وجاءت سكرة الموت (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ / وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ / وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ / لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(1)

صدق الله مولانا العليُّ العظيم

معنى السكرة:

المراد من السكرة هو حالة الذهول التي تُشبه حالة الثمِل المخمور الذي بلغ السكر منه مبلغاً فَقَدَ معه عقله وصوابه ورُشده، وهي تعبيرٌ عن حالةٍ من الانهيار في القوى التي تنتاب الإنسان عند الإحتضار وقُرب الأجل، فتراه لا يَشعر بِمَن حوله، يُبصرهم ولكن يشقُّ عليه أنْ يتحدث إليهم، يَسمعهم ولكن يشقُّ عليه أنْ يردَّ عليهم، يُعتقلُ لسانه، وتجدُ أعضاء بدنه في حالةِ خمولٍ لا تقوى أنْ تبطش، بل لا تقوى أنْ تتحرك بِملء إرادته، وينتابه الارتعاش بل ينتابه الإضطراب الشديد، وذلك لأنَّ قواه قد بدأت في انحدارٍ وزوال. هكذا تُعبِّر الآيةُ عن حالة الإنسان عند اقتراب أجله، فهي سَكرةٌ وذهولٌ وغثيانٌ وشعورٌ بالْولوج في عالمٍ هو غيرُ العالم الذي ألِفه وأنِسَ به، حيث يُبصر أموراً لم يكن مُبصراً لها، وكان في غفلةٍ عنها، فبصره حديد ولكن ليس إلى مَن حوله، وإنَّما إلى العالم الآخر الذي هو مُقبلٌ عليه، وهو ما يُعبَّر عنه بهْولِ المطَّلع، إذ يرى أموراً مهولةً لا يراها مَن هو جالس حوله، أمورٌ تَبعث على الخوف والرعب وحينها قد لا يُبصر مَن حوله وما حوله كما كان يُبصره قبل أنْ تنتابه هذه الحالة، حينئذٍ تجتمع عليه همومٌ وهموم، همٌّ لأنَّه لا يدري إلى ما سيكون مصيره، و همٌّ لأنَّه مُشرفٌ على مفارقة أمورٍ كان قد ألَفها وأنِس بها، و همٌّ لأنَّه سينفصلُ عن أعزِّ ما عنده: من أموالٍ، ومسكنٍ، وأولادٍ وأطفال وجاه، فكلُّ شيءٍ حوله سينفصل عنه.

سكرةٌ يصاحبها شعور بالألمِ الشديد، ألَمِ المرض، وألَمِ الموت، حتى وَرَدَ -أو قيل- إنَّه كأنَّما تُقطَّع أوردتُه وريداً بعد وريد، كما وَرَدَ في بعض الطرق أنَّ رسول الله (ص) قد قال: "إنَّ الميت أو المشرف على الموت يَستشعر ألمَ ثلاث مئة ضربةٍ بالسيف على جسده" ويقول أمير المؤمنين (ع): "فغيرُ موصوفٍ ما نَزَلَ بهم"(2) لا حظوا أنَّ عليُّ بن أبي طالب الذي أجاد أنْ يصف كلَّ شيءٍ حوله فوصف الآفاق، ووصف السماوات، والملكوت الأعلى، يقول: "غيرُ موصوفٍ ما نَزَلَ بهم"! نعم، يَصعب وصف ما نزل بهم، ويُضيف (ع) "غيرُ موصوفٍ ما نَزَلَ بهم، اجتمعت عليهم سكرةُ الموت وحسرةُ الفَوْت، ففترت لها أطرافهم وتغيَّرت لها ألوانُهم ثم ازداد الموتُ منهم وُلوجا، فحيِل بين أَحدِهم وبين منطقه، وإنَّه لبين أهله ينظر بِبصره ويسمع بأذنه على صحة عقله وبقاءِ لُبِّه، فيمَ أفنى عمره وفيم أذهب دهره، ويتذكرُ أموالاً جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مُصرَّحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبَعاتُ جمعها وأشرف على فراقها، تبقى لمَن وراءه فيكون المَهنأُ لغيره والعِبئ على ظهره"(3).

