وجاءت سكرة الموت (3)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وأنشر علينا خزائن علومك.

البرزخ وعالم ما بعد الموت:

قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:

﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(1).

صدق الله مولانا العلي العظيم

تحدثنا فيما سبق عن واحدة من العقبات التي يمرُّ بها الانسان قبل موته وهي سكرات الموت والحديث فعلاً عمَّا بعد الموت، وقد رُوي أنَّ الرسول (ص) قال في المعراج: "كفى بالموت طامة يا جبرئيل، فقال جبرئيل: إنَّ ما بعد الموت أطمُّ وأطمُّ من الموت"(2).

معنى البرزخ:

الآية التي تلوناها تتحدث عن أنَّ الإنسان عندما ينتقل من هذا العالم فإنَّه ينتقل إلى عالمٍ آخر يُعبَّر عنه بعالم البرزخ، وهو الذي يتوَّسط بين الدنيا والآخرة، يكون الإنسان في هذا العالم منعَّماً أو معذَّباً إلى يوم يبعثون: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(3).

ما يجده الإنسان في عالم البرزخ:

وهنا نتحدث عن مجموعة أمور ترتبط بعالم البرزخ، فنتحدث أولاً عن ما يجده الإنسان في ذاك العالم، إذ من المعلوم والمحرَز أن الإنسان لا تفنى روحه وإنَّما يكون موته انتقالاً من عالمٍ إلى عالم، فكما ينتقل الإنسان من عالم الأرحام إلى عالم الدنيا فإنَّه ينتقل من عالمِ الدنيا إلى عالم البرزخ، فالإنسان متى ما ولجت فيه الروح فإنَّه لا يموت، بل يظلُّ خالداً، غايته أنَّه يمرُّ عبر مراحل إلى أنْ يصل إلى المرحلة الاخيرة، وهي النعيمُ في الجنة، أو العذابُ في الجحيم. خُلق الناس للبقاء، ولم تُخلق لتموت، الموتُ قنطرة، الموت مرحلة يَعبرُ بها الإنسان إلى عالمٍ آخر

خُلق الناسُ للبقاء فظلَّت ** أمةٌ يحسبونها للنفادِ

إنَّما يُنقلون من دارِ أعمالٍ ** إلى دار شقوةٍ أو رشادِ

أنت تنتقل من هذا العالم إلى عالمٍ آخر، فإمَّا أن تكون فيه شقياً، أو تكون فيه سعيداً، وأيُّ بلاءٍ وأيُّ طامةٍ تنزل بالإنسان بعد موته، والتي عبَّر عنها جبرائيل جواباً على رسول الله (ص) أنَّها أطمَّ وأطم من الموت؟ إنه عذابُ القبر، وقبل عذابِ القبر ظلمتُه ووحشته، يقول أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم): "إنَّ القبر في كلَّ يوم يقول أنا بيتُ الغربة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود"(4).

هذا هو حال الانسان ينتقل إلى القبر، إلى وحشته، إلى غُربته، بعد أن كان أهله حوله يؤنسونه، وبعد الأصدقاء والعشيرة والحفاوةِ التي كان ينعم بها، ينتقل إلى قبرٍ مظلم، وقد كان في ضياءٍ وحبور، غافلاً سادراً لا يعبأُ بالمصير الذي سينتهي إليه.

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ** غلبُ الرجال فلم تنفعهم القلل

واستنُزلوا بعد عزٍ من معاقلهم ** وأوُدعوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد دفنهمُ ** أين الأساورُ والتيجانُ والحُللُ

