سورة الفجر - 4: مقياس الهوان والكرامة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم وأفتح علينا أبواب رحمتك وانشر علينا خزائن علومك ومعرفتك.

قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ / وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ / كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾(1)

صدق الله مولانا العلي العظيم.

المقياس الموهوم

الآيات المباركات التي تلوناها تُوصِّف مشاعر الإنسان في حالتي الغنى والفقر، فتُفيد أنَّ الإنسان إذا ما اتَّسع رزقه وكثُر مالُه يستشعر الرضا والغِبطة والسرور، ويَحسبُ أنَّ الله يحبُّه وانَّه يخصُّه دون خلقه بالفضل، فهو كريمٌ على الله تعالى، وجيه عنده، ولذلك أكرمه ونعمه وحباه.

هذا ما يستشعره الإنسان عندما يتَّسع رزقه، وإذا ما ابتلاه فقدَر -فضيّق- عليه رزقه يستشعر الحزن، ويحسب أنَّ الله تعالىإنَّما فعل به ذلك لهوانه عليه، فهو يستشعر أنَّ الله (عز وجل) أفقره لأنَّه لا يُحبُّه، ولأنَّه يريد أنْ يُذلَّه، ويُريد أنْ يمتهنه، فهو هيِّنٌ على الله، لذلك ضيّق عليه رزقه، هذا هو الشعور الذي ينتاب الإنسان في حالتي الفقر والغنى.

والقرآن يقول: ﴿كَلَّا﴾؛ تعبيرٌ على أنَّ هذا ليس إلّا وهمٌ من الإنسان، فليس الغنى أمارةَ الكرامةِ والحِظوة عند الله تعالى، كما أنّ الفقر ليس أمارةً وعلامةً على هوان الفقير عند الله (عزَّ وجل)، فقد يكون الفقير كريماً عند الله، وجيهًا عنده، قريباً منه، وقد يكون الغنيُّ بعيدًا عن الله مبغوضاً لديه (عزَّ اسمه وتقدَّس)، فمقياس القُرب والبُعد والكرامة والهوان على أساس الفقر والغنى وهْمٌ وخيال، هذاهو ماتُشير إليه الآية المباركة.

طبعاً، هذا الشعور له آثارٌ سيئةٌ على الإنسان، وله تبعاتٌ كارثيَّة في الواقع على حياة الإنسان في المجتمع، فعندما يستحكم الشعور الخاطئ بالكرامة ينتاب الإنسان الغرور، وينتابُ الإنسان الكِبْر، وينتابه الشعور العُجب، وكذلك عندما يستشعر الإنسان أنَّ الله تعالىلا يُحبُّه فإنَّ ذلك يُعزِّز فيه روح اليأس والقنوط، فيبتعد عن الله عزَّوجل، ويتَّهمُ الله في عدله.

ثم أنَّه ثمّة تبعاتٌ تترتَّب على مستوى السلوك أشارت إليها آياتٌ كثيرة، عندما يتَّسع رزقُ الإنسان ويكثُر فإنَّه يطغى، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى / أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾(2)، أي يستشعر الفخر والغرور فيسْتعلي على الناس ويتعاطى معهم على انَّه الأولى والأحق فيستطيل ويتعدَّى ويظلم كما هو النموذج الذي ضربه القرآن مثلاً للإنسان وهو قارون، الذي كان من قوم موسى (ع) فبغى عليهم، فإنَّ الله عزَّ وجل أعطاه من الأموال ﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾(3)، يعني مفاتيح الخزائن، فخزائن الأموال من الذهب والفضة والنفائس والأعيان التي كان يختزنها ويكتنزها قارون كانت مفاتيحها يشقُّ على الرجال الأشداء الأقوياء أنْ يحملوها مجتمعين؛ هذا الرجل يُوصِّف القرآنُ حالته فيقول: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾(4) فكان يمشي وخلفه الرجال، وكان يلبس أفخر الثياب، ويركب أفضل الدواب، متبختراً، هذا معنى هو خروجه في زينته.

﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾(5)، لاحظوا هاتين الحالتين: فالذي يعيش حالة الفقر يستشعر الضِّعة والمهانة، فيُكبِرُ الأغنياء ويُعظِّمهم ويغبطهم أو يحسدهم ويتمنَّى أنْ لو كان مثلهم، لذلك فهو يتذلَّل إلى الأغنياء، ويتخضِّع للمستكبرين وللطغاة ولأصحاب الأموال والنفوذ! هذا هو واقع الإنسان الذي يكون مقياسه في الكرامة والهوان هو المال، فلأنَّه ليس له مالٌ يشعر بالضِّعة، ويسلك مسالك الضِّعة والذِّلة، فالإنسان الذي يكون كذلك، هو الذي لو أُعطي المال لطغى وبغى؛ لأنَّ مقياسه في الهوان والعزَّة هو المال، وحيث أنَّه لا يملك مالاً فإذن لا بدّ أن يكون في موقع الضعفاء المستكينين، الذين يتخضَّعون لإصحاب الثّروة، فإذا ما انتقل حالُه من الفقر إلى الغنى رأى نفسه مؤهلاً وجديراً بأن يكون في المحلِّ الأعلى، وأنْ يستكبر ويستطيلعلى مَن هو دونه!

