كيفيَّة التربيع للجنازة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

المعروف هو استحباب تربيع الجنازة حين التشييع، فهل لذلك كيفيَّة خاصَّة أو أنَّ المستحبَ هو التربيعُ كيفما اتَّفق؟

 

الجواب:

تربيعُ الجنازةِ -بمعنى الأخذ بجوانبها الأربعة- مستحبٌ بأيِّ كيفيةٍ اتَّفقت، فله أنْ يأخذَ بجانبها الأيمنِ ممَّا يلي الرأس ثم يأخذ بجانبها الأيسر ممَّا يلي الرأس ثم يأخذ بجابيها الأيمن والأيسر ممَّا يلي الرجل أحدهما قبل الآخر، وله أنْ يعكس فيبدأ بما يلي الرجل من أحد الجانبين، وله أنْ يبدأ بما يلي الرجل من أحد الجانبين ثم بما يلي الرأس ثم يعود إلى مايلي الرجل وهكذا حتى يأخذ بجميع جوانبها الأربعة، فأيَّ كيفيةٍ اعتمدَ فإنَّه يكون ممتثلاً للسنَّة في تربيعِ الجنازة، نعم ثمة كيفيةٌ في التربيع نصَّت عليها الروايات فيها مزيدٌ من الفضل إلا أنَّ ذلك لا يعني -كما سيتَّضح- عدم استحباب مطلق الأخذ بجوانب النعش الأربعة وإنْ لم يكن بالكيفيَّة المخصوصة المنصوصِ عليها، وذلك لأنَّ الأمر الاستحبابي بشيءٍ إذا ورد مطلقاً ثم ورد خطابٌ آخر اشتمل على خصوصيَّةٍ زائدة فإنَّ الخطاب الثاني لا يصلح لتقييد الخطاب الأول بل يكون وجه الجمع بينهما هو حملهما على تعدُّد المطلوب، بمعنى أنَّ متعلَّق الخطاب الأول يكون مطلوباً ولكن الاِلتزام به مع رعاية الخصوصيَّة التي اشتمل عليها الخطاب الثاني يكون أكمل وأكثر فضلاً، ومثاله الأمر بالصلاة جماعة والأمر بالحرص على أن يكون المصلِّي في الصفِّ الأول أو بإيقاع الجماعة في المسجد، فإنَّ عدم الالتزام بالأمر الثاني لا ينفي استحباب الأمر الأول.

 

وكيف كان فما يمكن الاستدلال به على استحباب التربيع بأيِّ كيفيةٍ اتَّفقت هو إطلاقات الأمر بالتربيع، وهي رواياتٌ عديدة، وفيها ماهو معتبرٌ سنداً:

 

منها: مارواه الكليني بسندٍ معتبر عن عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر (ع) قال: "مَن حمل جنازةً من أربع جوانبِها غفر اللهُ له أربعينَ كبيرة"(1).

 

ومنها: مارواه الصدوق بسندٍ معتبر عن اسحاق بن عمَّار عن الصادق (ع) انَّه قال: "إذا حملتَ جوانبَ السرير سريرَ الميِّت خرجت من الذنوب كما ولدتك امُّك"(2).

 

ومنها: مارواه الصدوق بسنده عن سليمان بن صالح، عن أبيه، عن أبي عبد الله (ع) قال: "مَن أخذ بقائمةِ السرير غفر اللهُ له خمساً وعشرين كبيرة، فاذا ربَّع خرجَ من الذنوب"(3).

 

فالمستظهَر من مثل هذه الروايات هو أنَّ الأخذ بجوانب السرير الأربعة مستحبٌ مطلقاً وأنَّ كلَّ مَن اِلْتزم بحمل السرير من جوانبه الأربعة غُفرت له أربعين كبيرة سواءً بدأ بمقدَّم السرير أو بمؤخَّره، وسواءً بدأ بميامِنِ السرير أو بمياسره، وسواءً دار حوله دور الرحى أو خالف بين ترتيب الأخذ بالجوانب الأربعة، فالمدارُ بمقتضى الإطلاق في ترتُّب الثواب الموعود هو الأخذُ بجميع جوانبِ السرير.

 

وكذلك يُمكن الاستدلال على استحباب مطلق الأخذ للجوانب الأربعة للسرير دون اعتبار كيفيَّةٍ خاصَّةٍ بما رواه الصدوق في الفقيه بسندٍ معتبرٍ عن الحسين بن سعيد انَّه كتب إلى أبي الحسن الرضا (ع): يسأله عن سرير الميِّت يُحمل، أله جانبٌ يبدأ به في الحمل من جوانبه الاربعة، أو ما خفَّ على الرجل يحمل من أيِّ الجوانب شاء؟ فكتب: مِن أيِّها شاء"(4).