مناشئ سكرة الموت:

يقول العلماء: إنَّ سكراتِ الموت تَنشأ من أمورٍ، نذكر أربعةً منها:

المنشأ الأول: آلام الجسد

شدة الألم والمرض وانعقاد اللسان والشعور بانحلال القِوى، وقد قلنا: إنَّ الألم الذي يستشعره يكافئ ثلاثمائة ضربة بالسيف على جسده، ووَرَدَ أنَّها -أي نزعُ الروح- كلسع الأفاعي بالنسبة للكافر، ففي روايةٍ وردت عن الإمام الصادق (ع)، رواها الشيخ الصدوق: أنَّه قيل للصادق (ع): صف لنا الموت، فقال: "للمؤمن كأطيب ريحٍ، يَشمُّه فينعس لطيبه، وينقطع التعبُ والألم كلُّه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشد. قيل: فإنَّ قوماً يقولون إنَّه أشدُّ من نشر المناشير، وقرض المقاريض، ورضخٍ بالأحجار، وتدوير قطب الأرحية في الأحداق"(4).

يُسأل الإمام الصادق (ع): هل الأمر كذلك؟ فيقول (ع): "هو كذلك، هو على بعض الكافرين والفاجرين، ألا ترون منهم مَن يُعاين تلك الشدائد، فذاكم الذي هو أشدُّ من هذا، إلَّا من عذاب الآخرة فهو أشدُّ من عذاب الدنيا"(5) وللحديث تتمة نشير إليه فيما بعد.

ووَرَدَ أيضاً أنَّ أمير المؤمنين (ع) أُصيب بمرض في عينه فكان ألمُه شديداً، فعاده رسول الله (ص) فوجده يئنُّ من شِدَّة الألم، فقال له رسول الله (ص): "أجزعاً أم وجعاً؟ فقال: بل هو وجع. فقال له (ص): إنَّ ملك الموت إذا نزل لقبض روح الكافر نزل معه سفَّودٌ من نار -عود من حديد يُشوى عليه اللحم- لنزع روحه، فتصيح جهنم. فجلس عليّ (ع) مذهولاً، فقال: هَوَّنَ ما ذكرته بي ألمي، أعِد علَيَّ حديثك يا رسول الله، ثم قال (ع): يُصيب أمتك؟ قال (ص): نعم، حاكمٌ جائر، وآكلُ مال اليتيم ظلماً، وشاهد زور"(6) هؤلاء يُصيبهم هذا النحو من النزع. إذن هذا أوَّل ما تَنشأ عنه سكرة الموت.

المنشأ الثاني: فراق الأحبة

وهو أنَّ أهله، وأطفاله، وعياله، ومَن كانت عُلقته بهم وثيقة، مجتمعون حوله يبكون على فراقه، فهو يستشعر الألم والحسرة على فراقهم؛ بتوهُّم أنَّه الذي يرعاهم، وأنَّه الذي يذودُ عنهم، وأنَّ رزقُهم إنَّما هو عليه، فيرقُّ لهم. هذا الشعور بأنَّه كفيلهم، وأنَّهم إذا ذهب عنهم سيضيعون، هذا الشعور يبعث في قلبه الحسرة والألم! ولو أنَّه كان يثق بربَّه، ويعلم علماً وجدانياً -قد امتزج بقلبه وخاطره- بأنَّه لم يكن إلَّا وسيلةً لرزقهم وكفالتهم والذود عنهم، وإذا ما مات فإن الله تعالى سوف يُهيِّء لهم من يكفلهم ويحفظهم ويحميهم، لو كان يستشعر ذلك لخفَّ عليه ألم الحسرة، ولكنه لضعف ثقته بربَّه، ولثقته بنفسه يُبتلى بهذا الشعور بالألم والحسرة على أطفاله، فيرى أطفاله يتصارخون فتشتد حسرته لأنَّهم سوف يصبحون أيتاماً بعده، فليس لهم من كافلٍ ولا معين، هذا ما يوجب حسرته وشدة ألمه.

