حديثٌ حولَ التوفيقِ الإلهي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لله أَهْلِ الْحَمْدِ ووَلِيِّه، ومُنْتَهَى الْحَمْدِ ومَحَلِّه، الْبَدِيءِ الْبَدِيعِ، الأَجَلِّ الأَعْظَمِ الأَعَزِّ الأَكْرَمِ الْمُتَوَحِّدِ بِالْكِبْرِيَاءِ، والْمُتَفَرِّدِ بِالآلَاءِ، الْقَاهِرِ بِعِزِّه والْمُسَلِّطِ بِقَهْرِه، الْمُمْتَنِعِ بِقُوَّتِه، الْمُهَيْمِنِ بِقُدْرَتِه، والْمُتَعَالِي فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ بِجَبَرُوتِه، الْمَحْمُودِ بِامْتِنَانِه وبِإِحْسَانِه، الْمُتَفَضِّلِ بِعَطَائِه وجَزِيلِ فَوَائِدِه، الْمُوَسِّعِ بِرِزْقِه، الْمُسْبِغِ بِنِعَمِه.
نَحْمَدُه عَلَى آلَائِه وتَظَاهُرِ نَعْمَائِه، حَمْداً يَزِنُ عَظَمَةَ جَلَالِه، ويَمْلأُ قَدْرَ آلَائِه وكِبْرِيَائِه، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه الَّذِي كَانَ فِي أَوَّلِيَّتِه مُتَقَادِماً وفِي دَيْمُومِيَّتِه مُسيْطِراً، خَضَعَ الْخَلَائِقُ لِوَحْدَانِيَّتِه ورُبُوبِيَّتِه وقَدِيمِ أَزَلِيَّتِه، ودَانُوا لِدَوَامِ أَبَدِيَّتِه.
وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه، وخِيَرَتُه مِنْ خَلْقِه، اخْتَارَه بِعِلْمِه، واصْطَفَاه لِوَحْيِه، وائْتَمَنَه عَلَى سِرِّه، وارْتَضَاه لِخَلْقِه، وانْتَدَبَه لِعَظِيمِ أَمْرِه، ولِضِيَاءِ مَعَالِمِ دِينِه، ومَنَاهِجِ سَبِيلِه، ومِفْتَاحِ وَحْيِه، وسَبَباً لِبَابِ رَحْمَتِه، ابْتَعَثَه عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وهَدْأَةٍ مِنَ الْعِلْمِ، واخْتِلَافٍ مِنَ الْمِلَلِ، وضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ، وجَهَالَةٍ بِالرَّبِّ، وكُفْرٍ بِالْبَعْثِ والْوَعْدِ، أَرْسَلَه إلى النَّاسِ أَجْمَعِينَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ بِكِتَابٍ كَرِيمٍ، قَدْ فَضَّلَه وفَصَّلَه وبَيَّنَه وأَوْضَحَه، وأَعَزَّه وحَفِظَه مِنْ أَنْ يَأْتِيَه الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْه ومِنْ خَلْفِه تَنْزِيلٍ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّه وأُوصِي نَفْسِي بِتَقْوَى اللَّه الَّذِي ابْتَدَأَ الأُمُورَ بِعِلْمِه وإِلَيْه يَصِيرُ غَداً مِيعَادُهَا، وبِيَدِه فَنَاؤُهَا وفَنَاؤُكُمْ، وتَصَرُّمُ أَيَّامِكُمْ، وفَنَاءُ آجَالِكُمْ، وانْقِطَاعُ مُدَّتِكُمْ، فَكَأَنْ قَدْ زَالَتْ عَنْ قَلِيلٍ عَنَّا وعَنْكُمْ كَمَا زَالَتْ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَاجْعَلُوا عِبَادَ اللَّهِ اجْتِهَادَكُمْ فِي هَذِه الدُّنْيَا التَّزَوُّدَ مِنْ يَوْمِهَا الْقَصِيرِ لِيَوْمِ الآخِرَةِ الطَّوِيلِ فَإِنَّهَا دَارُ عَمَلٍ والآخِرَةَ دَارُ الْقَرَارِ والْجَزَاءِ.