 

فمفاد الرواية كما هو ظاهرٌ جداً أنَّ المكلَّف يُدرِك السنَّة ويكون ممتثلاً للأمر الاستحبابي بمجرَّد الأخذ بالجوانب الأربعة بقطع النظر عن أيِّ الجوانب بدأ به، فقوله (ع): "من أيِّها شاء" ليس بياناً للإباحة، لوضوح ذلك، ولأنَّ غرض السائل إنَّما هو الاستفهام عمَّا تُدرَكُ به السنَّة، لذلك كان تخيير الإمام (ع) ظاهراً في أنَّ إدراكَ السُنَّة يتحقَّق بكلِّ كيفيَّةٍ يتمُّ بها الأخذُ للجوانبِ الأربعة.

 

الكيفيَّةُ المخصوصةُ للتربيع:

وأمَّا الكيفيَّة المخصوصة للتربيع والتي يكون في الالتزام بها مزيدٌ من الفضل فقد اختلف الفقهاءُ في تحديدها، ومنشأ الاختلاف بينهم هو الاختلاف في فهم الروايات المتصدِّية لبيان ذلك، فثمة مَن ذهب إلى أنَّ التربيع هو أنْ يبدأ الحامل فيأخذ بمقدَّم السرير الأيمن حيثُ يمين يد الميِّت ويمين الحامل بلحاظ مَن يمشي خلفَ الجنازة ثم يأخذ بمؤخَّر السرير الأيمن ثم يأخذ بمؤخَّر السرير الأيسر ثم بمقدَّم السرير الأيسر فإذا انتهى إلى مقدَّم السرير الأيسر أخذ بعده بمقدَّم السرير الأيمن وهكذا يدور حول السرير مبتدأً بمقدَّم السرير الأيمن ومنتهيأ بمقدَّم السرير الأيسر.

 

والقول الآخر هو ذات الكيفيَّة إلا أنَّ الإبتداء يكون بمقدَّم السرير الأيسر حيث يسار الميت، وانتهاء الدورة بمقدَّم السرير الأيمن.

 

فالكيفيتان متفقتان على أنَّ الاِبتداء يكون بمقدَّم السرير والاِنتهاء بمقدَّم السرير بحيث يكون التربيع بنحو الدوران، فلا يرجع الحامل بعد الأخذ بمؤخر السرير من أحد الطرفين حتى يأخذ الطرف الآخر من المؤخر وبعدها يأخذ الطرفَ الآخر من المقدَّم، وذلك خلافاً للعامَّة حيث يبدأ الحامل بطرف المقدَّم ثم طرف المؤخر من نفس الاِتِّجاه ثم يعود إلى الطرف الآخر من المقدَّم ثم يأخذ المؤخَّر من نفس الاِتِّجاه الثاني.

 

والقول الأول ذهب إليه الشيخُ في النهاية والمبسوط وادَّعى عليه الإجماع، ونُسب إلى المشهور كما أفاد ذلك عددٌ من الفقهاء، وهو الذي يقتضيه ظاهر الروايات -كما هو الصحيح- مثل معتبرة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (ع) قال: السنَّة أنْ تستقبل الجنازه من جانبها الأيمن، وهو مما يلي يسارك، ثم تصير إلى موخَّره وتدور عليه حتى ترجع إلى مقدَّمه (5)".

 

فظاهر المعتبرة أنَّ الاِبتداء يكون بمقدَّم الجانب الأيمن للجنارة وبعده يكون الاِنتقال إلى مؤخَّر الجانب الأيمن للجنازة، فالضمير في قوله: "ثم تصير إلى مؤخَّره" يرجع إلى الجانب الأيمن، ومعنى: "حتى ترجع إلى مقدَّمه" هو الرجوع إلى مقدَّم الجانب الأيمن للجنازة بعد أخذ مقدَّم الجانب الأيسر، وبصيرورته إلى مقدَّم الجانب الأيمن بعد مقدَّم الجانب الأيسر يتحقق الدوران.

 

ومعنى قوله: "وهو ممَّا يلي يسارك" انَّ مقدَّم الجانب الأيمن للجنازة تكون للمشيِّع المستقبل لها بإزاء يساره، فيمينُ الميِّت المستلقي على النعش يكون عند يسار المشيِّع المستقبل للنعش، نعم حين يحمل المشيع لمقدَّم الجانب الأيمن فإنَّه سيضعه على عاتقه الأيمن إذا كان سيأخذ النعش من خارجه، وذلك لأنَّه حينئذٍ سوف يسير في نفس اتِّجاه مسار الجنازة. فالرواية ظاهرة في أنَّ الاِبتداء يكون بمقدَّم يمين الميِّت والذي هو مقدَّم يمين النعش.

