الافتتانُ بالثناءِ والمدح

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، لا نُشْرِكُ بِالله شيئًا وَلا نَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ وَليّا، وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخرةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ، يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماء وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ، كذلِكَ اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ.

نَحْمَدُهُ كَما حَمَدَ نَفْسَهُ وَكَما هُوَ أَهْلُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ يَعْلَمُ ما تُخْفِي النُّفُوسُ وَما تُجِنُّ البِحارُ وَما تُوارِي مِنْهُ ظُلْمَةٌ وَلا تَغِيبُ عَنْهُ غائِبَةٌ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ مِنْ شَجَرَةٍ وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلْمَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها.

وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَنَبِيُّهُ، وَرَسُولُهُ إلى خَلْقِهِ، وَأَمِينُهُ عَلى وَحْيِهِ وَأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ رِسالاتِ رَبِّهِ وَجاهَدَ فِي اللهِ الحائِدِينَ عَنْهُ العادِلِينَ بِهِ، وَعَبَدَ الله حَتّى أَتاهُ اليَّقِينُ صلى الله عليه وآله.

أُوصِيكُمْ عبادَ الله بِتَقْوى الله الَّذِي لا تَبْرَحُ مِنْهُ نِعْمَةٌ وَلا تَنْفَذُ مِنْهُ رَحْمَةٌ وَلا يَسْتَغْنِي العِبادُ عَنْهُ، الَّذِي رَغَّبَ فِي التَّقْوى، وَزَهَّدَ فِي الدُّنْيا، وَحَذَّرَ المَعاصِي، وَتَعَزَّزَ بِالبَقاءِ، وَذَلَّلَ خَلْقَهُ بِالمَوْتِ وَالفَناءِ، وصلى اللهُ على محمدٍ رسولِهِ وآله الطاهرين.

أيُّها الأخوةُ المؤمنون والأخواتُ المؤمنات نعيشُ هذه الأيامَ أجواءَ ذكرى ميلاد الإمامين الحسين بن عليٍّ سيدِ الشهداء وعليِّ بنِ الحسين زينِ العابدين (عليهما السلام) وذكرى ولادة العباسِ بن عليٍّ الشهيد (عليهما السلام) ونستثمرُ هذه الفرصةَ للوقوفِ على واحدٍ من غُررِ الحكَم المأثورة عن الإمام زين العابدينَ (عليهما السلام)، يقولُ (عليهما السلام): "كم مِن مفتونٍ بحُسنِ القولِ فيه، وكم من مغرورٍ بحسن السِترِ عليه، وكم من مُستدرَجٍ بالإحسانِ إليه"(1).

يُحذِّر الإمام زينُ العابدينَ (عليهما السلام) في هذه الروايةِ الشريفة من حالاتٍ ثلاثٍ تنتابُ الإنسان:

الحالةِ الأولى: هي الافتتانُ بالثناءِ والمدح من قِبل الناسِ عليه.

والحالةِ الثانية: هي الاغترارُ بالسِتر عليه من قِبل الله عزَّوجل. فيتوهَّمُ أنَّه لن تُفتضحَ معائبُه وأخطاؤُه وما يرتكبُه من معاصي، لأنَّه وجد نفسَه وقد ارتكب ذنبًا فلم يُعرَف من قِبَل الناس ثم ارتكب آخر فلم يعرفْه الناس ثم ارتكب ذنبًا ثالثًا ورابعًا فلم يطَّلع عليه أحدٌ فاغترَّ وتوهَّم أنَّ استتار ذنبِه عن الناس كان لحسن تدبيره ولفطنته، فهو يتوهمُ انَّه لقدرتِه على التستُّر استطاع أن يُخفي معائبَه وذنوبَه عن الناس فهو يبدو رغم اجتراحه للذنوب في مظهر المؤمن التقيِّ الورع وواقعُ حاله رجلٌ مليءٌ بالذنوب والمعاصي، فالإمامُ (عليهما السلام) يُحذِّرُ مثلَ هذا الإنسان من الاغترار، فكم من رجلٍ ستر اللهُ عليه الكثيرَ من ذنوبه ثم إذا تمادى فضحَه، فلا ينبغي للعاقل أن يغترَّ بمجرد أنَّ الله تعالى ستر عليه ذنبًا ارتكبه وذنبًا آخر اقترفه وذنبًا ثالثًا اجترحه، لا ينبغي له أن يغترَّ بعد ذلك بأنَّه سوف لن يتعرَّفَ الناسُ على واقعه فربَّما يغضبُ اللهُ عزوجلَّ عليه فيفضحُه ويكشفُ سِتره، يقول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾(2)، أي لمَّا اغضبونا انتقمنا منهم، والانتقامُ يكون في بعض صوره بكشف السِتر وبالفضيحة.

