قسوةُ القلب (2)
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمد لله الذي علا في توحيدِه، ودنا في تفرُّدِه، وجلَّ في سلطانِه، وعظُمَ في أركانِه، وأحاطَ بكلِّ شيء، وقهرَ جميعَ الخلقِ بقدرتِه وبرهانِه. حميداً لم يزلْ، ومحموداً لا يزالُ، ومَجيداً لا يزولُ، ومُبدِيَاً ومُعِيداً، وكلُّ أمرٍ اليه يعودُ، له الإحاطةُ بكلِّ شيءٍ، والغلبةُ لكلِّ شيءٍ، والقوةُ في كلِّ شيءٍ، والقدرةُ على كلِّ شيءٍ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه.
عبادَ الله اتَّقُوا اللَّهً، فَكَمْ مِنْ مُؤَمِّلٍ مَا لَا يَبْلُغُهُ وبَانٍ مَا لَا يَسْكُنُهُ، وجَامِعٍ مَا سَوْفَ يَتْرُكُهُ، ولَعَلَّهُ مِنْ بَاطِلٍ جَمَعَهُ، ومِنْ حَقٍّ مَنَعَهُ، أَصَابَهُ حَرَاماً، واحْتَمَلَ بِهِ آثَاماً، فَبَاءَ بِوِزْرِهِ، وقَدِمَ عَلَى رَبِّهِ آسِفاً لَاهِفاً، قَدْ ﴿خَسِرَ الدُّنْيا والآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ﴾(1).
قال اللهُ تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(2).
عمى القلب وحديث النُّكتة السوداء:
قلنا في حديثٍ سابق: إنَّ قسوة القلب ليستْ على مرتبةٍ واحدة، فالقلبُ يمرُّ عبْرَ مراحلَ تنازليَّة إلى أنْ يصلَ إلى مستوى القسوة التامَّة .. فالقسوةُ حينَ تنتابُ القلبَ تكون باهتة وضئيلة لكنَّها تأخذُ في الإشتدادِ إلى أنْ تستوعبَ تمامَ القلبِ وحينذاك يُظلِمُ القلبُ فيَعمى ويُصبحُ من حيث الشدَّةِ كالحجارةِ بل قد يكونُ أشدَّ قسوةً منها.
الحديث الشريف:
ثمة روايةٌ وردتْ عن الإمامِ الباقر (ع)، يقولُ فيها: "مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وفِي قَلْبِه نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً خَرَجَ فِي النُّكْتَةِ -البيضاء- نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ ذَهَبَ ذَلِكَ السَّوَادُ، وإِنْ تَمَادَى فِي الذُّنُوبِ زَادَ ذَلِكَ السَّوَادُ حَتَّى يُغَطِّيَ الْبَيَاضَ، فَإِذَا غَطَّى الْبَيَاضَ لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُه إلى خَيْرٍ أَبَداً، وهُوَ قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾"(3).
توضيح الحديث:
فالنكتةُ البيضاء: ترمزُ ظاهراً إلى الفطرةِ التي فُطر الناسُ عليها، فالإنسانُ حينَ يُولد يكونُ طاهرَ القلبِ، مُبرءاً من كلِّ مرضٍ قلبيّ، فإذا ما أذنبَ الذنبَ تلوَّثت فِطرتُه -وهو ما عبَّرتْ عنه الروايةُ بالنكُّتةِ السوداء-، فإذا ما آبَ ورجعَ وتابَ إلى اللهِ -عزَّ وجل- طهُرَ قلبُه بعد تلوُّثِه وعاد إليه صفاؤه بعد تكدُّرهِ بالذنب، أمَّا إذا لم يثُبْ إلى رشدِه، ولم يرجعْ إلى ربِّه، فإنَّ أثرَ الذنبِ الذي كدَّر صَفوَ قلبِه يبدأُ في الإتِّساعِ والانتشار، فتُصبحُ تلك النكتةُ السوداءُ دائرةً، ثم تتوسَّعُ تلك الدائرةُ، وكلَّما أذنبَ الإنسانُ ذنباً ازدادتْ تلك الدائرةُ اتساعاً، حتَّى تُغطِّي تمامَ القلب. يقولُ الإمام الباقر (ع) بحسبِ الرواية: عندئذٍ لا يرجعُ إلى خير. وهو مصداقُ قولِه تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم﴾(4).
