حديث حول سورة المدثر (7)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي انْحَسَرَتِ الأَوْصَافُ عَنْ كُنْه مَعْرِفَتِه، ورَدَعَتْ عَظَمَتُه الْعُقُولَ، فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إلى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِه، هُوَ اللَّه ﴿الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾(1) أَحَقُّ وأَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ، لَمْ تَبْلُغْه الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً، ولَمْ تَقَعْ عَلَيْه الأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلًا، خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ ولَا مَشُورَةِ مُشِيرٍ، ولَا مَعُونَةِ مُعِينٍ، فَتَمَّ خَلْقُه بِأَمْرِه، وأَذْعَنَ لِطَاعَتِه، فَأَجَابَ ولَمْ يُدَافِعْ، وانْقَادَ ولَمْ يُنَازِعْ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً صلى الله عليه وآله عبدُه ورسولُه.
عبادَ الله أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ والورعِ عن محارمِه، واعلموا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّه مَنِ اسْتَنْصَحَ اللَّهَ وُفِّقَ، ومَنِ اتَّخَذَ قَوْلَه دَلِيلًا هُدِيَ لِلَّتِي هِيَ أَقُومُ، فَإِنَّ جَارَ اللَّهِ آمِنٌ، وعَدُوَّه خَائِفٌ، وإِنَّه لَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللَّهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ، فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُه أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَه، وسَلَامَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُه أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَه، واعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ، حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَه، ولَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَه، ولَنْ تَمَسَّكُوا بِه حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَه، فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِه (عليهم السلام).
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ / فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ / فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ / عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾(2).
قولُه تعالى: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾(3) هو آخرُ آيةٍ من سورة المدثِّرِ خُوطبَ النبيُّ الكريمُ (صلى الله عليه وآله) فيها بالأمر، فهو قد خُوطبَ في هذه السورة بعددٍ من الأوامرِ تحدَّثنا عنها فيما سبَق، وهذا هو آخرُ الخطاباتِ بالأمر. ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾(4).
ومفادُ هذه الآيةِ المباركةِ هو انَّ الصبرَ المأمورَ به والذي هو من الإيمانِ بمنزلةِ الرأسِ من الجسدِ هو الصبرُ الذي يكونُ لله عزَّوجل، فما عداه قد يكونُ راجحاً لكنَّه لا يكونُ ذا أثرٍ أُخروي، فالمقصودونَ بمثلِ قولِه تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(5) هم الذين كان صبرُهم لله تعالى وبقصدِ التقرُّبِ له جلَّ وعلا، فهؤلاءِ هم الذين يستوفون أجرَهم بغير حساب، وأما لو صبرَ الإنسانُ لغايةٍ في نفسِه فإنَّه قد يصلُ إلى هذه الغايةِ بل إنَّ الغالبَ هو أنَّ الصابرَ يصلُ إلى غايتِه لكنَّه لو كان يرجو معها ثوابَ الله تعالى في الآخرة فإنَّه لن يجدَه بعد أنْ لم يكن صبرُه قد نشأ عن قصدِ القربى لله تعالى، فالكثيرُ من عقلاءِ الناسِ يصبرونَ في مواطنِ الصبرِ لأنَّهم يُدركون بأنَّ الصبرَ هو مقتضى التعقُّل وأنَّه بالصبرِ يصلُ الإنسانُ إلى غايته، لذلك فهم يصبرون فيَنتِجُ عن صبرِهم وصولُهم إلى غاياتِهم، فيصبرُ العاقلُ مثلاً على تحصيلِ العلم ويتكبَّدُ لذلك الشديدَ من العناءِ فيصلُ إلى غايته فيُصبحُ عالماً، ويصبرُ في طريقِ التكسُّب فيستفرغُ وُسْعَه ويَتجشمُ كلَّ مشقةٍ فيظفرُ بغايتِه فيصبح مليَّاً ثريَّاً، ويصبرُ العاقلُ على أذى الناس ويتَّسعُ صدرُه لحماقاتِهم ليتحصَّلَ من ذلك على الشرفِ والسؤددِ بين الناس فيجدُ هذا الأثرَ ماثلاً أمامَه بعد حين، لكنَّه أثرٌ لا يتعدَّى الحياةَ الدنيا، ذلك لأنَّ صبرَه لم يكن لله تعالى، وإنَّما كان لغايةٍ بلغها وحظيَ بها، والصابرُ الذي يحظى بثواب الله عزوجل في الآخرة مضافاً إلى بلوغه لغايته في الدنيا إنَّما هو الصابرُ الذي ينشأُ صبرُه عن قصدِ التقرُّبِ لله تعالى فهو الذي يكونُ مُستحقِّاً للوعد الإلهيِّ في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(6) ولذلك خاطبَ اللهُ نبيَّه (صلى الله عليه وآله) بقوله: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾(7) أي ليكن صبرُك لله تعالى وفي سبيله.