والحالةِ الثالثة: التي قد تنتابُ الإنسانَ والتي أشار إليها الإمام (عليهما السلام) هي غفلةُ الإنسان عن واقعه وعن ذنوبه نتيجة توالي إحسانِ الله تعالى عليه، فكلَّما خرج من نعمةٍ حظيَ بأُخرى فيتوهَّمُ أنَّ هذه النعمَ لن تزولَ عنه فيبطرُ ويغفلُ عن ذنوبه فلا يستغفرُ منها ولا يؤوب إلى رشده ذلك لأنَّه كلما خرج من نعمةٍ دخل في أخرى، فيتوهَّمُ أنَّ الله عزوجلَّ لن يفعلَ به إلا ما يُحب والحال أنَّ الأمر ليس كذلك بالضرورة، فلعلَّ ما يحظى به من توالي النعم وترادفِها هو استدارجٌ له من قِبل الله عزوجل، قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ / وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾(3) فتوالي الإحسان وترادفُ النِعم قد يكونُ منشأهُ الاستدراجَ وإلإملاء.

بعد هذه المقدِّمة نقفُ قليلًا عند الفقرة الأولى من كلامِ الإمامِ (عليهما السلام) يقول الإمامُ زين العابدين (عليهما السلام): "كم مِن مفتونٍ بحُسنِ القول فيه"(4).

ما المراد من المفتون؟

المفتونُ بحسب المدلول اللغوي وبحسب ما يُستفادُ من سياق الرواية هو المصابُ بمسٍّ من الجنون، فهذا هو المفتون، لذلك فإنَّ المشركين حين اتَّهموا النبيَّ الكريم (ص) بالجنون ردَّ عليهم القرآنُ بقوله: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ / بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾، يعني أنَّه سوف يتبيَّنُ لكم أيُّكم هو المجنون هل هو المُتَهِمُ أو هو المُتَهَم؟ هل المُتَهِمُ بالجنون هو المجنونُ واقعًا أو المُتَهَمُ هو المجنونُ واقعًا؟ سيعرفون غدًا واقعَ الأمر، ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ / بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ / إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(5).

إذن فالمفتونُ هو من به مسٌّ من الجنون، لذلك يقال: هذا الرجل مفتونٌ بحبِّ هذه المرأة أي إنَّه مجنونٌ بحبِّها.

الجنون فنون:

والجنون -كما يُقال- فنون، ما معنى: الجنونُ فنون؟ يعني انَّ الجنونَ على أنواع: فهناك مجنونٌ لأنَّه يعشقُ امرأةً فتُخرجُه عن رشده وصوابِه وتجعلُه لا ينظرُ إلا إلى ما يُرضيها وإنْ كان ما يُرضيها مخالفًا لمقتضى الرشدِ ومقتضى التعقُّل، فيرتكبُ الحماقاتِ والأخطاء، ويتجاوزُ الكثيرَ من مقتضياتِ الحكمةِ إرضاءً لمعشوقته، هذا نوعٌ من الجنون، وهناك مَن هو مجنونٌ لعشقه المتعاظمِ لنفسه وإعجابِه بذاته، وهذا هو الذي يُعبَّرُ عنه بجنون العظمة، فمثلُ هذا الإنسان يرى نفسه أنَّه فوق كلِّ الناس وأفضلُ من كلِّ الناس وإنَّه أكملُهم عقلًا وأكثرُهم رشدًا، وإنَّ أحدًا لا يُضاهيه في ملكاته، فليس له نِد، وما في الأحياء له من نظيرٍ ولا شبيه، فمثلُ هذا مفتون و به مسٌّ من الجنون.