أين الوجوهُ التي كانت منعَّمةً ** من دونها تُضرب الاستارُ والكُلل

فأفصح القبرُ عنهم حين ساءلهم ** تلك الوجوهُ عليها الدودُ تقتتلُ

قد طالما أكلوا دهرًا وقد شربوا ** فأصبحوا اليومَ بعد الأكل قد أُكلوا

هكذا هو حال الإنسان حين يُودع في قبره، لذلك ورد عن أهل البيت (ع) أنَّ الميت اذا حُمل إلى قبره وجيء به إلى شفير القبر، فلا يُهاج به، ولا يوضع في القبر، وإنما يُترك على شفير القبر؛ ليتهيأ للنزول إلى عالمٍ جديد، مرعبٍ ومخيف، إلى منزلٍ لم يألفه ولا يمكن استئناسه، لابدَّ وأنْ يُوضع الميت على القبر هنيئة ولا يُهاج ولا يفاجأ، رُوي أنَّ رسول الله (ص) كان مع بعض أصحابه يتحدَّث، فرأى لُمَّةً من الناس مجتمعة، فقال: "مابالُهم مجتمعون؟ فقيل له: يحفرون قبراً يضعون فيه ميتاً، فأسرع إلى تلك اللُّمة فوقف عند ذلك القبر، فلمَّا وُضع الميت في ذلك القبر جلس على شفير القبر جاثياً على ركبتيه، يقول الراوي وكنتُ مستقبلاً وجه رسولِ الله (ص) وأنا أنظر إلى وجهه الكريم وأرى دموعه قد بلَّت شيبته الشريفة وهو يقول: لمثل هذا فاستعدوا، لمثل هذا فليعمل العاملون".

ليلة الوحشة:

كلُّنا سنصل إلى هذه المرحلة، وكُّلنا سوف يوضع في هذه الحفرة التي لا يكون معنا فيها من أحدٍ سوى عملنا، هي بيت الوحشة، لذلك ورد عن أهل البيت (ع) أنَّه لا يمرُّ على الميت يومٌ أشدُّ وحشةً من ليلةِ دفنه، فتصدَّقوا عن موتاكم، وإلا فصلُّوا ركعتين، اقرأوا في الأولى الحمد والتوحيد مرتين، ثم اقرأوا في الثانية ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ عشر مرات، وابعثوا بثواب هاتين الركعتين إلى روح ذلك الميت، فإنَّ الوحشة ترتفع عنه.

وورد في صورةٍ أخرى للصلاة أنه يُقرأ في الأولى بعد الحمد آية الكرسي، وفي الثانية بعد الحمد سورة القدر عشر مرات، كلُّ ذلك لترتفع الوحشةُ عن الميت.

من التشييع إلى القبر:

هنا نتحدث عن بعض ما يُصيب الإنسان بعد موته، نقرأُ هذه الرواية الواردة في الكافي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال: "إنَّ المؤمن إذا أُخرج من بيته شيَّعته الملائكةُ إلى قبره .."، هناك فرق بين تشييع المؤمن وتشييع الكافر، هناكَ منحٌ يُعطاها المؤمن في كلَّ مراحل وجوده، (إذا اُخرج من بيته شيَّعته الملائكةُ إلى قبره) قد لايجد منَ يُشيَّعه من الناس إلا القليل ولكنّه ونظراً لكونه مؤمناً تزدحم الملائكة في تشييعه (إذا اُخرج الميَّت من بيته شيَّعته الملائكة إلى قبره، يزدحمون عليه، حتى إذا انتهى إلى قبره قالت الأرض: مرحباً بك وأهلاً، أما والله لقد كنتُ أحبُّ أن يمشي عليَّ مثلك) كانت الأرض تستبشر بمشي هذا المؤمن عليها، ثم تقول: "لترينَّ ما أصنعُ بك، فيُوسَّع له مدَّ بصره، ويدخل عليه في قبره ملَكا القبر -وهما قعيدا القبر منكرٌ ونكير- فيُلقيان فيه الروح إلى حقويه، فيقعدانه فيسألانه، فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول الله، فيقولان ما دينك؟ فيقول الإسلام، فيقولان: من نبيك؟ فيقول: محمد (ص)، فيقولان له من إمامك؟ فيقول فلان: عليٌّ، أو الحسن، أو الحسين، حسب الإمام الذي مات في زمانه، ونحن نقول إنْ شاء الله الحجة المهدي ابن الحسن -عجَّل الله فرجه- هو إمامنا، فإنْ مات وليس في عنقه بيعة لإمام معصوم مات ميتة جاهلية، "اللهم أمتنا على ولاية مولانا الإمام الحجةِ ابن الحسن -عجَّل الله فرجه الشريف- ولقِّنا حجتنا عند موتنا وفي قبرنا يا الله قال: فينادي منادٍ من السماء صدق عبدي، افرشوا له في قبره من الجنة، وافتحوا له في قبره باباً إلى الجنة، وألبسوه ثياباً من الجنة، حتى يأتينا وما عندنا خيرٌ له، ثم يقال له: نَم نومةَ عروس كم هي هانئة نومة العروس، ينام نومة العروس، نم نومةً لا حلم فيها قال: "وإذا كان كافراً خرجت الملائكة تُشيَّعه"، الكفار أيضا تُشيَّعهم الملائكة ولكن باللعن، فكلَّما ساروا بجنازته طويلاً كلَّما ازداد اللعن عليه، يقول الإمام (ع): "يلعنونه حتى إذا انتهى إلى قبره، قالت له الأرض لا مرحبًا بك ولا أهلاً، ثم تقول له: أما والله لقد كنت أبغض شيء يمشي عليَّ مثلك، لا جرم لترينَّ ما أصنع بك اليوم، فتُضيَّق عليه حتى تلتقي جوانحه" يعني جنبه الأيمن يصير إلى الأيسر، وجنبه الأيسر يصير إلى الأيمن، فتختلط أضلاعه بعضها في بعض، ثم قال: يدخل عليه ملكا القبر، وهما قعيدا القبر منكرٌ ونكير، قال أبو بصير: جعلتُ فداك يدخلان على المؤمن والكافر في صورة واحدة؟، قال: لا، فيُقعدانه ويلقيان فيه الروح، فيقولان له مَن ربك؟ فيتلجلج ولا يدري ما يقول، فيقولان له: لا دَرَيت، ويقولان له: ما دينك؟ فيتلجلج، فيقولان له: لا دَرَيت، ويقولان: من نبيك؟ فيقول: قد سمعت الناس يقولون، فيقولان له: لا دريت، ويُسأل عن إمام زمانه، قال: وينادي منادٍ من السماء هلك عبدي، افرشوا له في قبره من النار، وألبسوه من ثياب النار، وافتحوا له باباً إلى النار، حتى يأتينا وما عندنا شرٌّ له، فيضربانه بمرزبتهم ثلاث ضربات ليس منها ضربة إلا يتطاير قبره ناراً، لوضرب بتلك المرزبة جبال تهامة لكانت رميماً"(5)، لاحظوا كم هو فظيع أن تكون ضربةٌ واحدة مما يقع على الكافر لو وقعت على جبال تهامة لأصبحت رميماً، وقال أبو عبد الله: "ويُسلِّط اللهُ عليه في قبره الحيَّات تنهشه نهشاً، والشيطان يغمه غماً، قال ويسمع عذابه مَن خلَق الله الَّا الجنُّ والإنس"(6)، ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾(7)، هذه الرواية تكشف عمَّا يلقاه الميَّت في قبره عند موته.