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وآله الأخيار الأبرار الذين فرض طاعتهم وولايتهم.
يقولُ الإمامُ أبو جعفرٍ الثاني، محمدُ بنُ عليٍّ الجواد (عليه السلام)، فيما يُروى عنه: "المؤمنُ يحتاجُ إلى توفيقٍ من الله، وواعظٍ من نفسِه، وقَبولٍ ممَّن ينصحُه"(1).
لا غنى للمؤمنِ عن التوفيقِ:
ثلاثُ خصالٍ لا يستغني عنها مؤمنٌ- أيَّاً كان موقعُه، وأيَّاً كانت مرتبتُه، وهي طريقُهُ للتكامل، فهو غيرُ مستغنٍ عن توفيقِ اللهِ -عزَّ وجل-، وأنْ يكونَ له واعظٌ من نفسِه، فيتحسَّسُ للذنبِ فيحذرُه ويتأثَّمُ به ويؤنِّبُ نفسَه لو ارتكبه، ويتأمَّلُ في شئون ذاتِه وأحوالِه، ويتأَدُ في أموره، ويتأنَّى كلَّما خشيّ أن يقعَ في محذور، ثم إنَّ له ناصحاً ينصحُه فيقبلُ منه نصيحتَه فلا يستنكفُ ولا يرى أنَّه فوق أنْ يُنصح.
لماذا لا يستغني المؤمنُ عن التوفيق؟
نقفُ أولاً على الفقرة الأولى من كلامِ الإمامِ الجوادِ (عليه السلام) لماذا لا يستغني المؤمنُ عن التوفيق؟. ذلك يتَّضحُ بالوقوفِ على معنى التوفيق.
الجواب يكمن في معرفة معنى التوفيق:
التوفيق: يُطلق في مقابلِ الخُذلان، والمرادُ من الخُذلان: هو تركُ المعونةِ والنُّصرةِ والمؤازرة. فأنْ تخذِلَ أخاك، فهذا لا يعني أنْ تَضرَّه، وإنَّما يعني أنْ تتركَه وشأنَه في ظرفٍ هو بحاجةٍ إليك، فهذا هو الخُذلان.
ولذلك وردت هذه المقابلةُ بين مفهومي النُصرةِ والخُذلانِ في قوله تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾(2).
ووردتْ المقابلةُ بين التوفيقِ والخُذلان فيما يُؤثَرُ عن أميرِ المؤمنين (ع) انَّه قال: "التوفيقُ والخذلانُ يتجاذبانِ النفسَ، فأيُّهما غلبَ كانتْ في حيِّزهِ"(3) أي كانت النفسُ في حيِّزه، فهي إما في حيِّزِ التوفيقِ الإلهي أو هي في حيِّزِ الخذلان. أوهي تارةً في حيِّزِ التوفيق وأخرى في حيِّزِ الخُذلان.
وبذلك يتَّضحُ معنى التوفيقِ الإلهي فهو يعني التسديدَ والتيسيرَ والمدَد، فأنْ تكونَ موفَّقاَ فذلك معناهُ أنّ اللهَ تعالى قد يسَّر لك الوصولُ إلى ما تقصد، وأعانَكَ على بلوغِ ما ترغبُ فيه، وعصَمَكَ عن الوقوع فيما تُحذرُ منه، وألهمَك السدادَ والصوابَ في الرأي الذي تُقلِّبُه وتبحثُ فيه عن مواطنِ الرُشد.
فذلك هو التوفيق، وفي مقابلِه الخُذلان، فالمخذولُ هو المحرومُ بسوءِ اختياره من لطفِ اللهِ تعالى وتسديدِه وتيسيرِه ومعونتِه ومددِه.
فالخُذلانُ ليس بمعنى أنْ يباغتَك اللهُ تعالى بنقمتِه بل هو بمعنى أنْ يكلَك إلى نفسك ويدعَك وشأنَك، فلا تحظى منه بتسديدٍ ولا مددٍ ولا تيسير، وحينذاك فلينتظرِ المخذولُ العِثارَ والخيبةَ والخُسران.
