﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ (4)

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

الحمد للهِ ربِّ العالمين، والْحَمْدُ لِلَّه عَلَى مَا عَرَّفَنَا مِنْ نَفْسِه، وأَلْهَمَنَا مِنْ شُكْرِه، وفَتَحَ لَنَا مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ بِرُبُوبِيَّتِه، ودَلَّنَا عَلَيْه مِنَ الإِخْلَاصِ لَه فِي تَوْحِيدِه، وجَنَّبَنَا مِنَ الإِلْحَادِ والشَّكِّ فِي أَمْرِه، حَمْداً نُعَمَّرُ بِه فِيمَنْ حَمِدَه مِنْ خَلْقِه، ونَسْبِقُ بِه مَنْ سَبَقَ إلى رِضَاه وعَفْوِه، حَمْداً يُضِيءُ لَنَا بِه ظُلُمَاتِ الْبَرْزَخِ، ويُسَهِّلُ عَلَيْنَا بِه سَبِيلَ الْمَبْعَثِ، ويُشَرِّفُ بِه مَنَازِلَنَا عِنْدَ مَوَاقِفِ الأَشْهَادِ، حَمْداً يَرْتَفِعُ مِنَّا إلى أَعْلَى عِلِّيِّينَ فِي كِتَابٍ مَرْقُومٍ ﴿يَشْهَدُه الْمُقَرَّبُونَ﴾(1) حَمْداً تَقَرُّ بِه عُيُونُنَا إِذَا بَرِقَتِ الأَبْصَارُ، وتَبْيَضُّ بِه وُجُوهُنَا إِذَا اسْوَدَّتِ الأَبْشَارُ، حَمْداً نُعْتَقُ بِه مِنْ أَلِيمِ نَارِ اللَّه إلى كَرِيمِ جِوَارِ اللَّه، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهً إِلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ (ص).

اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ، أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ، والْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ، لَا يَمْنَعُ أَهْلَهُ، ولَا يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، أَلَا وبِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ الْخَطَايَا، وبِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصْوَى، فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ حَذَرَ الْغَالِبِ لِنَفْسِهِ، الْمَانِعِ لِشَهْوَتِهِ النَّاظِرِ بِعَقْلِهِ، فَإِنَّ الأَمْرَ وَاضِحٌ، والْعَلَمَ قَائِمٌ، والطَّرِيقَ جَدَدٌ والسَّبِيلَ قَصْدٌ.

قال اللهُ تعالى في مُحكمِ كتابِه المجيد: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا﴾(2) صدق الله العلي العظيم.

كنَّا قد تحدَّثنا فيما سبقَ عن معنى هذه الآيةِ الشريفةِ، وقُلنا: إنَّها تحتمِلُ معنيين:

المعنى الأول: هو انَّها بصددِ التوصيفِ للكيفيَّة التي ينبغي أنْ تكونَ عليها مِشيةُ عبادِ الرحمنِ، فوصفتْ مِشيتَهم بأنَّها هيِّنةٌ أي أنَّهم يمشونَ على الارضِ مَشياً هيِّناً، ليس فيه تكلُّفٌ ولا تَبخترٌ ولا خُيلاء ولا تكبٌّرٌ، وقد وردَ عن الامامِ الصادقِ (ع) في مقامِ البيانِ لهذه الآيةِ المباركةِ، قال فيما رُوي عنه: "هو الرجلُ يمشي بسجيَّتِه التي جُبَلَ عليها لا يتكلَّفُ ولا يَتبخترُ"(3).

فمفادُ الآيةِ بناءً على ما أفادتْه هذه الروايةُ أنَّ عبادَ الرحمنِ يمشونَ حينَ يمشونَ على رِسْلِهم دونَ تكلُّفٍ ودونَ تبختُرٍ، فقد لا يمشي الانسانُ متبختراً ولكنَّه يتكلَّفُ في مَشيه ويتصنَّعُ مِشيةً هي على خلافِ طبْعِه وجِبلَّته، كأنْ يمشي مِشيةَ الزاهدينَ وهو ليس منهم، أو يمشي مِشيةً يُظهرُ فيها التخشُعَ وهو ليس كذلك واقعاً، فمثلُه متكلِّفٌ في مِشيتِه، وقد ذكروا انَّه مرَّ رجلٌ على آخرَ فوجدَه وقد طأطأ براسِه إلى الارضِ، وأدخلَ مَنكبيه في صدرِه، ولا يكادُ يخطو الخُطوةَ الثانيةَ بعد أنْ يخطوَ الاولى كنايةً عن تباطئه في مشيه، وهو شابٌّ قويُ البُنيةِ ينبغي أنْ يكونَ ممتلئً نشاطاً وحيويَّةً، فقال له الرجلُ: يا هذا الخَشوعُ هنا واشارَ إلى صدرِه، أي ينبغي أنْ يكونَ الخشوعُ في القلبِ، فليس الخشوعُ هو أن تُدخِلَ مَنكبيكَ إلى صدرِك أي أنْ تنكمشَ على نفسِك وتُطرقَ براسِك إلى الارضِ او تلوي بعنقِك يميناً او شمالاً او لا تكاد تتحرَّك وانت شابٌّ قوي البُنيةِ، فإنَّ ذلك من التكلُّفِ والتصنُّع الذي لا يليقُ بالمؤمنِ العاقلِ.