 

وكذلك هو ظاهر معتبرة العلاء بن سيَّابة، عن أبي عبد الله (ع) قال: تبدأ في حمل السرير من الجانب الأيمن، ثم تمرُّ عليه من خلفه إلى الجانب الآخر. ثم تمرُّ عليه حتى ترجع إلى المقدَّم كذلك دوران الرحى عليه"(6).

 

فإنَّ الظاهر من قوله: "من الجانب الأيمن" هو جانب السرير الأيمن، ويؤيد هذا الاستظهار تشبيه التربيع بدوران الرحى، وأصرح من كلا الروايتين ما ورد في رواية الفضل بن يونس قال: سالتُ أبا ابراهيم (ع) عن تربيع الجنازة؟ قال: اذا كنتَ في موضع تقية فابدأ باليد اليمني، ثم بالرجل اليمني، ثم ارجع من مكانك إلى ميامن الميِّت لا تمرُّ خلف رجليه البته حتى تستقبل الجنازه فتاخذ يده اليسري، ثم رجله اليسرى، ثم ارجع من مكانك لا تمرُّ خلف الجنازة البتة حتى تستقبلها تفعل كما فعلت أولاً، فإنْ لم تكن تتقي فيه فانَّ تربيع الجنازة الذي جرت به السنَّة أنْ تبدأ باليد اليمنى، ثم بالرجل اليمنى، ثم بالرجل اليسرى، ثم باليد اليسرى حتى تدور حولها"(7).

 

فإنَّ المراد بالبدء باليد اليمنى هو يد الميت بقرينة قوله "ثم بالرجل اليمنى" فلو كان المراد من اليد اليمنى هي يد الحامل لما ناسب العطف عليها بالرجل اليمنى لوضوح إرادة رجل الميِّت.

 

وأمَّا معتبرة يونس بن عبد الرحمن عن علي بن يقطين، عن أبي الحسن موسى (ع) قال: سمعتُه يقول: السُنَّة في حمل الجنازة ان تستقبل جانب السرير بشقِّك الأيمن فتلزم الأيسر بكفِّك الأيمن، ثم تمرُّ عليه إلى الجانب الآخر وتدور من خلفه إلى الجانب الثالث من السرير، ثم تمرُّ عليه إلى الجانب الرابع مما يلي يسارك"(8).

 

فهذه المعتبرة هي وحدها التي قد يُدعى ظهورها في القول الثاني وهو أنَّ البدء يكون بالجانب الأيسر للسرير، وذلك بدعوى ظهور قوله: "فتلزم الأيسر بكفك" في إرادة مقدَّم الجانب الأيسر للسرير.

 

إلا انَّه بناءً على هذا الفهم يكون أخذ الحامل مقدَّم الأيسر للسرير بكفِّه الأيمن مستلزمًا للمشي على نحو القهقرى اذا كان أخْذُه بكفِّه الأيمن يُراد منه مايشمل عاتقه الأيمن كما هو المتعارف في حمل الجنازة أو يكون مشي الحامل عرضاً اذا كان سيأخذها بكفِّه الأيمن فحسب دون عاتقه فإنَّ ذلك لن يكون إلا بالمشي عرضاً لأنَّ ميسرة السرير تكون بإزاء ميسرة الحامل اذا كان يمشي في اتَّجاه مسيرة االجنازة، فلا يُتاح له أخذ السرير بكفِّه الأيمن إلا أن يكون مستقبلاً بمقاديم بدنه لميسرة السرير فحينئذٍ يمكنه أخذ مقدَّم الميسرة بكفِّه الأيمن ولكن مشيه سيكون عرضاً، وهذا مضافاً إلى عدم تعارفه فإنَّه لا يخلو من مشقَّةٍ، ولو وضع الميسرة على عاتقه الأيمن فإنَّه سيمشي القهقرى إلا أن يدخل تحت السرير فيأخذ ميسرة السرير بكفِّه وعاتقه الأيمن ويكون مشيه حينئذٍ في مسار الجنازة، والظاهر أنَّ الدخول تحت السرير خلاف المتعارف خصوصاً اذا لم تكن للسرير مقابض طويلة أو لم تكن له مقابض كما في مثل التابوت، كما أنَّ ترك المقبض لمشيِّعٍ آخر لأخذ مقبضٍ آخر للسرير لا يخلو من تكلُّف ومشقة على المشيِّعين، وهذا بخلاف ما لوكان الحمل من خارج السرير والذي يترتب عليه المحاذير التي ذكرناها، فالرواية لا تخلو من اضطراب واجمال، وبذلك يتعيَّن العمل بمقتضى ظاهر الروايات الأولى وهو الأبتداء بالجانب الأيمن للسرير.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص174.

2- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج1 / ص162.

3- ثواب الأعمال -الشيخ الصدوق- ص196.

4- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج1 / ص162.

5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص155.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص156.

7- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص156.

8- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص156.