ثم إنَّ الخٌذلانَ وكذلك التوفيقَ ليس على مرتِبةٍ واحدة، فقد يكون الإنسانُ مخذولاً في شأنٍ من الشئون ولكنَّه موفَّقٌ في شأنٍ آخر، وقد يكون مخذولاً في وقتٍ ولكنَّه موفَّقٌ في آخر، ولذلك أفاد أمير المؤمنين (ع) انَّ الخذلانَ والتوفيقَ يتجاذبانِ الإنسان، فصيرورته في حيِّز الخذلان تابع لسوء اختياره كما انَّ صيروتَه في حيِّزِ التوفيق تابعٌ لحسنِ اختياره.
فيجدُ الإنسانُ نفسَه يكدحُ ويبذلُ الجهدَ المُضني في سبيل تحصيل رزقِه ثم لا يجدُ لهذا الجهدِ مُحصَّلاً وإنْ وجد فإنَّه لا يجدُ فيه بركة، فإما أنْ يتبدَّد مالُه في علاج مثلاً أو يضعه في يد زوجةٍ مشاكسة لا يجدُ فيها قرةَ عين أو يعبثُ بأمواله الحمقى من أبنائه، وقد يستفرغُ وسعه في تحصيل العلم لكنَّه يجدُ نفسَه عاجزاً عن الإتقانِ والحفظ، ذلك لأنَّه لم يحظَ بتوفيقِ الله تعالى، فهو مخذولٌ من هذه الجهة، لذلك ورد عن أمير المؤمنين (ع) انَّه قال: "لا ينفعٌ اجتهادٌ بغيرِ توفيق" وأفاد (ع) "خيرُ الإجتهادِ ما قارنَه التوفيق".
ولهذا لا ينبغي للمؤمن أن يتَّكل على جهده وعقله فيغفلُ عن انَّه ما لم يحظ من الله بتوفيق فإنَّ مآل سعيه الخيبةُ والخسران. وقد أدَّب اللهُ تعالى عبادَه بما وقع لقارون، فهو حينَ منحه اللهُ تعالى الثراءَ توهَّمَ انَّ ذلك لحسن رأيه ورجاحة عقله استقلالاً يقول تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾(4) فماذا كان جواب قارون؟: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا﴾(5) ثم انَّ اللهَ تعالى خسفَ به وبداره الأرض قال تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ﴾(6).
كثيرٌ من الناس يتوهَّمُ أنَّه مهديٌّ برشده وعقله، أو أنَّه إنَّما حصل على هذا المال بجُهدِه وعنائِه وكدِّه وكدحه، وأنَّه إنَّما وصل إلى هذا الموقعِ الرفيع لأنَّه قد بذلَ من السعي ما صار به جديراً بهذا الموقعِ أو ذاك أو إنَّه إنَّما أصبح عابداً كثيرَ الصلاة، لأنَّه أهلٌ لذلك! ويغفل كلُّ هؤلاء عن أنَّه لا يتيسَّرُ ذلك للإنسان إلَّا بعونٍ من الله -عز اسمه وتقدس-.
ولو سلب الله تعالى منه التوفيق لتبخَّر كلُّ ما كان قد حظيَ به، فليس في وسعِه أن يتحفَّظ على ما في يده، فعقلُه الذي يتفاخرُ به قد يفقدُه في لمحة بصر، ومالُه الذي يتقلَّبُ فيه قد يتبدَّدُ بصروفِ الأيام، ويدُه التي يبطشُ بها أو يستعينُ بها على بلوغ مآربه قد تَعطَبُ. فإذا لم يقعْ شيءٌ من ذلك فهو بلطفِ الله تعالى ومنِّه على عباده وتجاوزِه عن سوء خليقتهم. ولكنَّه تعالى قد يؤدِّبَ بعضَ عبادِه إما لإيقاظه أو لتماديه في غيِّه. ولذلك فالمؤمنُ دائمُ الحذر من أنْ يخذلَه الله تعالى، ولهذا فهو كثيرُ الدعاء بأنْ لا يسلبَه اللهُ صالحَ ما أنعم به عليه، ودائمُ الدعاء بأنْ لا يكلَه إلى نفسه طرفةَ عينِ أبدا.