حقيقة الجنون:

فالجنونُ لوثةٌ تُصيبُ عقلَ الإنسان فيرى غيرَ الواقع أنَّه هو الواقع، ومعنى ذلك انَّ أوهامًا وخيالاتٍ تكتنفُ عقلَه وتُهيمنُ على مداركِه فيعتقدُ إنَّها الواقع والحالُ انَّها ليست واقعًا وإنَّما هي مجردُ أوهامٍ وخيالات، فالجنونُ بمختلف أنواعه لا يعدو النظرَ إلى الأشياء على غير واقعها، فالإمامُ (عليهما السلام) يقول: إنَّ كثيرًا من الناس يُبتلى بمسٍّ في عقله نتيجة ثناء الناسِ عليه، فيتوهَّمُ لثنائهم عليه أنَّ ذلك هو واقعُه، فيرى أنَّ ما يمدحونه به ويُثنون به عليه هو واقعُه، فحين يُقال له إنَّك رجلٌ عالم وهو في الواقع ليس كذلك يتوهَّم أنَّه عالم ويتعاطى مع ذاته على أساس أنَّه عالم، ويتعاطى مع الآخرين على أساس أنَّه عالم فهو مفتون وبه مسٌّ من الجنون، وهكذا لوقال عنه الناس إنَّه رجلٌ كريم والأمرُ ليس كذلك فإذا توهَّم أنَّه كريمٌ واقعًا، فهذا به مسٌّ من الجنون لأنَّه افتتن بكلام الناس فيه فتوهَّم أنَّ غير الواقع هو الواقع.

قوله (ص): "من مدحك فقد ذبحك"(6):

وقد حذَّرتِ الرواياتُ الورادةُ عن الرسول الكريم (ص) وعن أهل البيت (عليهم السلام) حذرَّت من المدح والثناء على الآخرين خصوصًا بغير الواقع، فإنَّ في ذلك مهلكةً للممدوح، يقول الرسولُ الكريم كما يُروى عنه (ص): "إيَّاكم والمدحَ فإنَّه الذبح"(7) يعني انَّك عندما تمدحُ أحدًا فأنت تُهلكه.

ويقول (ص) في روايةٍ أخرى "إيَّاكم والتمادحَ فإنَّه الذبح"(8).

ويقول (ص): "من مدحك فقد ذبحَك"(9).

وورد انَّ الرسول (ص) كان جالسًا وكان في محضره رجلٌ أثنى على آخر ثناءً طويلًا عريضًا، فقال له الرسول (ص): "ويحك قطعتَ ظهرَ أخيك، واللهِ لو سمعَها ما أفلحَ أبدا"(10) فهو لا يُفلح لأنَّه سوف يعيشُ نشوةَ هذا الثناء والمدح، وسوف ينتابُه شعورٌ بأنَّ هذا الثناء هو هو ما عليه واقعًا فيتعاطى مع ذاته ومع الآخرين على هذا الأساس، وهذا ما يُوقعُه في الكثير من المهالك، فلو امتدحتَ رجلًا بالشجاعة فوصفته بإنَّه فارسٌ مِقدام فتوهَّم انَّه كذلك، فدعاه آخرُ من ذوي البأس في معركةٍ إلى مبارزة فإنَّه سوف يتقدَّم لأنَّه واقع تحت تأثير الدح الكاذب، فما هو المصيرُ الذي ينتظره؟! أليس هو الموت؟، فهو ليس كفؤًا واقعًا لهذا الشجاع وإنَّما كان يتوهَّمُ ذلك لمدح ِالآخرينَ له، فهؤلاءِ الذين امتدحوه بالشجاعة قد أوقعوا هذا المسكين في الموت والهلاك.

هذا مثالٌ ظاهري وإلا فالهلاكُ قدلا يكونُ من جهة الموت، الهلاكُ له مناحٍ متعدَّدة، فالنبيُّ (ص) عندما يقول: "إيَّاكم والمدحَ فإنَّه الذبح"(11) فأنَّ مراده ظاهرًا من الذبح هو إنَّ هذا المادحَ قد وضع هذا الإنسانَ الممدوحَ في أول الطريق المُفضي لهلاكه حقيقة أو معنويًا لأنَّه بمدحه إيَّاه سوف يُصبحُ إنسانًا آخر يتعاطى مع الحياة بشخصيته الوهميَّة وكمالاتِه الوهميَّة، فهو بذلك قد حجبَه عن واقعه وحرَمَه من التمتُّع بما يتناسبُ مع واقعه.

