حديث حول سورة المطففين

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ / الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ / وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ / أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ / لِيَوْمٍ عَظِيمٍ / يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(1)

صدق الله مولانا العلي العظيم

محل النزول:

اختلف المفسرون في سورة المطففين من جهة أنها من السُّور المكِّية، أو أنَّها من السور المدنيَّة، فذهب بعضهم إلى انها من السور المدنيةِ وذلك نظراً لما ورد في سبب نزولها، وكذلك باعتبار أنَّ الحديث عن التطفيف حديث يرتبط بتفاصيل الشريعة والتي لم يتصدَ لها الرسول (ص) إلا في المدينة المنورة، وكان تبليغه في مكة الشريفة يكاد يتمحَّض في تأصيل الأصول الاعتقادية، وتثبيت الإيمان، والتقوى في القلوب.

فهذه القرينة تقتضي أنَّ سورة المُطفِّفين من السور المدنية، حيث أنها لا تُناسب ما كان عليه رسول الله (ص) في مكة الشريفة.

في مقابل هذا الرأي ذهب آخرون إلى أنَّ سورة المطفِّفين من السور المكية و ذلك:

عندما نلاحظ السورةَ بكاملها، نجد إنَّ أكثر الآيات الواردة في سورة المطفِّفين تتحدث عما له اتصال بأُصول العقيدة، وتتحدث عما يرتبط بتثبيت التقوى والإيمان، وتتحدث كذلك عن عاقبة المجرمين وعن النار، كما تتحدث عن الجنة وعاقبة الأبرار.

هذه المضامين بمجموعها -إذا قطعنا النظر عن صدر السورة المباركة- تقتضي أنَّ محلَّ النزول -وهو موضعه- إنما هو مكة الشريفة، فتكون السورة مكية.

قد تكون السورة مكِّية مدنيَّة:

ثم إنه لا يبعد أن تكون السورة مكية مدنية، فهي مدنيَّة في الآيات الأولى التي تحدثت عن التطفيف، ومكِّية في الآيات التي تلت الآياتِ الأولى، وذلك ليس بعزيز في السور. فقد كان رسول الله (ص) تنزل عليه آيات، ثم تنزل آيات أخرى، فيقول: (أضيفوا هذه إلى تلك): يعني تنزل السورة غير كاملة، ثم تنزل آيات أخرى، ثم يأمر النبي (ص) بإضافتها إلى السورة التي قد نزلت فيما سبق. كما يكون العكس كذلك، فقد يُضيف بعض الآيات التي نزلت سابقاً بآيات نزلت لاحقاً بعنوان السورة، بمعنى أنه تنزل السورة فيضيف آياتٍ مكِّية كانت قد نزلت إلى السورة المدنية. وهذا كما قلنا ليس بعزيز.

فلعلَّ ما ذهب إليه الفريقان من المفسرين صحيح من هذه الجهة، يعني إذا جمعنا بين هذين القولين فيمكن أن يتألَّف من مجموعهما قولٌ ثالث، وهو أنَّ هذه السورة في الوقت التي هي مدنية في صدرها، هي مكية في ذيلها. وكيف كان فليس الأمر مهماً جداً.

محاور السورة المباركة:

سورة التطفيف أو المطففين، تحدثت عن خمسة محاور، ونشير إليها إشارةً سريعة، ثم نتحدث عن تفاصيل ذلك فيما بعد.

المحور الأول: الذي تحدثت عنه السورة المباركة هو التحذير والإنذار الشديد للمطفِّفين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾(2).

وأما المحور الثاني: فتشير السورة المباركة في بعض آياتها إلى منشأ الذنوب الكبيرة، وما هو السبب الذي ينشأ عنه ارتكاب المكلف لعظائم الذنوب كالزنا، والكذب، وسائر الفواحش كالقذف، والغيبة وغيرها.

والآيات التي تصدَّت لهذا المعنى في سورة المطففين تقول بأن المنشأ لارتكاب الذنوب الكبيرة هو عدم الإيمان الكامل والصادق بيوم البعث، فلو أنَّ الإنسان يؤمن إيماناً صادقاً بيوم البعث ما كان لتصدر عنه الذنوب الكبيرة، فهي إنما تصدر عنه لعدم إيمانه الحقيقي. نعم، قد يُؤمن بيوم البعث إيماناً باهتاً، وقد يتعقَّل حتميَّة يوم البعث، ولكنه لا يتفاعل مع هذه العقيدة. وعدم التفاعل، وعدم تجذر هذا الإيمان في النفس هو الذي ينشأ عنه ارتكاب الذنوب الكبيرة .. هذا ما تشير إليه بعض الآيات التي سوف نتلوها فيما بعد.

المحور الثالث: الذي تتحدث عنه السورة المباركة هو أنها تستعرض جانباً من عاقبة الفجَّار، يقول تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ / وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ / كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾(3).

فهي تتحدَّث عن عاقبة الفجار، وإلى ما سيؤول اليه أمرهم يوم القيامة.

المحور الرابع: الذي تتحدث عنه السورة المباركة هو عاقبة الأتقياء الأبرار، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾(4) إلى قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾(5).