إذن يتعيَّنُ على الإنسانِ الذي يحرصُ على بقاءِ قلبِه طاهراً صافياً من الكدَرِ والأدرانِ أن يُراجعَ نفسَه يوماً بيوم؛ وأنْ يتعاهدَ قلبَه بالتصفيةِ والتنقية والصقلِ تماماً كمنْ يحرصُ على بقاءِ مِرآتِه صافيةً من الشوائب، فحين يغفلُ الإنسانُ عن قلبِه ويتركُ لنفسِه العِنان دونَ تعاهدٍ ومراقبة فإنَّه سيجدُ نفسه بعد حينٍ عاجزا عن التراجعِ، ذلك لأنَّ قلبَه قد تغلَّف بألفِ حجابٍ فأصبحَ شأنُه شأنَ مَن وَعظَهمُ الأنبياءُ فتذرَّعوا بقولِهم: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾(5) ولهذا دأبَ أهلُ البيتِ (ع) على التحذيرِ من تسويفِ التوبةِ، فإنَّ ذلك هو ما يُفضي إلى تراكمِ أثرِ الذنوبِ على القلب.
أسباب القسوة:
وأما المحورُ الثاني: فهو تعدادُ الأسبابِ التي تنشأُ عنها قسوةُ القلب، وسنقتصرُ على بيانِ بعضِها نظراً لكثرتِها:
السببُ الأولُ: هو كثرةُ الذُّنوب
وهو أشدُّ الأسبابِ تأثيراً في حدوثِ القسوةِ واستحكامِها في القلب .. يقولُ أميرُ المؤمنين (ع): فيما يُروى عنه: "ما قَسَتِ القلوبُ إلا لكثرةِ الذنوب"(6) فحين يُذنبُ الإنسانُ ذنباً ثم يُلحقُه بآخرَ ويَجترحُ بعدَهما ذنباً ثالثاً ورابعاً فإنَّ أثرَ هذه الذنوبِ المتعاقبةِ هو حدوثُ القسوةِ في قلبِه ولكنَّها بمرتبةٍ ضعيفة، تشتدُّ كلَّما أضافَ إلى ذنوبِه ذنباً، فإذا كَثُرت ذنوبُه وأحاطتْ به وأوبقتْه كان أثرُها الفتكَ بالقلبِ فيُصبحُ حينذاكَ ميِّتاً وهو تعبيرٌ آخر عن القسوةِ، ويقولُ الرسولُ الكريمُ (ص): فيما يُروى عنه "أربعٌ يُمتنَ القلبَ: الذنبُ على الذنب"(7)، فالذنوبُ حين تتراكمُ فإنَّها تحجُبُ القلبَ عن الموعظةِ، وعن التأثُّرِ، وعن الرِّقةِ، وعن الرَّحمةِ، وعن كلِّ ما يُميِّز الإنسانية، ويصبحُ هذا الإنسانُ متوحِّشاً، عيناً كما هو الحيوانُ المفترس؛ ويقولُ علي (ع) فيما يُروى: "من قلَّ ورعُه ماتَ قلبُه، ومَن ماتَ قلبُه دخلَ النار"(8)، فقلَّةُ الورعِ هو ما يُنتجُ الذُّنوبَ، ذلك لأنَّ خلوَ القلبِ من الورعِ تعني خلوَّه من الرادعِ والوازعِ الديني، وإذا خلا القلبُ من الوازعِ فإنَّ صاحبَه لن يُبالي بارتكابِ المحرمات، فهو يرتكبُ الحرام تلوَ الحرام، ويَكثرُ ذلك منه فيموتُ قلبُه، ولذلك يكونُ مدخلَه النارَ.
فمنشأُ تمادي الإنسانِ في غيِّه وكثرةِ اجتراحِه للذنوبِ هو ضعفُ الوازعِ أولاً ثم زوالُه من القلب، وأمَّا الذي يُساهمُ في ضعفِ الوازعِ في القلبِ فهو الأُنسُ والأُلفةُ للذنبِ والتي تنشأُ عن تكرارِ المقارفةِ له، فالنفسُ بطبعِها تألفُ الفعلَ الذي يتكرَّرُ صدورُه عنها، فحينَ يصدرُ الذنبُ من الإنسانِ لأول مرةٍ يجدُ نفسَه منقبضةً ويشعرُ بالهمِّ والحزنِ كلَّما تذكرَ الذنبَ الذي صدرَ عنه، لكنَّه بعد أنْ يرتكبَ الذنبَ مرةً ثانيةً وثالثةً فإنَّ شعورَه بالاستيحاشِ يأخذُ في الخفوتِ والضَعف إلى أنْ يزولَ الاستيحاشُ من نفسِه فيُصبحُ الذنبُ مألوفاً مأنوساً عندَه لا يتأثمُ حين يرتكبُه تماماً كما لا يتأثمُ حين يفعلُ المباح.
