون ثمَّةَ إنسان تصدرُ منهُ كلُّ هذه السجايا عن يسرٍ وسهولة ومن دون تكلُّف، وهذا هو صاحب المَلَكة .. فهو لا يتكلَّف السجايا الحميدة ذلك لأنَّها حقيقةُ ذاته، فهو لا يتكلَّف الشجاعة مثلاً ذلك لأنها جزء من طبيعته. ولا يتكلَّف الكرم فهو كريم بطبعه، وهو جواد بطبعه، و النبل من مقتضيات ذاته، وهكذا الإيثار والحلم والرأفة والرحمة وسائر سجايا الخير فكلُّها تنبع عن ذات عُجنت وجُبلت على هذه السجايا، لذلك فهو لا يستشعر المشقة والعناء عندما يمارس هذه السجايا إذ أنَّها من مقتضيات ذاته.

والقرآن حينما نعت الرسول الكريم (ص) بذي الخلق العظيم أراد التعبير عن أنَّه مضافاً إلى كونه جامعاً لمكارم الأخلاق أنَّ أخلاقه وسجاياه لم تكن شيئًا يتكلَّفه وإنَّما هو شيء قد طُبع عليه وإمتزج بذاته فهو والخلُق الكريم شخصيةٌ واحدة.

ثالثاً: التوجُّه إلى آثار الخُلُق المحمدي

ما هو أثر هذا الخلق؟

القرآن الكريم يُشير إلى بعض آثار خُلُق الرسول الكريم (ص)، يقول: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ﴾(5)، هذه الآية الكريمة تذكر أنَّ واحداً من سجايا الرسول الكريم (ص) وهي الرحمةكان لها الأثر البالغ في انْ يلتفَّ حولههؤلاء الذين كانوا أجلافاً، وكانت القسوة تملأ جوانحهم، وكانوا لا يستشعرون الرحمة، والرحمةُ عندهم إنَّما هي للضعيف. فالرسول (ص) وهو في قوته، وفي عنفوانه، ورغم أنَّ الجزيرة -من أقصاها إلى أقصاها- قد دانت له، فقد كسّر أصنام قريش فتكسَّر لذلك جبروتُهم، وهدم حصون اليهود فتاوت عند انهيارها عزّتُهم وكرامتهم وهيبتهم، ورغم ذلك كان رحيماً رؤوفا! كيف يمكن أن يتفهَّم العرب القساة هذه الحالة من التناغم بين الرحمة والقوة؟! القويّ لا يكون رحيماً، والقوي لا يكون رؤوفاً، فالرأفة للصغار، للضعاف، للنساء .. الرسول (ص) جاء وغيِّر هذه المفاهيم، فهو في الوقت الذي كان فيه زعيماً قوياً حازما، وإذا غضب تغضب معه الألوف، وإذا شهر سيفه برقت حوله آلاف السيوف، ولكنَّه كان رحيماً رؤوفاً! هذا مفهوم جديد أسَّس له الرسول (ص)، فكان له الأثر البالغ في انتشار الدعوة، وكثيرٌ من هؤلاء دخلوا الإسلام لا لشيءٍ، إلَّا لرأفة الرسول (ص) ورحمته.

نموذج من أثر الخُلُق العظيم:

دخل رجلٌ إعرابيّ جلف قاسٍ، لم يكن يتعامل إلا مع الضباع والسباع والوحوش، هذا الإعرابي سمع أنَّ رجلاً بُعث في الجزيرة اسمه محمد (ص)، وأنه آذى قريشاً بدعوته؛ لأنَّه قد سفَّه آلهتهم. فأراد أن يكون له موقع ومحل؛ فإنَّه إذا قتل رجلاً شريفاً فهو شريف، إذ لا يقتل الشريف إلا شريف رفيع، فجاء حاملاً سيفه، وهو يصيح: أين محمد؟ أين محمد؟ قالوا له: هذا محمد جالس. قال له (ص): تفضل واسترح. استغرب الإعرابي! ليس من عادة الزعماء أن يكونوا هكذا: زعيم يجلس مع أصحابه في مجلسٍ وضيع وعلى الأرض!! أين الديباج؟! أين التيجان؟! وأين الحشم؟! وأين الحُجَّاب؟! كلُّ ذلك لم يكن! ثم إنِّي قدجئت وعلى وجهي أثر الغضب والانتقام، وهو يستقبلني بكل بُشرٍ ورحابة صدر، ويحيِّيني، ويوسِّع لي في مجلسه! ثم أسأله بخشونة، ويجيبني برحمة ورأفة -وهو قادر على أن يُصدر أمراً فأُقتل!- حينها قال الأعرابي: إذا كان هذا هو الخُلقُ الذي جئتَ به، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّك رسول الله، لا يمكن أن يُبعث رجل وتكون هذه سجاياه، ثم يكون كاذباً.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة القلم / 4.

2- الاحتجاج -للطبرسي- ج1 / ص136.

3- سورة الأعراف / 157.

4- سورة القلم / 4.

5- سورة آل عمران / 159.