وأما المحور الخامس: فهو الإشارة إلى ما كان عليه الكفار من استهزاء بالمؤمنين، فقد كان الكفار -ولا زالوا- يستهزئون بالمؤمنين، ويتفكَّهون في مجالسهم بالمؤمنين، وبعقائد المؤمنين، وبسلوك المؤمنين، وبعبادات وطقوس المؤمنين، وتقول إنَّ هذا الاستهزاء سيعقبه ندم وبكاء يوم القيامة، قال تعالى: ﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾(6) هذا هو المحور الخامس والأخير، وبذلك ختمت السورة المباركة.

سبب النزول:

بعد ذلك نشير إلى سبب نزول أوائل هذه السورة المباركة -بحسب ما ورد في الروايات الواردة عن الرسول (ص)، وعن أهل البيت (ع)-:

ورد عن الأئمة الأطهار (ع)، وعن ابن عباس، أنَّ سبب نزول هذه السورة المباركة هو أنَّ النبي(ص) لمَّا قدِم المدينة المنوَّرة كان تُجَّارها يُمارسون التَّطفيف في المكيال والميزان وخصوصا مع الفقراء من الناس، فكانوا إذا باعوا الناس كيلاً لا يستوفونه إلى نهايته، بل يبيعونهم بأقلَّ ممَّا يجب عليهم أن يعطونه إياهم، فكانوا إمَّا أن ينقصون في المكيال من الأعلى -ولا يستطيع هذا الفقير أن يعترض، لكونه محتاجاً فقيرا، وربما كان ما اشتراه ديناً، فهو مضطر لأن يقبل-، أو أنَّهم كانوا يضعون في أسفل المكيال ما يُوجب نقصان الكيل، بحيث يكون الطعام الذي يُوضع في ظرف المكيال أقلَّ من المكيال، ولكن يتوهَّم الناظر -غير المُتفحِّص والمتأمِّل- أنه كيلٌ كامل.

هذا ما كان عليه تجار المدينة عندما قَدِمَ عليهم رسول الله (ص). وأما إذا اكتالوا لأنفسهم فإنهم يستوفون كيلهم، ولكنهم إذا أرادوا أن يكيلوا أو يزنوا للناس -كما سنوضح ذلك فيما بعد- فإنهم كانوا يُخسِرون. وسوف نتعرض لبيان الآية ومصاديقها فيما بعد.

فلما وجد الرسول (ص) ذلك فيهم، وحيث أنه من الواضح أن من وظائف الأنبياء أن يعالجوا هذه المفاسد الإجتماعية، وليس هدف الأنبياء ورسالاتهم مُختصَّة ببيان علاقة الإنسان مع الله بالعبادة وحسب، بل وظيفتهم أن يعالجوا كلَّ مشكلة اجتماعية، وكل فساد اجتماعيّ أو اقتصاديّ؛ وهذه السورة واضحة في أنها مُتصدِّية لمعالجة مفسدة اجتماعية، وهي في الوقت نفسه ذات بعد اقتصادي أيضا، مما يُؤكِّد أنَّ الإسلام ليس مجرَّد عبادات -كما يتوهَّم البعض-، ولذلك لمَّا أن وجد النبي (ص) هذا الفعل منهم، تصدى لمعالجته ونزلت هذه السورة المباركة لتُحذِّر المطفِّفين، ولتنذرهم بأنَّ عاقبة هذا الفعل هو العذاب، وهذا هو معنى الويل في قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾(7).

رواية شريفة بعد نزول سورة المطففين

ورد أنَّه لما أن نزلت هذه السورة المباركة على الرسول (ص) خرج إلى المسلمين وقرأ السورة، ثم قال: خمسٌ بخمس. فقيل: يا رسول الله، وما خمسٌ بخمس؟ -هنا أراد الرسول (ص) أن يقول: بأنَّ ثمَّة قوانين إلهية وسنن كونية، وهي خمسٌ، وسأعدِّدها لكم، والمقدَّمة منها تستوجب النتيجة، أي أنها خمس مقدمات، وكلُّ مقدّمة تستوجب نتيجة، وهذه النتيجة حتميَّة- قيل: يا رسول الله، و ما خمسٌ بخمس؟ قال: ما نَقَضَ قومٌ العهد إلَّا سلَّط الله عليهم عدوَّهم -نقض العهد يُنتج أن يتسلَّط الأعداء على الناقضين للعهود-، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشى فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفواحش إلا فشى فيهم الموت، ولا طفَّفوا الكيل إلا مُنِعوا النَّبات، وأُخِذوا بالسِّنين -يعني ابتلوا بالقحط-، ولا منعوا الزكاة إلا حُبِسَ عنهم القطر -وهو كناية عن انحباس الخير والبركة عنهم كلَّما حبسوا الزكاة"(8).

سنتحدَّث فيما بعد عن هذه الرواية الشريفة والمباركة، وعن بعض تفاصيل المعاني التي وردت في هذه السورة المباركة إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة المطففين / 1-6.

2- سورة المطففين / 1.

3- سورة المطففين / 7-9.

4- سورة المطففين / 22.

5- سورة المطففين / 28.

6- سورة المطففين / 36.

7- سورة المطففين / 1.

8- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج70 / ص370.