ومثالٌ ذلك: الرجلُ يتعدَّى على زوجتِه بالضربِ أو الشتْمِ، فإنَّه حينَ يفعلُ ذلك لأولِ مرة تنقبضُ نفسُه ويَستبشعُ فعلَه ويشعرُ بالاشمئزاز، وينتابُه الهمُّ والحزن. فإذا لم يتُب ويعقِدُ العزمَ على عدمِ المعاودة لهذا الذنب الشنيع، ثم يتفقُ عارضٌ آخر فيتجاسرُ على ايذاء زوجتِه مرَّةً ثانية فإنَّ شعورَه بالاستيحاشِ في المرَّةِ الثانيةِ ليس هو في حدَّته كالشعورِ بِه في المرَّةِ الأولى، وهكذا يبدأ الاستيحاش في الضَعف إلى أن يُصبحَ ضربُ الزَّوجةِ عندَه مألوفاً، بحيثُ لا يَرى أنَّ ذلك مِن الظلمِ، ولهذا فهو يُعنِّفُها ويَعتدِي عليها لأتفهِ سببٍ ولا يتأثمُ من ذلك ولا يَراهُ مِن الذنوب! إنّ من أسوأ ما يبتلي به الإنسان هو أنْ يألفَ الذَّنب ويأنسَ به.
السبب الثَّاني: طول الأمل
وأما السببُ الثاني من أسبابِ القسوةِ فهو طولُ الأملِ، ففي المأثور- فيما ناجى اللهُ به موسى (ع)-: "يا موسى (ع) لا تُطوِّل في الدنيا أَمَلك؛ فيقسو قلبُك، والقاسي القلبِ مني بعيدٌ) (9)، ويقول أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب (ع) فيما يُروى عنه: (مَن يأملُ أنْ يعيشَ غداً، فإنَّه يأملُ أنْ يعيشَ أبداً. ومَن يأملُ أنْ يعيشَ أبداً يَقسو قلبُه، ويَرغبُ في دُنياه) (10).
ليس طولُ الأملِ إلَّا كالذنبِ، فكما انَّ الذَّنب يُؤلَفُ، فيُنسي الآخرة، ويُوجِبُ قسوَةَ القلبِ، فكذلك طولُ الأمل؛ إذ يبدأُ أملُ الإنسانِ حقيراً محدوداً، ثم لا يلبثُ أنْ يكبُرَ أملُه، وكلَّما كبُر أملُه كلَّما نسيَ ربَّه ونسيَ ما يُراد منه، وحينذاك تتراكمُ الحُجُبُ على قلبِه، كما أفاد أمير المؤمنين: يأملُ أنْ يعيشَ غداً، ثم يأملُ أنْ يعيشَ أبدا .. وإذا تمكَّن الأملُ من القلبِ، وصارَ الوهمُ بالبقاءِ طويلاً كأنَّه حقيقة فإنَّ الإنسانَ حينَها لنْ يكترثَ بما يجترحُ مِن خطايا لأنَّه يُؤمِّلُ أنْ يتوبَ منها فيما بعد، فتؤثرُ الخطايا في قلبِه أثرَها فتحولُ بينَه وبينَ التوبة.
تسويلات الشيطان وطول الأمل:
فالشيطانُ شديدُ العبثِ بقلبِ الإنسان، فإذا وجدَه متأثراً بموتِ أخيه نكتَ في رَوْعِه أنَّ موتَه نشأ عن مرضِه! وأنَّ جارَه ماتَ لأنَّه كبيرٌ في السنِّ! وأنَّ زميلَه مات لأنَّه مُتهورٌ، وهكذا، كلَّما جاءَ منبِّهٌ ومذكِّر، وكلَّما أدَّبه ربُّه بأدبٍ نشِطَ الشيطانُ في تعليلِه حتى يظلَّ سادراً في غفلتِه، فنحنُ لا نتأثَّرُ عندما يموتُ منَّا ميِّتٌ؛ لأنَّنا نُمنِّي أنفسَنا بالقولِ انَّه ماتَ لأنَّه مُسرعٌ ونحن لا نسرع! وهذا إنَّما مات لأنَّه مُبتلى بداءٍ عضالٍ ونحنُ بحمدِ الله أصحَّاء! وإنَّما مات هذا لأنَّه كبيرٌ، ونحن صغار .. وهكذا، تُعلِّلُ النَّفس، ويُعلِّل الشيطان للإنسان، فيطولُ أمله. وأما البصيرُ، الرشيدُ، صاحبُ القلبِ الذَّكُورِ، وصاحبُ القلبِ النابضِ بالحياة، فمثلُه يتأثَّرُ من كلِّ ما يجدُ، ويتأمَّلُ في كلِّ ما يَطرأ، فيتأثَّرُ به، ويتفاعلُ معه، ويتأدَّبُ به.