وهنا رواية أخرى، عن أبي عبد الله (ع) قال: "يجيئ الملكان -منكر ونكير- إلى الميت حين يُدفن، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، ثم يسألانه عن النبي (ص)، عن الشهادتين، فإنْ أجاب وُسَّع في قبره تسعة أذرع، ويُفتح له باب إلى الجنة ويرى مقعده فيها، واذا كان الرجل كافراً وبعد أنْ لا يتمكن من الإجابة يُسلِّط الله عليه في قبره تسعةً وتسعين تنيناً، أي تسعة وتسعين أفعى ولو أنَّ تنِّيناً واحداً منها نفخ في الأرض ما نبتت شجرة أبداً، ويُفتح له بابا من النار ويرى مقعده فيها"(8) هذه رواية أخرى توضح لنا حال الإنسان سواءً كان مؤمناً او كافراً بعد موته.

عذاب القبر:

بعد ذلك نتحدث عن عذاب القبر وأنَّ عذاب القبر ثابت، وأنَّ الإنسان إذا فعل بعض المعاصي فإنَّه يُعذَّب في قبره، فإنْ كان مؤمناً كان ذلك العذاب كفارةً له، فضغطة القبر تُصيب المؤمن وُتصيب الكافر، أما المؤمن فهي كفارة لما كان منه من تضييع النعم، فتضييع النعم والتبذير والبذخ من أسوأ الذنوب، عندما تُعطى الخير فتصرفه في غير مصرفه، وتضعه في غير موضعه، فذلك من التضييع للنعم، وهكذا فإنَّ هناك نعمٌ أخرى يُعطاها الإنسان إلا أنَّه يُضيَّعها، فهو يُعطى العلم مثلاً فلا يؤدي حقَّه، ويعطى القوة فلا يستثمرها في مرضاة الله، ويعطى العمر المديد فيقضيه في العبث واللهو، ويُعطى العقل فلا يزن به الأمور، بل تراه ينساق وراء مشاعره وعواطفه، كلُّ ذلك يحاسب عليه الإنسان، ويكون منشأُ عذابه هو تضييعه لتلك الامور..