وكذلك لو أنَّ رجلاً شيخاً متقدِّماً في السِنِّ يتكلَّفُ مِشيةَ الشباب حتى لا يُقالُ عنه أنَّه شيخٌ كبيرٌ فهذا ايضا متكلِّفٌ، ولو انَّ رجلاً له طبيعةٌ في طريقةِ مِشيتِه، وكانت هذه الطبيعةُ متعارَفةً، لكنَّه يتكلَّفُ فيمشي غيرَها فهو مُتصنِّع، والمؤمنُ لا يَتصنَّعُ.

فالمتحصَّل ممَّا أفاده الامامُ (ع) بحسبِ الروايةِ هو انَّ عبادَ الرحمنِ يمشونَ وفقَ سجيتِهم، وبمقتضى طبعِهم وجِبلَّتهم، وبما يتناسبُ مع سِنِّهم وقُوَّتِهم او ضعفِهم او مقامِهم، ولأنَّ اجلى واقبحَ صُورِ التكلُّفِ هو المشيُ بتبختُرٍ وخُيلاء لذلك نصَّ الامامُ على هذا النحو من التكلُّفِ، فقال: "هو الرجلُ .. لا يتكلَّفُ ولا يتبختر"(4)، فالتبختُرُ نحوٌ من التكلُّفِ ولكنَّ الامامَ (ع) نصَّ عليه لأنَّه من اقبحِ صُورِ التكلُّفِ.

وقد ذكرنا في حديثٍ سابقٍ انَّ الآياتِ والرواياتِ الكثيرةِ شدَّدت النهيَ والنكيرَ والتشنيعَ على المشيِ بتكبُّرٍ وتبختُرٍ وخُيلاء وذكرنا منْ تلك الآياتِ قولَه تعالى: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾(5).

ومن الرواياتِ ما وردَ عن الرسولِ الكريمِ (ص) في مقامِ الزجرِ عن مِشيةِ التكبُّر والخُيلاءِ، قال فيما رُوي عنه: "مَن مشى على الارضِ اختيالاً لعنتْه الارضُ ومَن تحتَها ومَن فوقَها"(6) فمثلُ هذا الانسان يستحقُّ اللعنَ لأنَّه متكبِّرٌ ومُتغطرسٌ، والكبرياءُ كما في الحديثِ القدسي رداءُ اللهِ جلَّ وعلا، ولأنَّ التكبُّرَ هو اساسُ الكثيرِ من الشرورِ، فالظلمُ الذي تجدونَه في هذه الدنيا ينشأُ غالباً عن حالة التكبُّرِ التي ينطوي عليها الانسانُ، فلأنَّه ينطوي على هذا الشعورِ المَقيتِ لذلك فإنَّه اذا وجدَ قوةً وبسطاً في يده تغطْرسَ وبطَش، ولولا انَّه ينطوي على شعورٍ بالكبرياءِ والاستعلاءِ لما بطشَ ولما ظلمَ وأساءَ حتى وإن تمكَّن وصارَ نافذاً.

فظاهرةُ العنفِ مثلاً التي نَجدُها مع الاولادِ ومع الزوجةِ ومَن هم في دائرةِ العيال كالإخوةِ الصغارِ تنشأُ غالباً عن شعورٍ بالكبرياء، وكذلك فإنَّ الشدَّةَ والقسوةَ والبخسَ والتضييقَ الذي يتعاملُ به المسئولُ مع موظفيهِ في العملِ ينشأ غالباً عن حالة الكبرِ التي قد لا يتفطَّن واجدُها انَّه غارقٌ فيها، فهو يقسو ويعاقبُ لا لشيء سوى انَّه شعُرَ بأنَّ كرامتَه قد تمَّ خدشُها من فعلِ موظفٍ عندَه أو حماقةٍ اجترحها ولدُه أو زوجتُه فلا يتَّسعُ صدرُه لأخطائِهم وإنْ حقُرتْ فهو يقسو ويعاقبُ استجابةً لغيظِه الذي لم يكنْ له مبرِّرٌ سوى الشعورِ بأنَّ موظفَه أو زوجتَه لم ترعَ بما فعلتْه مقامَه وعظيمَ شأنِه، فهو متكبِّرٌ وإنْ توهَّمَ انَّه حكيمٌ وحازِمٌ.