المؤمن أيها الإخوة متعلِّقٌ دائماً قلبُه بالغيب، فهو لا يُعوِّل في كلِّ شئوناته على الأسباب الظاهرة، فهي عنده وهي كذلك وسائلُ ناقصة مفتقرةٌ إلى عون الله وإمضائه، لذلك فقلبُه دائمُ التعلُّقِ بالغيب، فتلك هي سمةُ المؤمنين كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾(7) وقال تعالى على لسان العبد الصالح شعيب (ع): ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾(8) فالمؤمنُ دائمُ الشعور بالحاجة إلى توفيق الله، وذلك هو سرُّ ارتباطه الوثيق بربِّه جل وعلا. وعلى خلاف ذلك من يشعرُ بالإستقلال، فإنًّه يُصاب بالكِبْر والعُجْب، ولا يشعر بالحاجة إلى التوكُّل، واللجوء إلى الله، وإلى الدعاء.
يعني بتعبيرٍ آخر: مدارُ الفرقِ بين المؤمنِ وغيرِ المؤمن، هو أنْ يعتقدَ المؤمنُ أنَّ كلَّ ما لديه لم يكن ليجدَه ويحظى به لولا التوفيق. أما غيرُ المؤمن، فيشعرُ أنَّه مُستقلّ، وأنَّ ما وجده وحظيَ به كان لأسبابٍ ظاهرة ومادية اقتضت ذلك، وما لم يجدْه وتعذَّر عليه تحصيلُه كان لموانعَ ماديةٍ وظاهريةٍ اقتضت ذلك.
ولهذا يكون مثلُه مبتلى بالعجب والاعتداد بالذات أو يكون مبتلى بالهوان والصغار لأنَّه يرى انَّ الوصولَ لحاجته لا يتمُّ إلا بالخضوع والتصاغر عند من يعتقدُ انَّ قضاءها بيده. فهو يستقلُّ عن ربِّه ويخنعُ لبعض عباده، لكنَّ المؤمنَ ليس كذلك هو يشعرُ بالحاجةِ لمعونةِ الله تعالى في محقَّراتِ الأمور فضلاً عن عظائمها لذلك فهو يسألُ ربَّه حتى فيما يراهُ الناس متاحاً وميسورَ التحقق، وتلك هي سمةُ الأنبياء والصالحين من عباد الله، ففي المأثور انَّه ممَّا خاطبَ اللهُ تعالى عبده موسى: يا موسى سلْني حتى ملحَ عجينِك وعلفَ حمارك"(9) وفي المأثور: "ليسألْ أحدُكم ربَّه حاجتَه كلَّها حتى شسعَ نعلِه إذا انقطع"(10).
لاحظوا إنَّ تلك من مُحقَّرات الأمور، إنَّ علف الدابَّةِ لا يستوجب تحصيلُه مؤنةً تُذكر، وكذلك هو تحصيلُ ملحِ الطعام لكنَّ المؤمن إذا استشعرَ الحاجة لربِّه حتى في هذه المحقَّرات فإنَّ علاقته بربِّه تتوثَّق، فإذا شعُرتَ بالحاجةِ إلى ربِّك في ملح طعامك وعلفِ دابتك وشسعِ نعلك فإنَّ الله تعالى يصبح دائمَ الحضور في قلبِك وذاكرتِك، فتشعرُ بالحاجة إلى ربِّك لتنام والحاجةِ إليه لتستيقظَ من نومِك سليماً معافا، وتشعرُ بالحاجةِ إلى ربِّك في النهوض لعملك وسعيك في رزقِك.