ضغطة القبر والتي ورد في بعض الروايات أنَّه قد لا يسلم منها المؤمن، وهنا أنقل لكم رواية عجيبة -لعلكم سمعتموها ولكني أنقلها للتذكير فإنَّ الذكرى تنفع المؤمنين-، سعد بن معاذ صحابيٌّ جليلٌ من وجوه الأنصار، كان ممن ذبَّ الأذى عن رسول الله (ص) في مواقف كثيرة، هذا الرجل أُصيب بسهمٍ وقع في أكحله يوم الأحزاب، فكان جرحه من ذلك ينزف ولا يكاد يندمل حتى ينفجر، وبعد أن نصر اللهُ المسلمين يوم الأحزاب وانهزم المشركون عبَّأ رسول الله (ص) المسلمين لمواجهة اليهود الذين ساندوا المشركين رغم العهود التي كانت بينهم وبين المسلمين، فحاصر الرسول (ص) ومعه المسلمون قلاع اليهود، وحين اشتدَّ على اليهود الحصار قبِلوا بالنزول على حكم حليفهم في الجاهلية سعد بن معاذ والذي كان جريحاً، فحكم بقتل كلِّ الرجال المقاتلين من اليهود، واستبشر النبي (ص) بحكم سعد، وأفاد أنَّ حكمه مطابق لحكم الله تعالى من فوق سماواتٍ سبع، ثم إنَّه وبعد أن نصر الله المسلمين على اليهود انفجرت جراحة سعد بن معاذ ففاضت روحه، يقول الصادق (ع): بلغ الخبرُ رسولَ الله (ص)، فقام رسول الله (ص) وقام أصحابه معه، فأمر بأن يُغسَّل، فُغسِّل سعد وحنِّط وكُفِّن ورسول الله (ص) ممسكٌ بعضادة باب المغتسل، فلما أن حُنِّط وكُفِّن وحُمل على سريره تبعه رسول الله (ص) بلا حذاء ولا رداء، ثم كان يأخذ يمنةً تارة ويسرةً أخرى، يعني أنَّه تارة يذهب إلى يمين النعش وتارة إلى شمال النعش، حتى انتهى به إلى القبر فنزل رسولُ الله (ص) بنفسه حتى لحَّده وسوَّى اللِبَن عليه، وجعل يقول ناولوني حجراً، ناولوني تراباً رطباً يسدُّ ما بين اللِبن، فلما أن فرغ وحُثي التراب عليه قال رسول الله (ص): أما إنَّي أعلم أنه سيبَلى ويصلُ البِلى إليه، ولكنَّ الله يحب عبداً إذا عمِل عملاً أحكمه، فلما سوَّى التراب، قالت أم سعد: يا سعد هنيئاً لك الجنة، فقال رسول الله (ص): يا أم سعد لا تجزمي على ربَّك، فإنَّ سعداً قد أصابته ضمَّة، ثم رجع رسول الله (ص) بعد ذلك من تشييع ودفن سعد فجلس في أصحابه، فقالوا: يا رسول الله رأيناك صنعتَ مع سعدٍ مالم تصنعه لأحد، إنَّك اتَّبعت جنازته بلا رداء ولا حذاء، فقال: إنَّ الملائكة كانت بلا رداء ولاحذاء، أنا تأسَّيت بالملائكة، الملائكة التي كانت تشيَّع سعداً كانت بلا حذاءٍ ولا رداء لذلك خلعتُ رادئي وخلعت حذائي، قالوا: كنتَ تأخذ يمنةً ويسرة، قال: كانت يدي في يد جبرئيل آخذُ حيث يأخذ جبرئيل هو الذي يأخذني إلى يمين النعش تارة وإلى يساره تارةً أخرى، قالوا: أمرتَ بغسله، وصلَّيتَ على جنازته، ولحَّدته في قبره بنفسك، ثم قلتَ: إنَّ سعدًا قد أصابته ضمَّة؟! هذا سعد وما أدراك ما سعد؟! قال: نعم، سعد تُصيبه ضمَّة، تُصيبه ضغطة القبر؟ ما سبب ذلك؟ قال: (كان سيئَ الخلق مع أهله)، كان حادَّ المزاج مع زوجته، كان في خلقه مع أهله غِلظة، ولذلك أصابته ضغطة القبر.

