حديث حول سورة المدثر (4)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ الذي لَا يَشْغَلُه شَأْنٌ ولَا يُغَيِّرُه زَمَانٌ، ولَا يَحْوِيه مَكَانٌ، ولَا يَصِفُه لِسَانٌ، لَا يَعْزُبُ عَنْه عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ، ولَا نُجُومِ السَّمَاءِ، ولَا سَوَافِي الرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ، ولَا دَبِيبُ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا، ولَا مَقِيلُ الذَّرِّ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، يَعْلَمُ مَسَاقِطَ الأَوْرَاقِ، وخَفِيَّ طَرْفِ الأَحْدَاقِ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه غَيْرَ مَعْدُولٍ بِه، ولَا مَشْكُوكٍ فِيه، ولَا مَكْفُورٍ دِينُه، ولَا مَجْحُودٍ تَكْوِينُه، شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُه، وصَفَتْ دِخْلَتُه، وخَلَصَ يَقِينُه وثَقُلَتْ مَوَازِينُه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه، الَمْجُتْبَىَ مِنْ خَلَائِقِه، والْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِه، والْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالَاتِه، والْمُوَضَّحَةُ بِه أَشْرَاطُ الْهُدَى، والْمَجْلُوُّ بِه غِرْبِيبُ الْعَمَى، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الدُّنْيَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا، والْمُخْلِدَ إِلَيْهَا، ولَا تَنْفَسُ بِمَنْ نَافَسَ فِيهَا، وتَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا، فَاتَّقُوا اللَّه -عباد الله- الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِه، ونَوَاصِيكُمْ بِيَدِه، وتَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِه، إِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَه، وإِنْ أَعْلَنْتُمْ كَتَبَه، قَدْ وَكَّلَ بِذَلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً، لَا يُسْقِطُونَ حَقّاً، ولَا يُثْبِتُونَ بَاطِلًا.

أما بعدُ فقد انتهى بنا الحديثُ حول سورة المدثِّر عند قوله تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ / وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ / وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾(1).

معنى الهجران للرجز:

والمرادُ من الأمرِ بهجرِ الرجزِ هو الأمرُ بمفارقتِه وقطيعتِه، فهجرانُ الشيءِ يعني اجتنابَه ومفارقتَه وقطيعتَه، وكلُّ هجرانٍ بحسبِه، فهجرانُ البلد -مثلاً- هو مفارقتُها والتحوُّلُ منها إلى بلدٍ أخرى. كما وقع لإبراهيمَ الخليلِ (عليه السلام) فهو بعد أنْ دعا قومَه إلى الله تعالى ووعظَهم وأرشدَهم فلم يعبؤوا بوعظِه ولا بنصحِه قال لهم: ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى رَبِّي﴾(2)، يعني تاركٌ لكم هذه البلد، فهذا هو الهِجرانُ المناسبُ لهذا الأمر.

وهِجرانُ القرآنِ كما في شِكاية الرسول صلّى الله عليه وآله على قومِه يومَ القيامة ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا﴾(3)، وهجرانُ القرآن يعني تركَ تلاوتِه، وكذلك فإنَّ هجرانَ القرآن يعني خلوَّ القلبِ منه، فعندما لا يكونُ القرآنُ هو هاجسُ المؤمن، ولا يحملُ قلبُه آياتِ القرآنِ ومعانيه فذلك مِن هجران القرآنِ بالقلب، فالذي لا يعبأُ بآياتِ القرآن وبمضامينِه ولا يكترثُ بأوامرِه وزواجرِه، وإذا عرضَ عليه أمرٌ أمعن فيه رأيَه دونَ ملاحظةِ ما تقتضيه أوامرُ القرآن ووصاياه فهو ممَّن هجرَ القرآنَ بقلبِه وسلوكِه، فهجرانُ القرآنِ يكونُ بتركِ تلاوتِه ويكونُ بخلوِّ القلبِ منه، ويكونُ بتركِ تمثُّلِه، فلا يخرجُ المؤمنُ عن حيِّز الهجرانِ لمجرَّد تقديسِه للقرآن، فقد يكونُ أحدُنا ممَّن هجرَ القرآنَ وإنْ كان القرآنُ معلَّقاً على صدرِه أو موضوعاً في أحسنِ الرفوفِ عندَه في بيتِه وفي مكتبته أو مركبته.

وأما هِجرانُ الرجز فهو يعني تركَه المستبطنَ لمقتِه، فإذا كان المرادُ من الرجز هو القبيحُ من الأفعال فهجرانُه يعني مصارمتَه وقطيعتَه المستبطنةَ لمقتِه، فلو أنَّ أحداً تركَ معصيةً لأنه ليس محتاجاً لها أو غيرَ عابئٍ بها أو لأنَّها غيرُ متاحةٍ له، فإنَّ هذا لا يقالُ له أنَّه هجرَ المعصية، فلو لم يكذبْ لعدمِ حاجتِه في هذا اليومِ للكذب فإنَّه لا يصدقُ عليه انَّه هجرَ الكذب، ولو أنَّه لم يرتكبِ الفاحشةَ لأنَّه غيرُ قادرٍ على ارتكابِها أو أنَّه لم يظلمْ لأنَّه عاجزٌ عن أنْ يظلم لضعفِه، فمثلُه لا يصدقُ عليه انَّه قد هجرَ الظلمَ أو هجرَ الفاحشةَ أو هجرَ المعصية.