ونظراً لكونِ الحديثِ حولَ مِشية المؤمنِ لذلك صارَ من المناسبِ الإشارةُ إلى الآدابِ التي ادَّبنا بها الرسولُ الكريمُ (ص) واهلُ بيتِه فيما يتصلُ بالمشي، فإنَّ للمشي آداباً وسُنناً حثَّ عليها اهلُ البيتِ (ع) أشير إلى بعضِها:

الأول: من الامورِ المنافيةِ لآدابِ المشي هو السرعةُ المُفرِطة في المشي، وقد نصَّتْ على مرجوحيَّةِ ذلك العديدُ من الرواياتِ كالتي وردتْ عن ابي الحسن الرضا (ع) قال: "سُرعةُ المشي يُذهبُ ببهاءِ المؤمنِ"(7) فسَمتُ المؤمن يتَّسمُ بالوقار والسكينة، والسرعةُ في المشي تُذهب بوقارِه وبهائِه وسكينتِه، ووردَ عن ابي عبد اللهِ الصادقِ (ع) انَّه قال: "المشيُ المُستعجِلُ يُذهبُ ببهاءِِ المؤمنِ ويُطفئُ نورَه"(8) أي نورَ وجهه والذي يعني ظاهراً الهيبةَ والوقارَ، ثمَّ إنَّ السُرعةَ في المشيِ منافيةٌ لمعنى الهَون والذي هو الرِفقُ، فالرفقُ في كلِّ شيءٍ يعني الاعتدالَ والوسطيةَ، فهو في المشيِ يعني الاتئادَ والأناةَ وعدمَ السرعةِ المُفرِطةِ، هذا هو الامرُ الاولُ.

الأمرُ الثاني: المنافي لآدابِ المشيِ هو التباطىءُ المُعبِّرُ عن التكاسُلِ والتماوتِ، فهو يدبُّ في مَشيه ويتهادى كما يدرجُ الصبيُ يتعلمُ المشي، فتلك المِشيةُ الناشئةُ غالباً عن الضجرِ والسأمِ منافيةٌ لآدابِ المشي كما انَّ السُرعةَ المفرِطةَ منافيةٌ لآدابِ المشي، ولهذا قال اللهُ تعالى في سورةِ لقمانَ: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾(9) فإنَّ المرادَ ظاهراً من الأمرِ بالقصدِ في المشيِ هو الاعتدالُ والأناةُ في المشيِ، فلا هي مِشيةٌ هوجاءُ، ولا هي مشيةُ عاجزٍ مجهودٍ أو مِشيةُ رجلٍ قد سئمَ الحياةَ وتبرَّمَ حتى من نفسِه.

ولهذا وردَ في المأثورِ عن ابنِ عباس (رحمه الله) يصفُ مِشيةَ النبيِّ (ص) قال: كان "إذا مشى (ص) مشى مشياً يُعرفُ انَّه ليس بمشيِ عاجزٍ ولا كسلانٍ"(10) فما يفعلُه بعضُ الناسِ من المشي متماوتاً يسحبُ نَعليهِ ويتمايلُ يميناً وشمالاً وكأنَّ رجليه غيرُ مُطيقتَينِ لحملِه من السأمِ والضجرِ والمللِ منافٍ لآدابِ المشي، وقد ورد عن اميرِ المؤمنينَ (ع) يصفُ مشيَ النبيِّ (ص) قال فيما رُوي عنه: "اذا مشى (ص) تكفَّأَ تكفُّأً كأنَّما يتقلَّعُ من صَبَبٍ"(11) فالإنسانُ عندما يمشي في منحدرٍ من الارضِ فإنَّ مِشيتَه تكونُ بنحو البِدار، ولا يرفعُ رِجْلاً ليخطوَ بها إلا وهو مثبِّتٌ للأولى في الأرضِ فهو يتكأُ على واحدةٍ ويقتلعُ الأخرى اقتلاعاً، وهذا هو معنى يتقلَّعُ من صَبَبٍ أي منحدرٍٍ من الأرضِ، فالنبيُّ (ص) بحسبِ الرواية يتكفَّأ في مَشيه تكفُّأً وإنْ كان في منبسطٍ من الأرضِ، وفي ذلك تعبيرٌ عن نشاطِه وحيويتِه، فما يتوهَّمُه البعضُ من انَّ مقتضى الهيبةِ والوقارِ هو التماوتُ في المشي، ليس تامَّاً بل هو منافٍ لآدابِ المشي، والمناسبُ لأدبِ المشي هو الاقتصادُ فيه الكاشفُ عن نشاطِ الماشي وحيويتِه، هذا هو الامرُ الثاني.