هناك أسباب أخرى لضغطة القبر، سنتحدث عنها، فيما بعد والآن نحن نتحدث عن نفس العذاب في القبر أو ضغطة القبر، هناك رواية عن الإمام الصادق (ع) قال: (إنَّ السيد المسيح عيسى بن مريم مرَّ على قبرٍ يُعذَّب صاحبه، ثم مرَّ بعد سنةٍ على هذا القبر فرأى أنَّ صاحبه لا يُعذَّب، فقال: ياربي مررتُ على هذا القبر قبل سنةٍ فكان صاحبه يعذَّب، ومررتُ عليه في هذا العام وليس يُعذَّب صاحبه، ما السبب؟ فقال الله جل وعلا: أدرك له ولدٌ صالح، يعني كان ولده صغيراً والآن قد كبر وبلغ، فأصلح طريقًا، كان ثمَّة طريق فيه بعض العقبات فأصلحه هذا الولد، وكان من فعل هذا الولد أنَّه آوى يتيماً، فغفرتُ له بما عمِل ابنُه) (9)، لاحظوا كيف أنَّ العمل الصالح الذي يقوم به الابن يكون كفارةً لبعض ذنوب أبيه، وورد أيضاً أنَّ العبد إذا أُدخل قبره أتاه منكرٌ ونكير، إلى أن قال: وإذا كان كافراً قال: ما أدري، فيُضرب ضربةً يسمعها كلُّ من خلق الله إلا الإنسان، وسلَّط الله عليه الشيطان، فيقول له أنا أخوك في الدنيا، ويسلَّط عليه الحيات والعقارب، ويُظلِم عليه قبره، ثم يضغطه ضغطةً تختلط أضلاعه.

هناك رواية تبعث على الذُّعر، وردت عن أمير المؤمنين (ع)، يقول: إنَّ عدو الله، إذا أُدخل قبره قيل له، مَن ربُك، ومَن نبُّيك، وما دينُك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له: لا دريتَ وما هُديت، فيضربانه بمرزبة ضربةً ما خلق الله دابةً إلّا وتذعر لها، ما خلا الثقلين، ثم يفتحان له باباً إلى النار، ثم يقولان له: نم بشرَّ حال، فهو من الضيق مثل ما فيه القنا من الزج حتى إنَّ دماغه يخرج من بين ظفره ولحمه من شدة الضغطة، ويُسلِّط الله عليه حيَّات الأرض وعقاربها، وهوامها حتى يبعثه الله من قبره، وإنه ليتمنّى قيام الساعة مما فيه من الشر)(10).

أسباب عذاب القبر:

أولاً: النميمة:

بعد ذلك نتحدث عن بعض أسباب عذاب القبر، يقول الشيخ الصدوق (رحمه الله) في رسالة العقائد: إنَّ أكثر ما يكون عذاب القبر من النميمة. فالنميمة هي من أهم الاسباب التي ينتج عنها عذاب القبر، وعذابُ القبر الذي ذكرناه قد يطول آلاف السنين ويكون على النحو الذي ذكرناه، تنهشه الحيَّات والعقارب وهوامُّ الارض.

ما معنى النميمة؟ تعلمون معنى النميمة، النميمة هي أن تُوغر صدر أخيك على أخيه، تذهب إلى أحدهم فتقول إنَّ أخاك قد إغتابك، قد تكلَّم عليك فتملأ قلبه غيظًا على أخيه، هذه تكون أحد أسباب عذاب القبر.

ثانياً: سوء الخلق:

ومن أسباب عذاب القبر سوء الخلق، سيِّئ الخلق مع الناس هو مَن يلقاهم بوجهٍ عبوس، اذا مرَّ على المؤمن لا يُسلِّم عليه، سيءُ الخلق هو من يكون لسانه بذيئاً وفاحشاً، سيءُ الخلق هو مَن يغتاب الناس، هو مَن يمتهن الغمزَ واللمز والتعيير والسخرية بالناس وإفشاءَ معايبهم، سيءُ الخلق هو مَن يرفعُ صوته على أبيه وأخيه وأصدقائه، يزجرهم ويوبَّخهم وقد يشتمهم ويسبهم ويؤذيهم، هذا هو سيئ الخلق، وهو ممن يُعذَّب بعذاب القبر.

ثالثاً: الاستخفاف بالنجاسة:

وورد أيضاً أنَّ ممَّن يعذب بعذاب القبر المستخفُّ بالبول.