فالهجرانُ للذنب ليس هو مجرَّدُ التركِ له وإنَّما هو التركُ الناشئُ عن القصدِ وإعمالِ الإرادة على تركِ هذا الذنبِ الممقوتِ لله رغمَ الرغبةِ فيه والحاجةِ إليه، فعندئذٍ يكون مهاجراً للذنب، فالهجرانَ يستبطنُ معنى المقت، فلذلك حينما يقال إنَّ زيداً هجر أخاه فإنَّ ذلك لا يصدقُ إلا حينما يكونُ ما قتاً له وواجداً عليه، فأنت قد لا تلتقي أخاك عشرة أيام بل قد لا تلتقيه سنةً كاملة ورغم ذلك لا يصدقُ عليك أنَّك مهاجرٌ ومقاطعٌ له، فهو مشغولٌ بشأنِه وأنت مشغولٌ بشأنك، فلم يتَّفق لك أنْ تلتقيَه ولم يتفقْ له أن يلتقيك، ولكنَّك قد تتركُ أخاك ساعةً أو يوماً فيصدقُ عليك أنَّك قد هجرتَه، لأنَّ ترككَ إيَّاه كان عن تعمُّدٍ ومجافاةٍ ومصارمةٍ وقطيعة، ففي مثل هذا الفرض تكونُ قد هجرت أخاك، وقد نهت الرواياتُ عن هجرانِ الأخ أكثرَ من ثلاثةِ أيام، وأحدُنا قد لا يلتقي أخاه سنةً كاملة ولا يكون مشمولاً للنهي، وذلك لأنَّ عدمَ الإلتقاء لم يكنْ ناشئاً عن الجفاء والمقتِ وقصدِ القطيعة، فالهجرانُ للشيء لا يصدق إلا مع الجفاء و قصدِ الترك، ولهذا فهجرانُ المعصيةِ لا يصدقُ إلا في فرض تعمُّدِ الترك لها المستبطنِ لمقتها، ومعنى المقتِ للمعصيةِ هو أنْ يكونَ بينَك وبين المعصيةِ حاجزاً نفسيَّا يحولُ دون ارتكابِها فذلك هو الهِجران، فإذا بلغ المؤمنُ هذه المرتبة فقد بلغ مرتبةَ المهاجرِ للرجز. وهي أعلى من مرتبة التارك للذنب.

المراد من الرجز ما هو؟

وأما المرادُ من الرجز فقد ذُكرت له معانٍ عديدة لعلَّها في المآلِ تعودُ إلى معنىً واحدٍ سنُشيرُ إليه فيما بعدُ إنْ شاءَ اللهُ تعالى، فمن المعاني المذكورة للرجز هو أنَّه بمعنى العذاب، فالرجزُ يُطلقُ في اللغة ويُراد منه العذاب، وقد استعمل القرآنُ كلمةَ الرجز في العذاب، فمن ذلك قوله تعالى يحكي ما وقع لقوم موسى عليه السلام أيامَ فرعون: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ﴾ -أي العذاب- ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ﴾(4) -يعني لئن كشفَ اللهُ عنا العذاب- ﴿لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ / فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾(5) فالآيتان استعملتا كلمة الرجز في العذاب الذي وقع على قوم موسى عليه السلام وهو مثلُ الطوفان والجراد كما تشير لذلك الآيةُ التي سبقتْ هاتين الآيتين، قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾(6).

وبيانُ ذلك نذكره فيما بعدُ إن شاء الله تعالى.

وأما ذكرناه من انَّ الله تعالى قد فوَّض لنبيِّه صلّى الله عليه وآله أن يُضيف في أعداد الفرائض الخمس ما يشاءُ فأضاف ركعةً للمغرب وركعتين لكلٍّ من العشاء والظهرِ والعصر فهذا المقدار من التفويض متسالمٌ عليه بين فقهاء الإمامية، وقد نصَّت عليه الروايات التي وصفها صاحبُ الحدائق بالكثيرة وفيها ما هو صحيح السند، فهذا المقدار من التفويض ليس مورداً للنزاع، والفقهاء كالسيد الخوئي وغيره لا يتعرضون لذلك في الرسائل العلمية وإنَّما يبحثونه في الفقه الاستدلالي، وتجدونه في مثل بحث أعداد الفرائض، ومباحث الخلل في الصلاة، وقد يتعرضون له في صلاة المسافر فلا ينبغي العجلة فإنَّها من الشيطان.

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمدٍ الأخيار الأبرار

﴿بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ / فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ / إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾(7)

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

30 من شهر رمضان 1436هـ - الموافق 17 يوليو 2015م

جامع الإمام الصادق (عليه السلام) - الدراز


1- سورة المدثر / 5-7.

2- سورة العنكبوت / 26.

3- سورة الفرقان / 30.

4- سورة الأعراف / 134.

5- سورة الأعراف / 134-135.

6- سورة الأعراف / 133.

7- سورة الكوثر.