شهيد الحمار
يذكرُ بعضُهم أنَّ رجلاً من المسلمين قُتلَ في معركةٍ من المعارك التي خاضَها الرسولُ الكريم (صلى الله عليه وآله) مع المشركين، فحينَ وضعتِ الحربُ أوزارَها أخذ المسلمون يتحدَّثون عن الشهداء وعن المجاهدين ويُعدِّدون مناقبَهم فذكروا فيمن ذكروا ذلك الرجلَ الذي قُتل، ونعتوه بأنَّه قد أبلى بلاءً حسناً حتى رحل إلى ربِّه شهيداً، ففوجئوا أنَّ الرسولَ الكريم (صلى الله عليه وآله) -بحسب هذا النقل- قال لهم: إنَّه شهيدُ الحمار، إنَّه شهيدُ الحمار، فصبرُه على مجالدةِ الأعداء، ومكابدتُه للطعن والضرب لم يجدِه نفعاً، بل إنَّ زَهاقَ روحِه في هذا الطريق لم ينتهِ به إلى خير، لماذا؟ لأنَّ الصبرَ الذي صبرَه والمجالدةَ التي تجشَّمها والدماءَ التي سفكها منهم ودمُه الذي سُفك لم يكن شيءٌ منه لله جلَّ وعلا، بل كان كلُّ قصده -كما في هذ الخبر- ممَّا كان قد فعلَه وصبرَ عليه هو أنْ يدفعَ عن دابَّتِه وعن أمواله حتى لا يغنمَها الكفارُ منه، فهو لم يُجاهدْ من أجلِّ إعلاءِ كلمةِ الله، ولم يكنْ يقصدُ من ثباتِه التقرُّبَ إلى الله عزوجل، لذلك فهو حينَ سقط ميِّتاً صار شهيداً للحمار الذي كان يُدافعُ عنه وكان غرضُه التحفظَ عليه أو كان غرضُه أنْ ينتصرَ المسلمون فيحظى حينذاك بغنيمةٍ حمارٍ أو جملٍ أو شيءٍ من ذلك، ولهذا فهو حين قُتل في هذا السبيل صار شهيداً للحمار. (أجلَّكم الله)، فهذا المسكينُ قد لا يكونُ مستحقًّا للنار ولكنَّه لن يحظى بمقام الشهداءِ يوم القيامة.
وثمة روايةٌ ينقلُها بعضُ المحدِّثين بسنده عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) ورد فيها انَّه إذا كان يومُ القيامة تجثو كلُّ أُمةٍ للحساب فيسألُ اللهُ تبارك وتعالى فيمَن يسألُ رجلاً جمع القرآن، يعني انَّه كان قارئاً للقرآن حافظاً له، ورجلاً آخرَ قُتل في سبيل الله، ورجلاً كثير المال، فيقولُ الله عزَّ وجلَّ للقارئ: ألم أُعلِّمْكَ ما أنزلتُ على رسولي قال: بلى يا رب قال: فما عملتَ فيما علِمت؟ فيقولُ: كنتُ أقومُ به آناءَ الليل وآناءَ النهار فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: كذبت وتقولُ له الملائكةُ كذبت بل أردتَ أن يُقال فلانٌ قارئ، وقد قيل ذلك، ويُؤتى بصاحبِ المال فيقولُ اللهُ عزَّ وجل: ألم أوسِّعْ عليك حتى لم أدعْكَ تحتاجُ إلى أحد؟ قال: بلى يا رب قال: فماذا عملتَ فيما آتيتُك؟ قال: كنتُ أصلُ الرحِمَ وأتصدقُ، فيقولُ اللهُ له كذبت، وتقولُ الملائكةُ كذبت، بل أردتَ أنْ يُقال فلانٌ جواد، وقد قيل ذلك، ويُؤتى بالذي قُتل في سبيل الله، فيقولُ اللهُ له: في ماذا قُتلت؟ فيقولُ: أيْ رب أَمرتَ بالجهادِ في سبيلِك فقاتلتُ حتى قُتلت، فيقولُ اللهُ له كذبت، وتقولُ الملائكةُ كذبت، بل أردتَ أن يُقال فلانٌ جريء فقد قيل ذلك(8).