ثم إنَّ منشأً آخر يبعث على الحسرة والألم -خصوصاً عند أبناء الدنيا- وهو الانفصال عن المال الذي جمعه وأغمض في جمعه، -كما يقول أمير المؤمنين (ع)-، فجمعه تارةً من مصرَّحاتها -أي من الحلال البيِّن- ومن مشتبهاتها، فهو قد جمعه وتحفَّظ عليه، وبخل به وعادى الناسَ فيه ومن أجله، جمعه ليكون المَهنأُ لغيره والعِبءُ على ظهره، فهناك يستشعر الألم، ألم المفارقة لهذا المال، أمَّا المُخِفُّون فعلى أيَّ شيءٍ يتحسرون؟

العجيب إنَّ سلمان المحمديّ (قد) عندما كان في النَّزْع بكى، فقيل له: أو مثلك يبكي يا سلمان؟! سلمانُ كان من الأبدال، وكان ممن ينتصر به اللهُ تعالى لدينه، ولم يستبدلْ به ربُّه غيرهَ، يبكي سلمان عند النزع! فيُقال له: أمثلُكَ يبكي يا سلمان؟! قال: كيف لا أبكي، وقد (مضمون الرواية) سمعتُ رسول الله (ص) يقول: إنَّ المؤمن إذا مات ينبغي أنْ لا يكون شيءٌ عالقاً به بعد وفاته، ينبغي أنْ يكون خفيفاً، قيل له: وما عندك يا سلمان؟! كانت عنده جفنة، ومطهرة، وسجّادة، ثلاثة أشياء، وهو يبكي لأنَّه سيموت وعنده أموالٌ يُحاسَب عليها!!

المنشأ الثالث: هول المُطَّلع

وثمة منشأُ آخر لسكرة الموت، وهو هَوْلُ المُطَّلع، وهذا الذي يبكي منه حتى الأخيار، حتَّى الأبرار، حتَّى الأولياء، بل وحتَّى الأنبياء، كلُّ هؤلاء يبكون لهول المطَّلع!!

هَوْل المطَّلع لا يختص به سواد الناس، أولياءُ الله ونُجباؤه يخشون هولَ المطلع أيضاً. أبو محمد الحسن السبط الأكبر (ع) عندما كان في النَّزع بكى، وكان منشأ بكائه -كما أفاد- هو هول المطَّلع، وما معنى هول المطَّلع؟ سنتعرض لذلك إن شاء الله فيما بعد ولكن نشير لمعناه في المقام بنحوٍ موجز، قال تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(7) تشير الآية الكريمة إلى أنَّ الإنسان يطَّلع عند موته على العوالم التي سيُقدم عليها، وهي مَهولة مُرعبة ومُخيفة، حسابٌ وعقابٌ ونُظُمٌ جديدة، فهو قد اعتاد على نُظُم الدُّنيا، على قوانينها، على سُنَنِها، أمَّا الآن فسيُقبِل على سننٍ جديدة، على عوالمَ ونظمٍ مختلفة، فهو يرى الملائكة، قد يرى ملائكة الغضب عابسين في وجهه، وبعضهم يُنذره ويُبشِّره بالعذاب الأليم الشديد، الآن وقد أصبحتَ في أيدينا ماذا ستصنع؟ أمَّا المؤمن فتستقبله ملائكةُ الرحمة، ولكنَّ أمامه طريقٌ طويلٌ، أمامه حسابُ القَبر، أمامه البَرزخ أمامه الصراط، وتطاير الكتب، أمامه الميزان، أمامه المساءلة، كلُّ هذه الأمور تُخيف وتُرعب، لا يدري إلى أيِّ موضعٍ سينتقل؟ هذا هو هولُ المطَّلع.