هكذا كان قارون، وهكذا كان اللذين يُريدون الحياة الدنيا، نظرهم لا يرقى لأكثر من هذه الدنيا، ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾(6)، هم يعتبرون انَّ الحِظوة هي الحصول على المال، فصاحب المال هو صاحب الحِظوة على خلاف النهج الإلهي الذي يعتبر الإيمان والحكمة هي الحِظوة، ﴿وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾(7)، القرآن يجعل مناط الحظوة والخير شيئاً آخر غير الذي يتوهَّمه هؤلاء الناس، أمَّا الذين أُوتوا العلم فماذا قالوا؟ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ﴾(8).

ثم ما هي نتيجة طغيان قارون، وما عاقبته؟ ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ﴾(9)، أين تلك العُصبة اللذين وصفهم القرآن بأُولي القوة والشدَّة والبأس الذين كانوا يحملون مفاتيح خزائنه لم يتمكنوا من الإنتصار له! خسف الله به وبداره الأرض فابتلعته وكنوزه وخزائنه، والإبتلاع هنا ليس دائماً يكون بنحو الإعجاز كما وقع لقارون، بل كثيرٌ هم مَن ابتلعتهم الأرض ودفنهم التأريخ كانت لهم الثروة والسطوة والنفوذ والقوة فأين هم؟ أين جبروتُهم؟ أين نفوذهم؟ وأين قوتهم؟ وأين أموالهم؟ ذهب كلُّ ذلكفي مهبِّ الريح، ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾، هذه بعض الآثار السيئة الناشئة عن التوهُّم فيما هو مقياس الكرامة والهوان.

ثم إنَّ القرآن الكريم يؤكِّد على أنَّ سِعة الرزق وضيقه ليس للهوان والكرامة، وإنِّما هو للإمتحان، فحين تُعطى مالاً أو تُحرَم من المال فأنت في موقع الإمتحان، فالغرض من منحك المال هو أن تُمتحن، والغرض من حرمانك المال هو أن تُمتحن، وليس ثمَّة من غرض آخر.

هذا ما يؤكده القرآن في آيات كثيرة يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ﴾(10)، ما على الأرض من أموال، وفرش، وبيوت، ونِعَم، ومنح، كل هذا لغرض الإبتلاء: أي الإمتحان، ويقول الله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾(11)، فسمعك إمتحان، وبصرك إمتحان، وقدرتك على المشي إمتحان، وقدرتك على البطش إمتحان، وقدرتك عل الشرب والأكل والسعي للرزق إمتحان، أن تُرزق ولداً فهو امتحان، أن تُرزق جاهاً فهو إمتحان، أن تُرزق منصباً فهو إمتحان .. كلُّ شيئ في هذه الدنيا إمتحان، أن تُحرم مالاً، أن تفقِد ولداً، أن تفقد سمعك أو بصرك أو شيئاً مما منحت إياه فهو إمتحان.

ليس كما يتوهَّم البعض من أنَّ الفقد إمتحان، وأما المنحة والعطاء فهو ليس من الإمتحان! فيغفل عن أنَّه حينما مُنِحَ فإنما مُنِحَ ليُمْتَحَن، القرآن يقول ﴿خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾(12) السمع والبصر إمتحان، هذه ثقافة غير معهودة عند العرب، ثقافة أنَّ كل ما لديك إمتحان كما سنوضح لذلك قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾(13) ماذا تعني الفتنة؟ هي الإمتحان والتمحيص.

وهكذا فإنَّ هناك آيات كثيرة جداً أرادت أنْ تؤصِّل لهذه الثقافة وهذه الحقيقة في نفوس المؤمنين.

لماذا الامتحان؟

ولكن لماذا؟ هل يريد الله عز وجل أن يتعرّف عليكم؟ الإمتحان لأيِّ غرض؟ المدرِّس حينما يمتحن تلامذته مثلاً، فلأيِّ شيءٍ يمتحنهم؟ هو لا يمكنه أن يتعرَّف على واقع مستوياتهم بالدقَّة إلا حين يمتحنهم، ولكنَّ الله عزَّ وجل يعلم السرَّ وأخفى، وهو أقرب إليكم من حبل الوريد، وهو كما أفاد القرآن: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾(14)، إذن ليس غرضه من الإمتحان أنْ يتعرَّف عليكم فهو أخبر بخلقه من أيِّ أحد، وإنَّما يريد أنْ يأصِّل هذا الشعور في النفس.

تصوروا أنه لو أننا جميعا نعيش هذا الشعور: أننا في الإمتحان .. تلاحظون الطالب في قاعة الإمتحان كيف يكون؟ حذراً يقظاً، وجميع حواسه حاضرة، فهو حريص على الوقت، وفي كلِّ حين ينظر إلى الساعة خوفاً من أن يفوته الوقت، وهو حريص على أن لا يكتب إلا ما هو مُنِتج للنجاح بنظره، فالشعور بالإمتحان يُنتج الإتقان في العمل.