إذن فالأعمال لا تُقبل وإنْ كانت صالحةً إلا أنْ تكون خالصةً لوجهِ الله تعالى، يقول الله جلَّ وعلا: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾(9)، ويقول النبيُّ الكريم: "إنَّما -وهي للحصر- إنما الأعمالُ بالنيَّاتِ، ولكلِّ امرءٍ ما نوى"(10).
فالصبرُ كذلك أيُّها الأخوة، فكم من رجلٍ يصبِرُ على فقد مَن يحب لكنَّه يفعلُ ذلك حتى لا يقال أنَّه قد جزَع، وكم من رجلٍ يصبرُ على بغي الظالمين ولكنَّه يفعلُ ذلك ليُكبرَه الناس وينعتوه بالثباتِ والصبر، مثل هذا لا يستحقُّ ثواباً على صبرِه لأنَّ الله تعالى يقول لنبيِّه (صلى الله عليه وآله): ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾(11) فالصبرُ الجديرُ بثوابِ الله تعالى وجنتِه هو الذي ينشأُ عن قلبٍ محتسِبٍ يبتغي رضوانَ اللهِ تعالى والقربَ من رحمته.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ / فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ / عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾(12).
ما هو النقر في الناقور؟
والمراد من النقرِ في الناقور هو ذاتُه المرادُ من النفخِ في الصور، الذي أفادتْهُ آياتٌ أخرى كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ / وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً / فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾(13) ففي هذه الآية وفي آياتٍ أخرى عبَّر القرآنُ الكريمُ عن النقرِ بالنفخِ في الصور، والناقورُ بحسب الاستعمالِ اللغوي هو آلةٌ يُنفخُ فيها أو يُنقرُ فيها لغرضِ التصويت، فإذا نُفخَ فيها أظهرتْ صوتاً عالياً، وقد كانت العربُ نظراً لبدائيةِ وسائلِهم تتخذُ من قرنِ الثور وسيلةً للتصويت باعتباره مجوَّفاً، وأحدُ طرفيه يكونُ متَّسعاً والطرفُ الآخر يكونُ ضيقاً، فيضعُ الناقرُ فمَه على الطرفِ الذي يكون ضيِّقاً فينفخُ فيه، فينبعثُ عن نفخه صوتٌ عالٍ يسمعُه البعيد، هذا هو الناقور، وهو يُستعملُ عادةً للإيذان والإعلانِ عن أنَّ القافلة ?قافلة السفر- سوف تشرعُ في المسير، فكلُّ مَن كان متأخراً أو تخلَّف لحاجةٍ فعليه أن يُبادرَ للإلتحاق لأنَّ القافلة ستشرعُ في المسير، فيُنفخُ في الناقورِ لهذا الغرض، أو يُنفخُ فيه لغرضِ الإيذانِ والإعلانِ عن وصول القافلة من السفر، وقد يُنفخُ في الناقور للإعلانِ عن وصول الجيش إلى هذه الأرض، أو للإيذانِ بأنَّ الجيش سوف ينسحبُ من هذا الموقع، أو أنْ الحربَ قد بدأت، فتُقرعُ الطبولُ ويُنقرُ في الناقور للإعلان عن بدأ الحرب، هذا هو الناقور، والقرآنُ استعمله هنا للكناية عن أنَّ الله عزوجل قد أذن بانبعاثِ الأرواح في الأجساد ليقومَ الناسُ لربِّ العالمين يوم القيامة، ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ﴾(14)، إذن النفخُ في الصور إعلانٌ وإيذانٌ بانَّه قد حان حينَ الحشرِ والبعثِ للناس، ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ -أي من القبور- إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾(15)، هذا هو المرادُ من النفخِ في الصور والنقرِ في الناقور.
والقرآنُ الكريم استعملَ جملةَ النفخِ في الصور أكثرَ من استعمالِه لجملةِ النقرِ في الناقور، فالنقرُ في الناقور لم تُستعمل في القرآن إلا في سورةِ المدثر، وأما النفخُ في الصور فاستُعملت في عشرةِ مواضعَ من القرآن الكريم.
ويظهرُ من ملاحظةِ الآياتِ وكذلك الرواياِتِ الواردةِ عن الرسولِ (صلى الله عليه وآله وأهلِ بيته عليهم السلام) أنَّ ثمة نفختين في الصور:
الأولى: تكونُ إيذاناً بانتهاءِ الدنيا وانقضاءِ الحياةِ فيها.
والثانية: تكونُ إيذاناً بوقوع البعثِ للأرواح في الأبدانِ للحساب يومَ القيامة.