حُكي أنَّ شخصاً كان يحتضر، فقيل له: يا رجل قل: لا إله إلا الله. قال: سقرٌ، سقر! كلَّما قيل له: قل لا إله إلا الله، قال: سقر! لأنَّه يرى سقر، بصره حديد، لذلك فهو يرى سقر، يُبصر سقر، ويُبصر ملائكةَ العذاب، ولعلَّه يُبصر السَفُّود الذي أخبر عنه رسول الله (ص) وأنَّه سوف يُكوى به بعد قليل، ويغرس في جسده فتصيح جهنَّم، لذلك هو فَزِعٌ، هذا هو هول المطلع.

وحكي عن آخر أنَّه كلَّما قيل له: قل لا إله إلا الله. قال: النار النار، فهو يُبصر النار، ويرى النار، وإنْ كان لا يراها غيرُه، هذا هو هولُ المطَّلع.

لذلك يحتبسُ لسانه ولا يتمكن من الحديث، يُبصر ولا يُجيد أنْ يتحدَّث، وقد يُعتقل لسانهُ عن ذكر الله؛ لأنَّه كان قد فعل السيئات.

ينقل أحدُ العلماء في النَّجف الأشرف، يقول: كان لي تلاميذ وكان بينهم تلميذ متميَّزٌ هو أعلم تلامذتي، يقول: أصاب ذلك التلميذ نزع الموت، فجلستُ عند رأسه، وقلتُ: ياشيخ، قل لا إله إلا الله. وهو لا يتمكَّن أنْ يقول! فيكرَّر عليه، ولكن دون جدوى! يقول: قرأتُ عليه سورة ياسين، فقال لي: لا تقرأ. فامتثلتُ لقوله، فسكتُّ، ثم قُلتُ له: قل لا إله إلا الله، محمد رسول الله، عليٌّ وليُّ الله وهو لا يجيد أنْ يقول، بل -كما أتذكَّر- قال: لالا! أي لايريد أنْ يقول!! ثم أسلم الروح.

يقول هذا العالم الجليل: رأيتُه في النوم -ليلة وفاته، ليلة الوحشة-: "فرأيتُه يُسحب إلى النار، رأيتُ هذا التلميذ المتميَّز الذي بذل أكثر عمره في تحصيل علوم آل محمد (ص)، رأيتُه يُسحب إلى النار، فقلتُ له: يا شيخ لماذا تُسحب إلى النار؟ ولماذا منعتني من قراءة سورة ياسين عليك وأنت تحتضر؟، ولماذا أبيت أنْ تقرأ الشهادتين وأنت تحتضر؟ فقال: لأمورٍ ثلاثة: كنتُ نمَّاماً أفتعلُ الفتنَ بين الناس، وكنتُ حسوداً أتمنَّى زوال النعمة عن الغير وقد أعمل في سبيل إزالتها، وهل ثمَّةَ أمرٌ آخر؟ قال: بلى، أصابني مرضٌ فذهبتُ إلى حكيم، فقال لي: دواؤك أنْ تشرب في كلَّ سنةٍ كأساً من النبيذ، هذا هو علاجك، وإنْ لم تفعل فلن تتعافى من مرضك. وكنتُ أعلم أنَّ الله لم يجعل في حرامٍ شفاءً(8)، ورغم ذلك كنتُ حريصاً على الشِّفاء فشربتُه، وهذا ما حبس لساني عن التشهُّد بالشهادتين

هذا هو المنشأ الثالث لسكرة الموت.

المنشأ الرابع: الشعور بالحسرة

هناك منشأ رابع وهو الشعور بالحسرة، ولكنَّها ليست الحسرة على الأموال والأولاد، وإنَّما هي الحسرة على أنَّه فرّط في أيامه الخالية، كان بإمكانه أنْ يحصِّل الثواب والطاعة ففرَّط، كان بإمكانه أن يجتنب المعصية ففرَّط، كان بإمكانه أنْ يتوب من المعاصي التي اقترفها فلم يفعل، ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ / وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ / وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ / وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ / إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾(9) فهو يُساق، ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾، ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى / وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾(10) هناك يشعر بالحسرة، عندما تبلغ الروح التراق والحلقوم حينها لا تُقبل التوبة، ينتهي أَمدُ التوبة، فيتحسَّر بانتهاء أمد التوبة، فيُصاب بالسكرة والذهول.