فكم يتوهَّم الإنسان انَّ الأمور كلَّها مهيأةٌ للوصول إلى غايته فيتفاجأ بأنَّه لا يصلُ إليها ولا يتوفَّرُ عليها رغم حقارتِها، لماذا؟ لأنَّ المقدمات والوسائلَ كلَّها مفتقرةٌ إلى مُتمِّمٍ وهو التوفيقُ الإلهيّ الذي يشعرُ به المؤمنُ، وتُشرقُ به نفسُه، ويغفلُ عنه غيرُ المؤمن.
ولهذا ورد في المأثور انَّه: "سَلُوا اللَّهَ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى الشِّسعَ، فَإِنَّ اللَّهَ إِن لَمْ يُيَسِّرهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ"(11).
بعد ذلك نتحدَّث بنحوٍ موجز عن بعضِ ما يسلبُ التوفيق:
ونركِّز في المقام على سلبِ التوفيقِ المتَّصلِ بالهِدايةِ والطاعةِ لله تعالى، فذلك هو ما ركّز عليه أهلُ البيت (عليهم السلام) وإلا فشؤوناتُ الحياة قد تكفَّل اللهُ -عزَّ وجل- بتدبيرها لكلِّ الناس، لكنَّ هناك أموراً ترتبط بالمؤمن. فالمتابع لما ورد عن أهل البيت (ع) يجدُ اهتماماً متميِّزاً بشأنِ التوفيقِ في الطاعة وتركِ المعصية، ومن ذلك ما ورد في الدعاء المأثور عن الإمام الحجَّة (ع) يقول في دعائه: (اللهمَّ ارزقنا توفيقَ الطاعة وبُعدَ المعصية)(12).
فقد يُبتلى المؤمنُ بالحرمانِ من التوفيقِ في الطاعة فلا يستشعر اللذةَ في دعائه ومناجاته، وقد يُجانبه التسديدُ والتوفيقُ فيرتكبُ معصيةً ما، أو يتهاونُ بفريضةٍ من الفرائض، وقد يسلبُ الله عنه التوفيقَ فلا يتأهلُ للصلاة في وقتها، وقد يجدُ نفسَه غارقاً في همٍّ لا يفيقُ منه أو ضجرٍ وسأمِ يمنعه من تلاوة القرآن والمناجاة لربِّه، وكلُّ ذلك وشبههِ قد يكون منشأُهُ الخذلانَ والحرمانَ من التوفيق نتيجة معصيةٍ قارفها أو خُلقٍ حضَّ عليه الدينُ لكنَّه لم يلتزمْ به.
ثمة أمورٌ ينشأُ عنها الحرمان من التوفيق:
منها: ولعلَّه من أهمِّها اقتحامُ الشُّبهات:
فاقتحامُ الشُّبهات، فضلاً عن المحرَّمات من أكبر الأسباب تأثيراً في سلب التوفيق، واقتحامُ الشبهات يعني المداومةَ على مُواقعة الشُّبهة، فيأكلُ ما هو مُشتبَهٌ، ويدخلُ فيما فيه شُبهة، يشرب ما لا يعلمُ حلِّيته، ويتعاطى ما لا يعلم إباحته. ويجالسُ أهلَ الريب أو يُصغي لأحاديثهم، ويقول عن غير معرفة، ويتخذُ مواقفه على غير هدىً ووضوحٍ في الرؤية الشرعيَّة، هذا هو المقتحمُ للشبهات، مثل هذا يُبتلى غالباً بالوقوع في المحرمات والضلالات وهو أولُ الخذلان والحرمان من التوفيق، وذلك هو مفاد ما ورد عن أهل البيت (ع:) "من رتع حول الحمى أوشك أنْ يقع فيه"(13) و"من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه"(14) و"فمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ ومَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ الْمُحَرَّمَاتِ وهَلَكَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ"(15) لذلك لا بد وأن يعصمَ الإنسان نفسه ما استطاع عن الوقوع في الشبهات؛ حتى لا يقع في المحرمات، فيهلك.