طول الأمل يُنسي الآخرة!
يقولُ أميرُ المؤمنين (ع) فيما يُروى عنه: (أيُّها الناسُ إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم اثنتانِ: إتِّباعُ الهوى، وطولُ الأمل. فأمَّا إتِّباعُ الهوى فيصُدُّ عن الحقِّ، وأمَّا طولُ الأملِ فيُنسي الآخرة)(11)، فحين يتَّبعُ الإنسانُ أهواءَه، ويضعُفُ عندَ كلِّ رغبة، فإنَّه لن يقفَ مع الحقِّ يوماً ما، بل سيَدورُ كيفما دَارَ هواه، ويسيرُ حيثُ وجهتْه رغباتُه .. فمواقفُه خاضعةٌ لِما يُحبُّ ويَهوى، فهو يمدحُ حينَ يمدحُ لأنَّ موقفَ الممدوحِ مناسبٌ لِما يَهوى ويرغبُ وإنْ خالفَ الحقَّ، ويذمُّ أو يخذلُ أخاه حينَ يجدُ في مؤازرتِه ما ينافي رغبتَه وإنْ كان في ذلك اعزازٌ للحقِّ، وهذا هو معنى ما أفاده أمير المؤمنين(ع) إنَّ إتباعَ الهوى يَصُدُّ عن الحقِّ، ووأمَّا طولُ الأمل فيُنسي الآخرة. فالقلبُ المشغولُ بالآمالِ والأمنياتِ لا يسعُه التأملُ والتدبُّرُ في المآل بل كلَّما خطرَ ذلك في مخيلته طردَه عنها حتى لا تُكدِّرَ عليه صفوَ ما يجدُه من أنسٍ بأمانيه.
أهل البيت وترقُّب الآخرة:
وأما ذوو البصائرِ فلا تُبارحُ الآخرة خلَدهم، يقولُ الإمامُ الصادقُ (ع) فيما يُروى عنه: "ما أغمضُت عيني وظننتُ أنِّي أفتحُها، وما بِتُّ على فِراشي وظننتُ أنِّي أستيقظ"(12)، لذلك ظلّتْ قلوبُ هؤلاءِ الصفوة نابضةً بالحياةِ خاشعةً لله تعالى، لا يرتكبونَ الذَّنبَ خطيرَه وحقيرَه، ذلك لأنَّهم يرونَ أنفسهم مقبلةً على الآخرة، وكأنَّهم اليومَ سوفَ يرحلون إليها، وهذا هو سرُّ ما كان عليه أميرِ المؤمنينَ (ع) من بكاءٍ طويل في غسق الليل وأطراف النهار.
يستغربُ كلُّ مَن عاشرَه، وتعتريهمُ الدهشةُ لماذا كلُّ هذا البكاء؟!، يقولونَ: كان عليٌّ غزيرَ الدمعة، طويلَ الفِكرة، يُقلِّبُ كفَّه، ويُخاطبُ نفسَه، يستوحشُ من الدنيا وزهرتِها، ويأنسُ بالليلِ ووَحشتِه، يقول ضرار بنُ ضُمرة: "رحِمَ اللهُ عليَّاً، كان واللهِ طويلَ السُهادِ، قليلَ الرُقادِ، يتلو كتابَ الله آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار، ويجودُ للهِ بمهجتِه، ويبوءُ إليه بعبْرتِه، لا تُغلقُ له الستور، ولا يدخر عنا البدور، ولا يَستلينُ الاتكاء، ولا يستخشنُ الجفاء، ولو رأيتَه إذ مَثُلَ في محرابِه، وقد أرخى الليلُ سدولَه، وغارت نجومُه، وهو قابضٌ على لحيتِه، يتململُ تملمُلَ السليم، ويبكي بكاءَ الحزينِ، وهو يقول: يا دنيا، إليَّ تعرضتِ، أم إليَّ تشوَّقتِ، هيهاتَ هيهات غُرِّي غيري، لا حاجة لي فيكِ، أبنتُك ثلاثاً لا رجعةَ لي عليكِ. ثم يقول: واهٍ واهٍ من قلَّةِ الزاد وبُعدِ السفرِ ووَحشةِ الطريق(13).