الممدوح يَحيى بشخصيةٍ وهميَّة:

هناك مساوئُ عديدة تترتَّبُ على الثناء والاغترارِ بالثناء والافتتانِ بالإطراء، فمِن ذلك ما ذكرناه في مطاوي الحديث وهو إنَّ الإغترار بالثناء يُفضي إلى أنْ ينسى الإنسانُ واقعَه، وما مِن شيءٍ أسوأُ من أنْ يعيش الإنسانُ على خلاف واقعه، فهو يرى نفسه كبيرًا عاليًا أو حكيمًا عالمًا أو قويًَّا منيعًا وهو في الحقيقةِ ليس شيئًا من ذلك، فمثلُ هذا يتعاطى ويتعاملُ على أساسِ انَّه كذلك، وتكونُ مواقفُه وأقوالُه وعلاقاتُه وآراؤه وقناعاتُه كلُّها مبتنيةً على أساس ما يتوهَّمُه من شخصيته، وليس على أساس ما هو واقعُ شخصيتِه، مثلُ هذا النمطِ من الناس يكونُ خطرُه على نفسه وعلى مجتمعه بالغَ السوء، فهو إنسانٌ مزدوج، ولديه إنفصامٌ في الشخصية، أي إنَّ واقعَ شخصيته في وادٍ وكيفيةَ تعاطيه مع شئوناته في وادٍ آخر ليس بينهما أيُّ إنسجامٍ وتناسب، هذه هي إحدى المساوئِ المترتِّبةِ على الثناءِ والإغترارِ بالثناء.

الثناء يُورث الزهو عند الممدوح:

ومن المساوئ ما أشارت إليه الروايات وهو أنَّ الإغترارَ بالثناء أو أنَّ الثناءَ الذي يتفاعلُ معه الإنسان يجعلُه يستشعر الزهوَ والعجبَ والتكبُّر، ومعلومٌ انَّ من أسوأ الأمراضِ النفسية التي تجتاحُ الإنسان هو الشعورُ بالتكبُّر والتجبُّر والزهو، فالمُبتلى بهذا الداء يتبخترُ على الآخرين، ويترفَّعُ عليهم، ويتعاملُ معهم على أساس أنَّهم أدونُ منه، لذلك حذَّرت الرواياتُ من الثناء خشيةَ أنْ يقعَ الممدوحُ في شَرَك هذا الداءِ العضال.

البطانة المتملِّقة وأثرها على السلطان:

لمَّا بعث الإمامُ عليٌّ (عليهما السلام) مالكَ الأشتر إلى مصر ليكون واليًا عليها أوصاه بوصايا كثيرة ضِمنَ رسالةٍ سُمِّيت بعد ذلك بعهد مالك الأشتر، فكان ممَّا جاء فيها قولُه (عليهما السلام): "وأُلصق بأهل الورع"(12)، يعني كنْ قريبًا من أهل الورع، "ثم رُضْهم على ألا يُطروك"(13)، أي روّضهمْ على أنْ لا يُثنوا عليك، فإنَّ ذلك من التملُّق، فالكثيرُ من مساوؤنا مع الحكام إنَّما نشأت من المتملِّقين الذين يُحيطون بهؤلاء الحكام المعبَّرِ عنهم بالبِطانة، فهؤلاءِ يختلقون واقعًا في ذهن الحاكم هو غيرُ الواقعِ الخارجي، فهم يُوهمونه انَّ كلَّ شيءٍ على مايُرام، وأنَّه أعدلُ الناس وأبرُّهم برعيته وأنَّ سياسته في جميع الشئونات صنعت نموًَّا وتقدُّمًا ورُقيًَّا في مختلفِ مناحي الحياة، وُيوهمونه انَّ الناس يُحبُّونه وهم على استعدادِ لأنْ يُقدِّموا كلِّ شيء من أجله، فيُوهمونه بأنَّ شعبيته واسعة، وانَّ المناكفين له شرذمةٌ قليلون مارقون يستحقون أقصى العقوبات وهم مع ذلك لا يُمثلون خطرًا على سلطانك ولا على استقراره، فأكثرُ الناس يُحبونَك ويرتضون سياستَك، ثم أنت الأجدرُ والأحقُّ والأنسب، فأنت أنت صاحبُ السؤددِ والشموخ وصاحبُ الحكمة والفطنة وصاحبُ السداد والرشاد، فيَخلعون عليه كمالاتِ الأنبياء، بل وكمالاتِ الربِّ جلَّ وعلا، هكذا يُزيِّنُ المتملِّقونَ للسلاطين ظلمَهم واستبدادَهم حُرصًا منهم على فتاتٍ يقتاتونه من بقايا موائدِهم، وما هو الأثر؟ هو شعورُ السلطان بالزهوِ والعجبِ والكبرياء وانَّه الأعلى والأحظى والأولى، ثم هو يظلُّ سادرًا تحت تأثير الخيال الذي نسجوه في ذهنه، فهو يعيشُ خارج الواقع ويتعاطى مع رعيته على أساس أنَّه الواقع، ولأنَّ الناسَ تنظرُ إلى الواقعِ كما هو، لذلك فهي تستغربُ أشدَّ الإستغراب! لماذا يتصرفُ السلطان بهذه الطريقةِ الهوجاء ويعتمدُ هذه السياسةَ الخرقاء، ولو بحثوا عن السبب لوجدوا انَّ منشأ ذلك هي البِطانةُ السيئة المتزلِّفة التي خطفتِ السلطان وحجبتْهُ خلفَ أسوارٍ غليظةٍ من الوهم والسراب.

فالإمامُ عليٌّ (عليهما السلام) يُوصي مالكَ الأشتر فيقول: "وأُلصُق بأهل الورع ثم رضْهم على ألا يُطروك"(14) ثم يعلِّل وصيتَه له بقوله: "فإنَّ كَثرةَ الإطراء تُحدثُ الزهوَ وتُدني من العزَّة"(15)، يعني انَّها تُحدثُ في الإنسان عزةً، وإذا أحدثت في الإنسان عزةً فإنَّه سيعتبر الإثمَ حكمةً ورشدًا، وهذا هو معنى "تأخذُه العزةُ بالإثم"، فهو يفعلُ العظائم ثم لا يراها مُوبِقة ولا يعتبرُها خطيئة بل يرى إنَّ ذلك هو مقتضى العدلِ ومقتضى الرُشد ومقتضى الصلاحِ والإصلاح.

سَورةُ الإطراء لها ريحٌ خبيثةٌ في القلب:

ويقولُ الإمامُ عليٌّ (عليهما السلام): "احترسوا من سَوْرة الإطراء والمدح فإنَّ لهما ريحًا خبيثةً في القلب"(16)، ما من شيء أخبثُ ريحًا من الكِبْر، لذلك تتعاطى الناس مع المتكبِّرِ باشمئزازٍ وتقزُّز، فكما يتقززُ الناسُ من الجيفةِ إذا مرَّوا بها وينفرون منها فإنَّهم ينفرونَ من الرجل الذي يمشي بخيلاء ويستطيلُ على الناس ويتكبَّرُ عليهم ويرى نفسَه أعلى قدرًا منهم.

عجبًا لِمَ يتكبَّرُ الإنسان؟!!