انظروا أيها الأخوة الأعزاء، ثمة الكثيرُ من الرجال ممَّن مضوا، كانوا أتقياءَ ظاهراً، وكانوا من أهلِ الإيمان والصلاح، ومن أهل الصومِ والصلاة، يتلون كتاب الله، ويفعلون الطاعات، ويجلسون في مجالس أهل الخير والأبرارِ من الناس، ثم كانت خاتمتُهم إلى سُوء، لأنَّهم قارفوا الشبهات أو جالسوا أهل الريب وتداولوا أراجيفَهم ومخاريقَهم، فأدَّى ذلك بهم إلى ارتكاب المعاصي والمحرمات، ثم تدرَّجوا حتى ارتكبوا كبائر الذنوب، ثم عدوا على عقائد الإسلام، فطنعوا عليها وأنكروا ما لا يروقُ لهم منها، لماذا؟ لأنَّهم خُذلوا. ومنشأُ خُذلانهم هو اقتحامُهم للشبهات.
ثانياً: الخلود للدنيا
ومن المناشئ التي ينشأُ عنها الخذلان، هو الخلودُ للدنيا -كما ورد في الروايات. فحين تكونُ علاقةُ الإنسان بالدنيا علاقةَ عشقٍ وحرص على زخارف الدنيا، وزينتها، ومُتعِها، وشهواتها. فإنَّ هذا العشقَ يُعمي ويُصِمّ، من أحبَّ شيئاً أعشى بصره، وأمات قلبَه(16) كما أفاد أمير المؤمنين (ع). فالإنسان إذا عشقَ الدنيا، وأحبَّ المال حُباً جمّاً فإنَّه يُبتلى أولاً بالغفلة عن الكثير مما ينبغي له رعايتَه، ثم يتدرجُ فيعصي ربَّه ثم لا يتوب فيغضبُ الله عليه، فيتركَه وشأنَه، وذلك هو الخذلان، فإذا تركه وشأنَه أخذ في التسافل تدريجاً حتى يبلغَ حدَّاً لا يرجعُ فيه إلى خير.
ثالثًا: التقاعس عن قضاء حاجة المؤمن
ومن المناشئ المفضيةِ للخذلان والحرمان من التوفيق هو الخُذلان للمؤمن بعدم الانتصار له أو قضاء حوائجه -رغم القدرة-، فكثيراً ما حذَّرت الرواياتُ من ذلك، فمن ذلك ما ورد عن أبي عبد الله (ع): "ما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا والآخرة"(17) وفي هذا السياق ما ورد في الحديث الشريف عن النبي (ص): "من اغتيب عنده أخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ينصره خذله الله في الدنيا والآخرة"(18) وورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "من بخل بمعونة أخيه المسلم والقيام له في حاجته ابتليَ بمعونةِ من يأثمُ ولا يؤجر"(19). أي يأثمُ بمعونتِه ولا يؤجر.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ / مَلِكِ النَّاسِ / إِلَهِ النَّاسِ / مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ / الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ / مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾(20)
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
10 من شعبان 1436هـ - الموافق 29 مايو 2015م
جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز
1- تحف العقول عن آل الرسول (ص) -ابن شعبة الحراني- ص457.
2- سورة آل عمران / 160.
3-ميزان الحكمة -محمد الريشهري- ج 4 ص 3606.
4- سورة القصص / 76.
5- سورة القصص / 78.
6- سورة القصص / 81.
7- سورة البقرة / 3.
8- سورة هود / 88.
9- في الحديث القدسي: "يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك، و ملح عجينك". بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج90 / ص 303.
10- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج90 / ص 295.
11- "سلوا الله عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم حتى شسع النعل، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر". بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج90 / ص 295.
12- المصباح (جنة الأمان الواقية وجنة الايمان الباقية) -الشيخ إبراهيم الكفعمي- ص 720.
13- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 27 ص 167.
14- وسائل الشيعة ( آل البيت ) -الحر العاملي- ج 27 ص 173.
15- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 27 ص 157.
16- "من عشق شيئا أعشى بصره، وأمرض قلبه". نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج 1 ص 211.
17- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 12 ص 268.
18- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 12 ص 291.
19- ثواب الأعمال -الشيخ الصدوق- ص 250.
20- سورة الناس.