ويقول أبو الدرداء: "شهِدتُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ (ع): بشويحطاتِ النجار، وقد اعتزلَ عن مَواليه، واختفى ممَّن يَليه، واستترَ بمَغيلاتِ النخلِ، فافتقدتُه وبَعُدَ عليَّ مكانُه، فقلتُ: لحِق بمنزلِه، فإذا أنا بصوتٍ حزينٍ ونغمةِ شجي، وهو يقول: إلهي، كمْ مِنْ مُوبقةٍ حملْتَ عنِّي فقابلتَها بنعمتِك، وكمْ مِن جريرةٍ تكرَّمتَ عن كشفِها بكرمِك، إلهي إنْ طالَ في عصيانِك عمري، وعظُم في الصحُف ذنبي، فما أنا مُؤمِّلٌ غيرَ غُفرانِك، ولا أنا بِراجٍ غيرَ رِضوانِك. يقول: فشغلني الصوتُ واقتفيت الأثرَ، فإذا هو عليُّ بنُ أبي طالب (ع) بعينِه، فاستترتُ له، وأخملتُ الحركة، فركعَ ركعاتٍ في جوفِ الليلِ الغابر، ثم فزِعَ إلى الدعاءِ والبكاء والبثِّ والشكوى، فكانَ مما ناجى به اللهَ أن قال: إلهي، أُفكر في عفوكَ، فتهونُ علي خطيئتي، ثم أذكرُ العظيمَ من أخذكَ فتعظمُ علي بَليتي. آهٍ إنْ أنا قرأتُ في الصحُفِ سيئةً أنا ناسيها وأنتَ مُحصيها، فتقولُ: خُذُوه، فيا له مِن مأخوذٍ لا تُنجيه عشيرتُه، ولا تَنفعُه قبيلتُه، آهٍ من نارٍ تُنضِجُ الأكبادَ والكُلى، آهٍ مِن نارٍ نزاعةٍ للشوى، آهٍ من غمرةٍ من مُلهبات لظى. قال: ثم أنعم في البكاء، فلم أسمعْ له حسَّاً ولا حركة، فكانت تلك هي الغشيةُ التي تأخذُه مِن خشيةِ الله"(14).
السبب الثالث: الغفلة
ومن أسبابِ قسوةِ القلبِ الغفلةُ، يُروى عن الإمامُ الباقرُ (ع) أنَّه قال لجابرِ الجعفي: "إيَّاك والغفلةَ، ففيها تكونُ قساوةُ القلب"(15).
ماهي الغفلة؟
والغفلة تعني أنَّ يَذهلَ الإنسانُ عن آخرتِه، ولا يتأمَّلُ فيما سيئولُ إليه أمرُه، والغفلة هي أنْ يخلوَ القلبُ من استحضارِ أنْ اللهَ تعالى مطَّلعُ على سرِّه وعلانيته وما يقول وما يفعل.
الغفلة سبب رئيسي للمعصية:
وهي أحدى الأسباب الأساسيَّة لارتكاب الذنوب؛ لأنَّ الإنسانَّ عندما يغفلُ عن ربِّه فإنَّه سيعصيه، وأما عندما يراقبُ اللهَ تعالى ويشعر أنَّه مطَّلع عليه فإنَّ هذا الشعور قد يمنعُه من مقارفة المعصية تماماً كمن يعلمُ بأنَّ ثمة من يترصَّد أفعالَه ويُراقب أداءَه لوظيفته فإنَّه سيحرصُ على الإتقانِ وعدمِ التفريط، فالغفلةُ عن الله تعالى والذهولُ عنه وانَّه مطَّلعٌ على ما يفعل هو سرُّ التفريطِ والتجاوزِ لحدود الله تعالى.
وهكذا هي الغفلةُ عن الآخرةِ، حيثُ ترى الكثيرَ منَّا يكدُّ ويكدحُ، وكلُّ همِّه هو مستقبلُه الدنيوي! وحينَ تسألُه: لماذا كلُّ هذا الكدحِ؟ يكون جوابُه هو انَّه يؤمِنُ مستقبَلَه!! مستقبلُه الذي لنَ يطولَ لأكثرَ من سبعينَ سنةٍ أو ثمانينَ، أو تسعينَ سنة، وإذا اطمئنَ على مستقبلِه تَراه كما هي حالُه يكدُّ ويكدحُ ليُؤمنَ مستقبلَ أولاده والذي لنَ يطولَ بعده لأكثر من سبعينَ سنةٍ.