هنا نودُّ أن نشير إلى أمرٍ، وهو أنَّ الآية كأنَّما نظَّرت لسكرة الموت بسكرة يوم القيامة، سكرةُ يوم القيامة رهيبةٌ جداً، الآية المباركة أفادت: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾(11) هنا أيضاً قال تعالى: ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾(12)، هناك سكرة، وهنا سكرة. وهوما يُعبِّر عن أن ْسكرة الموت ليست بأقلَّ شدةً من سكرة يوم القيامة، كما أنَّ الناس يوم القيامة كالسُّكارى وما هم بسكارى، كذلك الذين ينتابهم الموت وليس عن أحدٍ منا ببعيد، فنحن وإنْ كنَّا لم نستوعب هذا الأمر لأنَّنا لا ندري كيف هي سكرةُ الموت، وإنَّما نحدس أنَّ سكرة الموت تكون لهذه الأمور ولعلَّ الأمر أشد، وهو كذلك لأنَّ الإمام علي (ع) أفاد بأنَّه: "غير موصوف ما نزل بهم"، نعم هناك بعض الأمور التي أشار إليها الإمام (ع) عرفناها من قول الإمام، وقول أهل البيت (ع)، إلَّا أنَّ العِلْم السَّمعي ليس كالشُّهود والمعاينة.

ما يُهوَّن سكرات الموت

ثم إنَّ روايات أهل البيت (ع) تصدَّت لتبيان ما يُهوِّن سكرات الموت نذكر بعضها ونُرجأُ الباقي لما بعد -إنْ شاء الله-.

1- صلة الرَّحِمْ وبرُّ الوالدين:

أوَّل أمر: نذكره فيما يُخفَّف سكرات الموت، هوصلة الرَّحِمْ والبَّر بالوالدين، فقد أكَّدت الروايات الشريفة على أنَّ صلة الرحم والبَّر بالوالدين مما يُهوِّن سكرات الموت، فمن ذلك ما رواه الشيخ الصدوق (قد) عن الإمام الصادق (ع) قال: "مَن أحبَّ أنْ يُخفِّف اللهُ عنه سكرات الموت فليكنْ لقرابته وصولاً، وبوالديه باراً، فإذا كان كذلك هوَّن اللهُ عليه سكراتِ الموت، ولم يُصبه في حياته فقرٌ أبداً"(13).

وهناك رواية أخرى -يرويها الشيخ الصدوق (قد) أيضاً- عن الامام علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر (ع)، وينتهي السند إلى الامام عليِّ ابن أبي طالب (ع)، قال: "لمَّا كلَّم الله عزَّ وجل موسى بن عمران .. إلى أنْ قال: قال موسى: إلهي، فما جزاء مَن وصل رَحِمَه؟ قال يا موسى: أُنسئُ له أجله، -أي أُطيل في عمره- وأُهوِّن عليه سكرات الموت، ويناديه خزَنةُ الجنة: هلمَّ إلينا، فادخل من أيِّ أبوابها شئت"(14)، هذا لِمَن وصل رحمه.

وصلة الرحم تختلف باختلاف الحالات والظروف، فلو كان أخوك مثلاً في حاجتك، وكنتَ قادراً على قضاء حاجته، فتلكَّأتَ في قضائها، فأنت ممن قطع الرَّحِم أو لم يصله، فتكون قد فوَّتَّ على نفسك منحةً إلهية، وهي طول الأجل، والتخفيف من سكرات الموت، طبعاً لا تزول سكرات الموت بذلك، وإنَّما تُخفَّف عن المؤمن سكرات الموت بمثل صلة الرحم والبرَّ بالوالدين، وذلك هو معنى قوله: (اُهوَّن عليه سكرات الموت).