والأمرُ الثالث: المنافي لآدابِ المشي هو الاستهتارُ بحسبِ تعبيرِ بعضِ الرواياتِ، فقد رُوي عن الامامِ الصادقِ (ع) انَّه قال في مقامِ بيانِ بعضِ آدابِ المشي: "ولا تكن مستهتراً ولا متبختراً في مِشيتِك"(12).

ومعنى الاستهتارِ هو الاستخفافُ وعدمُ الاكتراثِ، والاستهتارُ في المشي يصدقُ حين يمرُّ الإنسانُ في طريقه فلا يعبأ بمن يصادفُهم فلا يسلِّم على مَن يمرُّ عليهم وكأنَّه مرَّ على حجرٍ أو بهيمةٍ، وكثيراً ما ينشأُ ذلك عن التكبُّر والذي يدفع الإنسان بأنْ لا يحفلَ ولا يكترثَ بمن يجدُهم في طريقه، وقد ينشأُ ذلك عن ثقافةٍ هي انَّ كلاً وشأنَه فهو لا يُسلِّم ولا يُحادِثُ إلا مَن يعرفُه أو كانت له عنده حاجة.

ويصدقُ الاستهتارُ حين لا يراعي الماشي في طريقِه الآدابَ والاعرافَ الاجتماعية، كأنْ يمشي في وسطِ مجتمعٍ محافظٍ، له عاداتٌ خاصةٌ ثم لا يراعي تلك العاداتِ، ومثالُ ذلك أنْ يمشيَ الرجل مُمسكاً بيدِ زوجتِه يتحادثانِ ويتضاحكانِ دونَ مراعاتٍ للأعرافِ التي تَستهجنُ هذا الفعلَ، أو يدخلَ الرجلُ مسجداً أو مأتماً أو يشارك في موكبِ عزاء بلباسٍ غيرِ لائقٍ في أعرافِ المجتمع فذلك من الاستهتارِ في المشي، وبالمناسبة فقد كثر ارتيادُ العديدِ من الشبابِ المسجدَ النبويَّ الشريفَ بثيابِ النومِ أو الرياضةِ وذلك منافٍ للآدابِ والأعرافِ وهو مِن الاستهتار.فلا يليق بالمؤمنِ أن يدخلَ مسجداً في قريته بمثل هذه الثيابِ فضلاً عن المسجدِ النبويِّ الشريفِ

ومن الاستهتارِ الذي ينهى عنه الامامُ (ع) بحسبِ الرواية هو أنْ يمرَّ الماشي في الطريقِ فلا يعبأُ بما يصادفُه من حاجاتِ الناسِ وشؤونِهم، فيمرُّ بطفلٍ قد تعثَّر فلا يُبالي أو يمرُّ بشيخٍ كبيرٍ أو برجلٍ ضريرٍ يَحتاجُ إلى أنْ يَعبرَ به الطريقَ فلا يفعل، هذا النوعُ من الاستهتارِ وعدم المبالاةِ منافٍ لتوصياتِ أهلِ البيتِ (ع) وسيرتِهم، فقد كانوا يمرُّون في الطريقِ فإذا وجدوا مَن هو بحاجةٍ إلى معونةٍ وكانوا قادرينَ على قضائها لم يتخلَّفوا ولم يتلكَّؤا في قضائِها

فمِن ذلك ما وردَ في المأثورِ أنَّ الرسولَ الكريمَ (ص)، كان يمشي في اطرافِ المدينة، مع عددِ من اصحابِه، وكان على ناقتِه وكذلك أصحابُه، فمرُّوا بامرأةٍ تحملُ زمبيلاً ثقيلاً على رأسِها فيه متاعٌ لها، وكانت في طريقِها لمركزِ المدينةِ فترجَّلَ الرسولُ (ص) من على ناقتِه وأناخَها وقال بالمعنى: "يا أمةَ الله اركبي"فأراد أنْ يمشي وهي تصعدُ الناقةَ، وكتن قد بادرَ لذلك دون سائرِ أصحابِه وكان بوسعِه أن يأمرَ أحدَهم بالترجُّلِ وحملِ المرأةِ إلى مقصدِها لكنَّه لم يفعلْ بل بادرَ هو بنفسِه إلى عرضِ معونتِه على هذه المرأةِ الضعيفةِ.