فنفخٌ في الصور يكونُ للإيذان والإعلان عن نهاية الدنيا، ونفخٌ آخرُ في الصور يكونُ للإيذان والإعلان عن بدايةِ يوم البعث للناس، وأما الزمنُ الفاصلُ بين النفختين فلا يعلمُ مداهُ إلا اللهُ عزَّ وجل، فمِن الآياتِ التي أشارت إلى أنَّ النفخَ يكونُ للإيذان بانتهاء الدنيا فهي قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾(16)، هذه النفخةُ الأولى يترتب عنها فزعٌ، وذلك لأنَّ هذه النفخة ينبعثُ عنها صوتٌ هائلٌ وعظيم، يفزعُ منه الأحياءُ من خلق الله فيَصعقوا لهولِ هذا الصوت، فكلُّ مَن في السماوات من أرواح، وكلُّ من في الأرض وما في الأرض من ذي روح قد بقي ولم يمتْ بعدُ فإنَّه يموتُ بتلك النفخة، وكذلك ورد في آية أخرى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ﴾(17)، فهذه تشيرُ أيضاً إلى النفخةِ الأولى.
وهناك آياتٌ أخرى واضحةٌ في أنَّ ثمة نفخةً يتعقَّبُها البعثُ والحشرُ للناس وهي مثلُ قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا / وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا﴾(18)، هذه النفخةُ هي النفخةُ الثانية التي تكونُ إيذاناً ليوم الحشر، ويقولُ الله تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا / يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا﴾(19)
وهناك آيةٌ جمعت بين الإخبار عن النفختين وهي قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾(20)، هذه الآية تصدَّت للإخبار عن كلا النفختين في سياقٍ واحد.
ثم إنَّ القرآن الكريم أخبر عن وقوع النفخةِ بعبائرَ أُخرى، مضافاً إلى التعبير عن ذلك بالنفخ في الصور، فالنفخُ في الصور -كما قلنا- ينشأُ عنه صوتٌ هائلٌ عظيمٌ ومرعب يصعق من هوله كلُّ مَن في الوجود، فعبَّرت آيات أخرى عن هذه النفخة بالصاخَّة التي تصخُّ الأسماع وتصكُّها لهولها وتعاظمها، ﴿فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ / يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾(21) فاستعملَ الصاخَّة بدل النفخِ في الصور، فالصاخةُ ليست حدثاً آخر غيرَ النفخ في الصور، بل هي أثرُ للنفخِ في الصور.
واستعملت الآياتُ عبارةً أخرى وهي الصيحة في سورة يس: ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾(22) يعني وهم مشغولون في شؤوناتهم يختصمون في حوائجهم، فيُفاجؤون بهذه الصيحة المؤذِنة بوقوع اليوم الذي ينتهي فيه الوجود من هذه الدنيا، فقوله: ﴿وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾(23) يدلُّ على أنَّ الصيحة تكون مفاجئةً ومباغتة، فتأخذُهم وهم مشغولون يختصمون في شئوناتهم، فاستعملتِ الآيةُ الصيحةَ في النفخة الأولى، وآيةٌ أخرى أيضاً من سورة يس استعملت الصيحة في النفخةِ الثانية، قال تعالى: ﴿إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾(24) فهذه صيحةٌ يتعقَّبُها البعثُ والحشر ليوم القيامة، فصيحةٌ ينتهي بها الوجود لعالم الدنيا، وصيحةٌ أخرى يقوم عندها كلُّ الناس لربِّ العالمين.
نسأل الله عزَّوجلَّ أن يشملَنا برحمته يومَ يقومُ الناس للحساب.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ / وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(25)
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
21 من شوال 1436هـ - الموافق 7 أغسطس 2015م
جامع الإمام الصادق (عليه السلام) - الدراز
1- سورة النور / 25.
2- سورة المدثر / 7-10.
3- سورة المدثر / 7.
4- سورة المدثر / 7.
5- سورة الزمر / 10.
6- سورة الزمر / 10.
7- سورة المدثر / 7.
8- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 69 ص 305.
9- سورة البينة / 5.
10- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 1 ص 48.
11- سورة المدثر / 7.
12- سورة المدثر / 8-10.
13- سورة الحاقة / 13-15.
14- سورة طه / 102.
15- سورة يس / 51.
16- سورة النمل / 78.
17- سورة الزمر / 68.
18- سورة الكهف / 99-100.
19- سورة طه / 102-103.
20- سورة الزمر / 68.
21- سورة عبس / 33-34.
22- سورة يس / 49.
23- سورة يس / 49.
24- سورة يس / 53.
25- سورة العصر.