وننقل أيضاً روايةً أخرى تُعبِّر عن مدى أهمية البرَّ بالوالدين، وأنَّ عدمه يُشدَّد من سكرات الموت، هذه الرواية وردت عن رسول الله (ص)، رواها أبو عبد الله الصادق (ع)، يقول: "إنَّ رسول الله (ص) حضر شاباً عند وفاته، فقال له: قل لا إله إلا الله. قال: فاعتُقل لسانه مراراً، -يعني كلما قال له رسول الله (ص) قل لا إله إلا الله حار ولم يتمكن من النطق- فقال لامرأةٍ كانت عند رأسه: هل لهذا أُمٌّ؟ قالت: نعم، أنا أمُّه. قال: أساخطةٌ أنتِ عليه؟ قالت: نعم، ما كلمتُه منذ ستِّ حجج -يعني ست سنوات-. قال لها: إرضي عنه. قالت: رضي اللهُ عنه يارسول الله برضاك عنه. فقال له رسول الله (ص): قل لا إله إلا الله. فقالها"(15).

الرواية إلى هنا تُعبِّر عن أنَّ عدم البرَّ بالأُم يُنتج شدَّة النزع، وشدة سكرات الموت. ثم إنَّ الرواية تُشير إلى أمرٍ زائد يؤكِّد ما ذكرناه -قبل قليل- عن معنى هولِ المطَّلع، لاحظوا ماذا قال له رسول الله (ص): قل لا إله إلا الله. فقالها، فقال له النبي (ص): ما ترى الآن؟ أصبح حينها قادراً على الكلام لرضا أمُهَّ عليه، فقال له: أرى رجلاً أسود الوجه، قبيح المنظر، وسخ الثياب، منتن الريح، قد وليني الساعة وأخذ بكظمي، بحلقي. -وليني: والمقصود من (وليني) أي استبدَّ به وهيمن عليه، وجثى على صدره، ولعلَّ ذلك هو عمله السَّيء قد تمثَّل أمامه فهو يراه في وجهٍ قبيح، وبثياب وسخة، ورائحة نتنة، كل ذلك تعبير عما ينتظره من العذاب-، فقال له النبي (ص) قل: "يا مَن يقبل اليسير، ويعفو عن الكثير، اقبل مني اليسير، واعفُ عنَّي الكثير، إنَّك أنت الغفور الرحيم) فقالها الشاب، فقال له النبي (ص): انظر ماذا ترى بعد هذا الدعاء؟، قال: أرى رجلًا أبيضَ اللون، حَسَنَ الوجه، طيَّب الريح، حسن الثياب، قد وَليني، وأرى الأسود قد تولَّى عني، فقال له النبي: أَعِد، فأعاد فقال له: ما ترى؟، قال: لستُ أرى الأسود، وأرى الأبيض قد وليني، ثم طفى -مات على تلك الحالة-"(16)، هذه الرواية تُعبَّر على أنَّ البرَّ بالوالدين يهوِّن من سكرات الموت.

2- قضاء حوائج المؤمنين:

هناك أمرٌ آخر يُهوِّن من سكرات الموت أشارت إليه الروايات الواردة عن أهل البيت (ع)، هذا الأمر هو إعانة المؤمنين وإكرامهم، فمن كسا أخاه المؤمن أو أطعمه هوَّن اللهُ عليه سكرات الموت، روي عن الصادق (ع) قال: "مَن كسا أخاه كسوةَ شتاءٍ أو صيف، كان حقَّاً على الله أنْ يكسوه من ثياب الجنة، وأنْ يُهوِّن عليه سكرات الموت، وأنْ يُوسَّع في قبره، وأنْ يلقى الملائكة إذا خرج من قبره بالبشرى"(17)، ورُوي عن رسول الله (ص): "مَن أطعم أخاه حلاة، أذهب الله عنه مرارة الموت"(18) هذه رواية أخرى أيضاً تُعبِّر عن أنَّ أقلَّ القليل يفعله المؤمن لأخيه ينتج عن ذلك أنْ يهوِّن اللهُ عليه سكرات الموت، ويوسَّع في قبره، ثم يلقى الملائكة يوم القيامة بالبشرى.