ما معنى الاستخفاف بالبول، المراد منه ظاهراً الاستخفاف بالطهارة، فهو لا يُحسن أن يطهَّر نفسه من النجاسات، هو مَن يتهاون في تطهير جسده من البول ومن النجاسات، يرى النجاسة فلا يتوقى منها ولا يتعلم كيف السبيل لتطهيرها، قد يتطاير البول على ثوبه وعلى جسده فلا يكترث، فيكون ذلك سبباً في أن يعذَّب في قبره.

رابعاً: الغيبة:

ومن أسباب عذاب القبر ما ورد عن ابن عباس، أنَّ عذاب القبر يكون أثلاثاً يعني له أسباب ثلاثة، ثلثٌ من الغيبة يتفكه بأعراض الناس ومعايبهم، يتحدَّث في غيبتهم، ينتقدهم، يبحث عن زلَّاتهم، يُفتش عن مساوئهم ثم يكشفها للناس، بل يتصيَّد على أخيه المؤمن عيوبه وعثراته، بل قد يصطنع له عيوباً ليست فيه فيُفشيها بين الناس ظلماً وبهتاناً وزوراً، هذا أحدُ مَن يُبتلى بعذاب القبر، وثلثٌ من النميمة والإيقاع بين الناس، وثلثٌ من عدم الاحتراز من البول.

خامساً: سوء الخلق مع الأهل:

ومن أسباب عذاب القبر كما ورد عن أمير المؤمنين (ع): "عزبُ الرجل عن اهله"(11) لعلَّ هذا الذي أشرنا إليه حيث تحدثنا عن سعد بن معاذ، من يعزب عن أهله، هو مَن يُعرِض عن زوجته، ودائماً يُوبَّخها ويزجرها أو يهجرها، والمؤسف أنَّ البعض يمدُّ يده على زوجته فيضربها! وما علم أنَّها مؤمنة، وأنَّ "مَن كسر مؤمناً فعليه جبره"(12) وأنَّ "حرمة المؤمن عند الله اشدُّ من حرمة الكعبة"(13)، من يتجرأ على إهانة الكعبة الشريفة أو تدنيسها؟! مَن يضرب زوجته، أو يمتهن مؤمناً -أياً كان- فهو ممَّن أهان الكعبة الشريفة، وذلك من موجبات عذاب القبر.

سادساً: عدم تمام الركوع والصلاة:

وهناك سبب آخر ينشأُ عنه عذاب القبر وهو أنَّ الإنسان لايُتمُّ ركوعه، لا يكاد يركع حتى يرفعَ رأسه من الركوع، ولا يكاد يرفع رأسه من الركوع حتى يسجد، "نقر كنقر الغراب"(14)، لا يطمئنُ في ركوعٍ، ولا سجود، ولا قيام، هذا هو الذي لا يتم ركوعه، فاذا لم يكن ممن يُتمُّ ركوعه فهو ممن استوجب عذاب القبر والعياذ بالله، هذه مضامين بعض الروايات التي تتحدث عن ما يوجب عذاب القبر.

المنجيات من عذاب القبر:

أولاً: أداء الفرائض الواجبة:

وهناك بعض الأمور تقي من عذاب القبر، هناك بعض الأفعال تُنجي من عذاب القبر، نقرأ لكم روايتين:

الرواية الأولى: رواها الكليني محمد بن يعقوب الكليني (قد) -في كتاب الكافي- عن الصادق (ع) قال: "يُسأل الميت في قبره عن خمس، عن صلاته وزكاته وحجه وصيامه وولايته إيانا"(15)، أي ولاية أهل البيت (ع)، هذه الخمس إذا أحسنها وأتمها نجى من عذاب القبر، يُحافظ على الصلوات، يُتمُّ ركوعها وسجودها وقيامها، ويحافظ على وقتها، ويُحسن وضوءها، فهذا يسلم من عذاب القبر، أما الانسان الذي لا يُحسن وضوءه للصلاة فهو ممن لم يتم الصلاة، ورد في رواية عن الإمام الصادق (ع): "أن ثمة مؤمناً وضع في قبره، فجاءته الملائكة فقالوا له: إنَّ العذاب المقرَّر عليك مئة جلدة، فقال: ماذا فعلت حتى اُجلد؟ أنا لا أُطيق، لا أُطيق مئة جلدة، ولكونه مؤمنًا قالوا له نُخفَّف عليك، فأخذوا يُسقطون عنه الجلدة بعد الجلدة وهو يقول: لا أُطيق، حتى بقيت جلدة واحدة فقط، قال: لماذا أُجلد هذه الجلدة، هذه أيضًا أسقطوها عنِّي، قالوا: لا، هذه لا تسقط، لابدَّ منها، فقال لهم: وما سبب هذه الجلدة؟ قالوا له: صلَّيتَ بدون وضوء"، لعله صلَّى بوضوء ولكنه لم يكن يُحسن الوضوء، لم يتعلم كيف يتوضأ وضوءاً صحيحًا كيف يتطَّهر، فكان ذلك موجباً لأنْ يُجلد تلك الجلدة. ثم سلَّط الله عليه ثعباناً يكدم أنامله أو إبهامه إلى يوم يُبعثون، لأنَّه لم يحسن وضوءه، ولم يتمَّ صلاته. وكذلك من لم يأتِ بالزكاة، أويتوانى في إخراج الزكاة والخمس، وكأنها أمواله! ونسي أنَّ هذه الأموال هي كلها أموال الله، قسَّمها بينه وبين الفقراء، وقال لك خذ الأكثر وأعطِ الفقراء العشر، أو الخمس بالنسبة للخمس، فهذا لأنَّه لم يكن يزكِّي ولا يخمِّس فكان مستحقاً لعذاب القبر، وكذلك إذا لم يكن يؤدِّي الصيام، أو يتوانى في أمر الحج، يُسوَّفه ويؤخِّر أداءه إلى أن يموت، فيُخيَّره الله عندئذٍ إما أن يموت يهودياً أو نصرانياً، وهذا من العديلة عند الموت -التي تحدثنا عنها-، فتركُ الحجِّ دون عذرٍ من موجبات العديلة عند الموت، وكذلك ورد عن أبي عبد الله (ع) قال: مَن منع قيراطاً من الزكاة فليمت إنْ شاء يهودياً أو نصرانياً(16).

ثانياً: ولاية أهل البيت (ع):

ومن المنجيات من عذاب القبر الولاية، ولاية أهل البيت (ع)، وهي أهم شيءٍ يحول دون عذاب القبر، فقد ورد أنها تقول للأربع -الصلاة والزكاة والحج والصيام- اكفوا هذا العبد فإذا عجزتم فسوف أتولَّى أمره، هذا العبد إذا كان عنده خطأ في الصلاة أو تقصير في الزكاة، أو في الحج، فإنَّ الولاية لأهل البيت (ع) تسدُّ هذا النقص، أما إذا لم يكن يصلِّي من الأساس فإنَّ الولاية لا تنفعه ظاهراً، "شفاعتنا لا تنال مستخفا بصلاته"(17)، "إذا أُدخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه، -تحميه- والزكاة عن يساره والبرُّ مطلٌّ عليه"(18) ومعنى البر هو قضاء حاجة المؤمن أوالتصدق بصدقةٍ على فقير، البرُّ هو أنْ أكرم فقيراً، أو أمسحُ على رأس يتيم، هذا هو البر، يقول (ع): "والبر مطلٌّ عليه فيتنحى الصبر ناحية"(19)، فاذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة: دونكما صاحبكما، فإن عجزتما فأنا دونه. ومعنى ذلك أنَّ الصبر قد يكون أكثر قدرة على حماية العبد من صلاته غير التامَّة: "وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ"(20).

إذنْ عرفنا أنَّ الموجب للنجاة من عذاب القبر هي هذه الأمور الخمسة الصلاة والزكاة والصيام والحج والولاية وكذلك البرُّ والصبر.

وورد في رواية أخرى عن أهل البيت (ع) أنَّه "إذا مات العبد المؤمن، دخل معه في قبره ستة صور، فيهن صورة أحسنهن وجهاً، وأبهاهن هيئة، وأطيبهن ريحاً، وأنظفهن صورة، قال: فيقف صورة عن يمينه، وأخرى عن يساره، وأخرى بين يديه، وأخرى خلفه، وأخرى عند رجله، وتقف التي هي أحسنهن فوق رأسه، فإن أُتي عن يمينه منعته التي عن يمينه، ثم كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست، قال: فتقول أحسنهن صورة: ومن أنتم جزاكم الله عني خيراً؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام، وتقول التي خلفه: أنا الحج والعمرة، وتقول التي عند رجليه: أنا برُّ من وصلت من إخوانك، ثم يقلن: من أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً، وأطيبنا ريحاً، وأبهانا هيئة! فتقول: أنا الولاية لآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين"(21) فهذه الرواية الشريفة تشير إلى تمثُّل الأعمال الصالحة في القبر، وتشير إلى أنها تحول دون وقوع العذاب على الميت في القبر، ومعنى حيلولتها هو أنَّ الملتزم بهذه الإعمال يكون في منجى من عذاب القبر، فهي ترمز لذلك ظاهراً.