لا أدرى لماذا يتكبَّرُ المتكبِّرون؟! فما الذي يُميِّزهم؟! يقول الإمام علي (عليهما السلام) عن هذا الإنسان: "تُنتنه العرقة"(17)، فبمجرَّد انْ يتعرَّقَ تُصبحُ رائحتُه قبيحة ومستقذَرة، "وتقتله الشرقة"(18)، فلا يملكُ أنْ لا يموت بأحقر سبب، "أولُه نطفةٌ وآخرُه جيفة، لا يرزقُ نفسَه، ولا يدفعُ حتفَه"(19)، فعلى أيِّ شيءٍ يتكبَّر؟! لكنَّ الإنسانَ ينسى كلَّ هذه الحقائق، فينسى أصله وينسى واقعه وينسى مصيره، لذلك فهو يتكبَّر، وتلك هي إحدى مساوئِ الثناء، فهذا الممدوح يتعاطى مع الآخرين ومع ذاته على أساس أنَّه متصفٌ واقعًا بالكمالات التي مُدح بها والسجايا التي نُعت بها، لذلك لو تغيَّر عليه الأمر فإنَّه يتأذى كثيرًا، فلو أنَّ أحدًا تعامل معه بخلاف ما يتوهَّمُه وبخلاف ما أوهمه به المادحون فإنَّه يشعرُ بالأذى والغبن، فهو معتادٌ مثلًا على أنْ يحفَّ به الناسُ ويُطرونه بالجميل من الأوصاف والألقاب، فلو جاء رجلٌ وسمَّاه باسمه مجرَّدًا فإنَّه يرى ذلك إهانةً شديدة في حقه لأنَّه سمَّاه باسمه، وهو معتادٌ على ذكر قائمةٍ من الألقاب قبل الذكر لإسمه، لذلك فهو يتأذَّى ويغتاظ، لأنَّه عاش نشوة الإطراء والثناء من قِبل الآخرين فلا يقبلُ من أحدٍ بعد ذلك أنْ يُكدِّر عليه نشوتَه، ولهذا اشتاط عبيدُ الله بنُ زياد غيظًا حينما خاطبته السيدةُ زينب (عليهما السلام) باسمه مجرَّدًا عن كلِّ لقب، فهو يرى انَّ ذلك من الإهانة التي لا تُغتفر، لكنَّ السيدةَ زينب (عليهما السلام) لم تكن تكترثُ بغضبه بل وأمعنت في إغاظته بقولها له: "ثكلتك أمُّك يابنَ مرجانة"(20)، فهي لم تقتصر على تعريته من ألقابه بل إنَّها لمزته بأمِّه مرجانة.

الاغترار بالمدح يُثقل القلبَ بالأضغان:

ومن المساوئ التي تترتبُ عن كثرة الثناء على الإنسان هي أنَّها تُصيِّر من الممدوح إنسانًا حقودًا مثقلًا بالأضغان على كلِّ من يرى انَّه لم يرعَ له حقه في التبجيل والإطراء، فالممدوحُ الذي اعتاد التبجيلَ والحفاوةَ والإطراء يرى انَّ ذلك حقٌ له وانَّ كلَّ مَن لا يتعاطى معه على أساس ذلك الحقِّ الوهمي يحقدُ عليه ويبغضُه، هذا فيما لو كان عاجزا عن الإستطالة عليه والإيقاعِ به- فيكونُ المادحُ قد ورَّطه بهذا الوهمِ القاتم، فأثقل قلبَه بالأضغانِ والأحقاد على كلِّ من لا يحتفي به ويُبجِّلُه، كلُّ ذلك نتيجة إيهامه من قِبل المداحين بأنَّه صاحبُ مقامٍ وانَّ على الناس أنْ يحفظوا له هذا المقام وأنْ يتأدَّبوا معه بالآداب التي تليقُ بذلك المقامِ الوهمي الذي لا وجود له إلا في مخيلته.

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ / مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ / وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ / وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ / وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾(21)

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

3 من شعبان 1436هـ - الموافق 22 مايو 2015م

جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز


1- تحف العقول عن آل الرسول (ص) -ابن شعبة الحراني- ص 281.

2- سورة الزخرف / 55.

3- سورة القلم / 44-45.

4- تحف العقول عن آل الرسول (ص) -ابن شعبة الحراني- ص 281.

5- سورة القلم / 5-7.

6- الإمام علي (ع): "من مدحك فقد ذبحك". عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص429.

7- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 651.

8- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 651.

9- الإمام علي (ع): "من مدحك فقد ذبحك". عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص429.

10- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 652.

11- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 3 ص 651.

12- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 74 ص 245.

13- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 74 ص 245.

14- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 74 ص 245.

15- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 74 ص 245.

16- "احترسوا من سورة الاطراء و المدح فإن لها ريحا خبيثة في القلب". عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص 92.

17- شرح أصول الكافي -مولي محمد صالح المازندراني- ج 10 ص 457.

18- شرح أصول الكافي -مولي محمد صالح المازندراني- ج 10 ص 457.

19- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج 4 ص 104.

20- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 45 ص 116.

21- سورة الفلق.