3- الولاية لأهل البيت (ع):

ومما يهوِّن سكرات الموت، وهو الأهمُّ مما ذكرنا هو الولاية لأهل البيت (ع)، رُوي عن أمير المؤمنين (ع) قال: "قال لي رسول الله (ص): يا علي، إخوانك يفرحون في ثلاثة مواطن: عند خروج أنفسهم -يعني عند الموت عند النزع- وأنا شاهدهم وأنت، وعند المساءلة في قبورهم، وعند العرض الأكبر وعند الصراط إذا سُئل الخلق عن إيمانهم فلم يجيبوا"(19).

وورد في رواية مشهورة -أقرأها للتيمُّن-، عن الحارث بن همدان -وهو أحد الخُلَّص لأمير المؤمنين (ع)- في حديث طويل نشير إلى موضع الحاجة منه، قال: "أُبشر يا حارث، والذي فَلَقَ الحبَّة وبرءَ النسَمة، وليَّي وعدوي في مواطن شتى، ليعرفنَّي عند الممات، وعند الصراط، وعند الحوض، وعند المقاسمة. قال الحارث: وما المقاسمة يا مولاي؟ قال: مقاسمة النار، أُقاسمها قسمةً صحيحة، أقول: هذا وليَّي فاتركيه، وهذا عدوي فخذيه، ثم أخذ أمير المؤمنين (ع) بيده، فقال: يا حارث أخذتُ بيدك كما أخذ رسول الله (ص) بيدي، فقال لي -وقد شكوت حسد قريش والمنافقين لي-: إنَّه إذا كان يوم القيامة، أخذتُ بحبل الله وبحجزةٍ- يعني عصمةٍ من ذي العرش تعالى، وأخذتَ يا علي بحُجزتي، وأخذ ذريتُك بحجزتك، وأخذ شيعتُكم بحجزتكم، فماذا يصنع الله بنبيَّه وماذا يصنع بوصيَّه؟ خذها إليك يا حارث قصيرةً من طويلة، أنت مع مَن أحببت، ولك ما اكتسبت، يقولها ثلاثا"(20).

الرواية طويلة، وقرأنا بعضها، حيث أشارت في البداية إلى مجيئ عليَّ بن أبي طالب إلى المؤمن عند الموت بالبشرى، ثم إنَّه يكون بحجزةِ عليًّ (ع) في يوم القيامة.

وقد صاغ السيد الحمْيري هذه المنقبة في أبيات، والسيد الحمْيري تعَّهد على نفسه أنْ ينظم كلَّ منقبة سمعها لعليًّ (ع) في أبيات، وهذه واحدة من المناقب التي نظمها قال:

قولُ عليًّ لحارثٍ عجبٌ ** كم ثَمَّ أُعجوبة له حملا

ياحارِ همدان مَن يمتْ يرني ** من مؤمنٍ أو منافقٍ قُبُلا

يعرفني طرفُه وأَعرفُه ** بنعته واسْمِه وما عَمِلا

وأنت عند الصراط تعرفني ** فلا تخفْ عثرةً ولا زللا

أَسقيكَ من باردٍ على ظماءٍ ** تخاله في الحلاوةِ العَسَلا

أقول للنار حين توقف للعرض ** دعيه لا تقربي الرجلا

دعيه لا تقربيه إنَّ له ** حَبْلاً بحبلِ الوصي متَّصلا (21)

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة ق / 19-22.

2- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص212.

3- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص212.

4- علل الشرائع -الشيخ الصدوق- ج1 / ص298.

5- علل الشرائع -الشيخ الصدوق- ج1 / ص298.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج27 / ص228.

7- سورة ق / 22.

8- سورة ق / 22.

9- سورة القيامة / 26-30.

10- سورة القيامة / 30-32.

11- سورة الحج / 2.

12- سورة ق / 19.

13- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج71 / ص66.

14- فضائل الأشهر الثلاثة -الشيخ الصدوق- ص88.

15- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج71 / ص75.

16- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج71 / ص75.

17- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 71 / ص380.

18- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 63 / ص288.

19- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج39 / ص07.

20- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج6 / ص179.

21- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 6 / ص180.