فالله عزَّ وجل إنَّما أراد أنْ يؤصِّل هذا الشعور في نفوس المؤمنين، فيقول إنَّ المال إمتحان، والفقر إمتحان، أن تُرزق ولداً فأنت في إمتحان، وأن تُحرم ولداً فأنت مُمْتَحَنٌ .. هذا الأمر إذا تأصَّل في النفس فماذا ينتج؟ ينتج الحرص على أن يكون الإنسان يقِظاً حذِراً من أن ينزلق، من أنْ يخرج عن الخطّة التي رسمها لهربُّه عز وجل: وهي أن يسير في هداه، ولا ينحرف عن طريقه وصراطه.

فاللهجلَّ وعلا أراد للإنسان أن يُوظِّف هذه الدنيا لأهداف محدّدة، والإمتحان يعني أنَّك تسير في تفانٍ نحو هذه الأهداف، فالشعور بالإمتحان يُنتِج الحرص على الإتقان، والحرص على التكامل، والحرص على الوصول للغاية.

ولذلك أكد القرآن الكريم هذا المعنى في كثيرٍ من الآيات.

المقياس الحقيقي للكرامة

وفي المقابل بيَّن القرآن الكريم مقياس الكرامة عند الله جلا وعلا فقال: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾(15)، الفقر ليس تعبيراً عن الهوان، والغنى ليس تعبيراً عن الكرامة، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، ولذلك يُبتلى الأنبياء بالفقر وبالمرض، وبالكثير من الإبتلاءات، بل إنَّ أكثر الناس إبتلاءً هم الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل.

لو كان الإبتلاء بالفقر والمرض وضيق الحال مقياساً للضِعةً والهوان لما ابتُلي بذلك الأنبياء والأولياء الذين لا شكَّ في أنَّهم أقرب الناس لله وأكرمهم على الله جلَّ وعلا ولما كان الأنبياء أكثر الناس -كما قلنا- بلاءً في كلِّ شأنٍ من الشؤون.

نقطة أخيرة وخطيرة

في ختام حديثنا نريد أن نؤكِّد على مسألة مرتبطة بنفس الآية الشريفة، وهي أنَّ الإنسان عند فقدانه لمنحةٍ أعطيت لغيره تتحرك في نفسه مشاعر خطِرة قد تُودي إلى حدِّ الكفر بالله عز وجل، فهو يرى أنَّ كلَّ الناس عندهم أولاد وهو محروم، وكلَّ الناس عندهم أموال وهو محروم، كثير من الناس عندهم وظائف وهو محروم، كثير من الناس عندهم مواقع اجتماعية وهو محروم، أيُّ شيئ تُنتجه هذه النظرة؟ إنَّها تُنتج الشعور بالإحباط واليأس من رَوح الله، والتشكيك في عدل الله عزَّ اسمه وتقدَّس.

ولو أنه رجع إلى القرآن الكريم وإلى تعاليم أهل البيت (ع)، وعلم أن ذلك ما هو إلا إمتحان، غاية الأمر أن مظاهر الإمتحان تختلف، فذاك يُمتحن بالغنى وأنت تُمتحن بالفقر، وذاك يُمتحن بكثرة الأولاد وأنت تُمتحن بالحرمان من الأولاد أو بفقد الأولاد .. لو أدرك هذا المعنى، ثمّ حاول أن يُلَقِّن نفسه هذا المعنى، ثم سعى إلى أنْ يصل إلى حدِّ الرضا، فأنه سيبلغ بذلك مراتب عليا من الإيمان، إن من أعلى مراتب الإيمان هو التسليم والرضا بقضاء الله تعالى وقدره الله، فلو كان قضاء الله تعالى بأن يَفقِد فهو أحبُّ إليه من أن يُرزق؛ لأن في هذا رضىً لله، وذاك ليس فيه رضىً لله عز وجل، فهو يرضى بما يرضاه الله عز اسمه وتقّدس.

لذلك لابدّ أنّ نُلَقِّن أنفسنا هذا المعنى، نحن نسأل الله العافية دائماً، ولكن يجب أن نُلَقِّن أنفسنا ونربيها على أنه إذا ابتُلينا اننكون في الموقع الذي يريدنا الله عز وجل أن نكون، فيه راضين مطمئنين بقضاء الله عز اسمه وتقدّس.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الفجر / 15-17.

2- سورة العلق / 56.

3- سورة القصص / 76.

4- سورة القصص / 79.

5- سورة القصص / 79.

6- سورة القصص / 79.

7- سورة القصص / 79.

8- سورة البقرة / 269.

9- سورة القصص / 80.

10- سورة القصص / 81.

11- سورة الكهف / 7.

12- سورة الإنسان / 2.

13- سورة الأنفال / 28.

14- سورة الأنفال / 59.

15- سورة الحجرات / 13.