فلأنَّ الإنسانَ يَعي ضرورةَ الاطمئنانِ على مستقبلِه ومستقبلِ أبنائِه الدنيوي، وهو دائمُ الاستحضارِ لهذه الضرورةِ لذلك تَراه جادَّاً في تحصيلِ هذه الغاية وليس في ذلك بأسٌ، ولكنَّ البأسَ كلَّ البأسِ أنْ يغفلَ عن آخرته، فلا يسعى من أجلِ تأمينِ مستقبلِه الذي سيمتدُّ لملايينَ السنين، إمّا مُعذَّبٌ، وإما مُنعَّم لذلك فمثلُه ينبغي أنْ يُعدُّ في الحمقى.
مثل الذي غفل عن سفره.
يذكرُ علماءُ الأخلاق مثالاً للغفلة: يقولونَ إنَّ رجلينِ كانا على جملينِ في صحراءَ مقفرةٍ متراميةِ الأطراف، قاصدَينِ لبلد، فانتهى ما عندَهما من زاد، وانتابهما الجوع، فقال أحدُهما: إنّي أنوي أن أذبحَ جملي؛ لآكلَ من لحمِه. فقال له صاحبُه: أَغفِلتْ أنّك في الصحراء؟ فإذا أكلتَ وشبعتَ، كيف ستصلُ إلى البلد وقد ذبحت جملك؟! إنك لن تبرح من مكانِك حتى يقتلَك بعد ذلك الجوع، لأنَّ لحمَ الجملِ سوف ينفَدُ، وليس لك في الصحراء مأوى ولا سبيل لعبورها مشياً. لكنَّ الرجل لم يستوعب نصيحة صاحبه، وقال: لقد أضرَّ بيَ الجوع، ولن أصبرَ. فذبح جملَه، وشوى منْه، وأكل وشعُرَ بالشبعِ والإرتياح. وأما صاحبُه فمضى في طريقه وغابَ عنه. ثم لمّا أنْ شبِع، واستيقظ من نشوةِ الشبع، ثاب إليه رشدُه فأخذ يُفكَّر كيف يذهبُ إلى تلك البلد؟وكيف يقطعُ هذه الصحراء وليس له من دابَّة؟! فكان حظُّه الندم ولكن ولات حين مندم.
هكذا الإنسان الغافل، يصرفُ جهده وطاقته وأمواله، في حطام الدُّنيا، ثم حين يُبغته الموت لا يجد عنده ما يحملُه لآخرتِه.
مشاغل الدنيا وغفلة الآخرة:
دخلَ أميرُ المؤمنين (ع) إلى سوقِ البصرة، فوجدهم يبيعونَ ويشترونَ ووجدهم كلٌّ منهم يحلف بالأيمانِ المُغلَّظة على صدقِ دعواه وجودةِ بضاعته! فبكى عليٌّ (ع) وكثيراً ما كان يبكي ثم قال: (يا عَبيدَ الدُّنيا، وعُمَّالَ أهلِها، إذا كنتم في النَّهارِ تحلفون، وبالليلِ في فراشكم تنامون، وفي خلال ذلك عن الآخرة تغفُلون، فمتى تُجهِّزونَ الزَّادَ وتُفكِّرونَ في المعادِ).
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ / مَلِكِ النَّاسِ / إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ / الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ / مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾(16)
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
30 من محرّم 1437هـ - الموافق 13 نوفمبر 2015م
جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز
1- سورة الحج / 11.
2- سورة الزمر / 22.
3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 15 ص 303.
4- سورة المطففين / 14.
5- سورة النساء / 155.
6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 16 ص 45.
7- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 20 ص 197.
8- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 12 ص 187.
9- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 16 ص 45.
10- مستدرك الوسائل -ميرزا حسين النوري الطبرسي- ج 12 ص 94.
11- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 15 ص 280.
12- ........................
13- "رحم الله عليا، كان والله طويل .. ثم يقول: واه واه لبعد السفر، وقلة الزاد، وخشونة الطريق" الأمالي -الشيخ الصدوق- ص 724.
14- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 84 ص 196.
15- تحف العقول عن آل الرسول (ص) -ابن شعبة الحراني- ص 285.
16- سورة الناس.