تلك هي سجايا اهلِ البيت (ع)، فنحن وإنْ كنَّا غيرَ قادرينَ على بلوغِ هذه المرتبةِ من الخُلق، ولكنْ حبذا السعيُ للتمثُّل بشيءٍ من اخلاقِهم، فأنْ نمرَّ بطفلينِ يتعاركانِ ربَّما يُؤذي احدُهما الاخرَ فلا نكترث، فذلك من الاستهتارِ فهما يتعاركانِ لكنَّهما ينتظرانِ قادماً يفكُّ نزاعَهما، فعدمُ المبالاة اعتداداً بالنفسِ وحِرصاً على الوقارِ قد ينشأُ عنه إصابةَ أحدِهما بالأذى. وكذلك يصدقُ الاستهتارُ حين يجدُ الماشي في طريقِه ما يُؤذي الغافلينَ المستطرقينَ فلا يُبادرُ إلى إزاحتِه عن الطريقِ أو تنبيه الغافلينَ حتى لا يقعوا في الأذى، قال أبو عبد الله الصادق (ع) فيما روي عنه: "لقد كان عليُّ بنُ الحسينِ (ع) يمرُّ على المَدَرةِ في وسطِ الطريقِ فينزلُ عن دابتِه حتى ينُحِّيها بيدِه عن الطريق"(14)، ورُوي عن الرسولِ (ص) أنَّه قال: "إماطتُك الأذى عن الطريقِ صدقةٌ"(15)، ورُوي عنه (ص) أنَّه قال: "من أماطَ عن طريقِ المسلمينَ ما يُؤذيهم كتبَ اللهُ له أجرَ قراءةِ أربعمائةِ آيةٍ"(16).

الأمرُ الاخر الذي افادَه الامامُ الصادقُ (ع) ونختمُ به الحديثَ هو غضُّ البصرِ حينَ المشي يقوُل (ع) بحسب الروايةِ: "وغُضَّ بصرَك عمَّا لا يليقُ بالدينِ"(17) فحين يمرُّ أحدُهم مثلاً في زِقاقٍ، ويُصادِفُ فجأةً باباً يُفتحُ فيمتدُّ بصرُه مباشرةً إلى البابِ وإلى ما وراءِ البابِ، وربَّما يكونُ الخارجُ من البيتِ امرأةً! وربَّما يقعُ نظرُه على امرٍ لا يليقُ بدينِه ولا يليقُ بمروتِه أنْ ينظرَ إليه، لذلك ينبغي أنَ يكونَ لدى المؤمنِ مستوىً من العصمةِ والتحرُّزِ فإذا مرَّ بطريقٍ وسمِعَ صوتَ بابٍ يُفتح أقصرَ نظرَه وأشاحَ بوجهِه خشيةَ أن يطَّلعَ على ما يليقُ له النظرُ إليه، فاذا أحرزَ بعدَه أنَّ الخارجَ رجلٌ مثلاً وقد اغلقَ البابَ أو اطمئنَ بأنَّ بصرَه لن يقعَ على ما لا يليقُ فلا بأس عليه حينئذٍ أن يستقبلَ الرجلَ بوجهِه ويسلِّمَ عليه

فمؤدَّى الروايةِ هو انَّه لا ينبغي للماشي أن يطمحَ ببصرِه في كلِّ اتَّجاه دونَ تحفُّظ، فينظر إلى كلِّ شيءٍ يسترعي الانتباهَ، فيطمحُ ببصرِه لمجرَّدِ رؤيتِه لنافذةٍ مفتوحةٍ أو بابٍ مفتوحٍ فينظرُ إلى ما ورائهما دونَ تحفُّظٍ

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(18)


1- سورة المطففين / 21.

2- سورة الفرقان / 63.

3- تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج 7 ص 310.

4- تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج 7 ص 310.

5- سورة الإسراء / 37.

6- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 73 ص 303.

7- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 73 ص 302.

8- تحف العقول عن آل الرسول (ص) -ابن شعبة الحراني- ص 371.

9- سورة لقمان / 19.

10- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 16 ص 236.

11- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 16 ص 236.

12- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 73 ص 301.

13- ..........................

14- الأمالي -الشيخ الطوسي- ص 673.

15- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 72 ص 50.

16- مستدرك الوسائل -ميرزا حسين النوري الطبرسي- ج 12 ص 385.

17- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 73 ص 301.

18- سورة العصر.