مسك الختام:

نختم الحديث برواية شريفة مؤثِّرة ومعبَّرة، قيل: لما ماتت فاطمة بنت أسد -والدة أمير المؤمنين (ع)- أقبل علي (ع)، وهو باك، فقال النبي (ص): ما يُبكيك؟ لا أبكى الله لك عيناً. فقال: توفيت والدتي يا رسول الله، فقال النبي (ص): بل والدتي يا عليّ، فقد كانت تجوِّع أولادها وتُشبعني، وتشعثُ أولادها وتدهنني، والله لقد كانت في دار أبي طالب نخلة، وكانت تُسابق إليها من الغداة، لتلتقط ما يقع منها في الليل، وكانت تأمر جاريتها فتلتقط ما يقع من الغلس، ثم تجنيه -رضي الله عنها- فإذا خرج بنو عمي، تُناولني ذلك. ثم نهض (ص) وأخذ في جهازها، وكفَّنها بقميصه (ص)، وكان في حال تشييع جنازتها يرفع قدماً ويتأنَّى في رفع الأخرى، وهو حافي القدم، فلما صلَّى عليها، كبَّر سبعين تكبيرة، ثم لحَّدها في قبرها بيده الكريمة، بعد أن نام في قبرها، ولقَّنها الشهادتين، فلما أُهيل عليها التراب، وأراد الناس الانصراف، جعل (ص) يقول لها: ابنك ابنك، لا جعفر ولا عقيل، فقالوا: يا رسول الله، فعلت فعلاً ما رأينا مثله قطّ، مشيك حافي القدم، وكبَّرت سبعين تكبيرة، ونومك في لحدها، وقميصك عليها، وقولك لها: ابنك ابنك، لا جعفر ولا عقيل! فقال (ص): فأما التأنِّي في وضع أقدامي ورفعها في حال تشييع الجنازة! فلكثرة ازدحام الملائكة. وأما تكبيري سبعين تكبيرة؛ فإنَّها صلى عليها سبعون صفاً من الملائكة. وأما نومي في لحدها؛ فإني ذكرتُ لها في أيام حياتها ضغطةَ القبر. فقالت: واضعفاه، فنمتُ في لحدها لأجل ذلك، حتى كفيتها ذلك. وأما تكفينها بقميصي؛ فإنِّي ذكرت لها حشر الناس عراة، فقالت: واسوأتاه، فكفَّنتها به لتقوم يوم القيامة مستورة. وأما قولي لها: ابنك ابنك، لا جعفر ولا عقيل؛ فإنَّها لما نزل عليها الملكان وسألاها عن ربَّها فقالت: الله ربي، فقالا لها من نبيُّك؟ فقالت: محمد نبيي، فقالا لها: من وليُّك وإمامك؟ فاستحيت أن تقول: ولدي فقلتُ لها: قولي ابنك علي بن أبي طالب (ع). فأقر الله بذلك عينها(22).

الحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة المؤمنون / 100.

2- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج18 / ص323.

3- سورة المؤمنون / 100.

4- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج6 / ص218.

5- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص240.

6- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص240.

7- سورة إبراهيم / 27.

8- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص236.

9- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج21 / ص359.

10- الكافي -للشيخ الكليني- ج3 / ص232.

11- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج1 / ص340.

12- الكافي -الشيخ الكليني- ج2 / ص45.

13- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج47 / ص90.

14- عن أبي جعفر (ع) قال: "بينا رسول الله (ص) جالس في المسجد إذ دخل رجل فقام يصلي فلم يتم ركوعه ولا سجوده فقال (ص): نقر كنقر الغراب لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتن على غير ديني". الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص268.

15- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص241.

16- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج9 / ص33.

17- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج79 / ص227.

18- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج3 / ص255.

19- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج3 / ص255.

20- سورة البقرة / 45.

21- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج6 / ص234.

22- الروضة في فضائل أمير المؤمنين -شاذان بن جبرئيل القمي- ص41.