خمسةٌ لا تُصاحبهم (2)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي لَا تُدْرِكُه الشَّوَاهِدُ، ولَا تَحْوِيه الْمَشَاهِدُ، ولَا تَرَاه النَّوَاظِرُ، ولَا تَحْجُبُه السَّوَاتِرُ، الدَّالِّ عَلَى قِدَمِه بِحُدُوثِ خَلْقِه، وبِحُدُوثِ خَلْقِه عَلَى وُجُودِه، وبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَه لَه، الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِه، وارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِه، وقَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِه، وعَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِه، مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِه، وبِمَا وَسَمَهَا بِه مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِه، وبِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْه مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِه، وَاحِدٌ لَا بِعَدَدٍ، ودَائِمٌ لَا بِأَمَدٍ، وقَائِمٌ لَا بِعَمَدٍ، تَتَلَقَّاه الأَذْهَانُ لَا بِمُشَاعَرَةٍ، وتَشْهَدُ لَه الْمَرَائِي لَا بِمُحَاضَرَةٍ، لَمْ تُحِطْ بِه الأَوْهَامُ، بل كَبُرَ شَأْناً وعَظُمَ سُلْطَاناً، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه الصَّفِيُّ، وأَمِينُه الرَّضِيُّ صلى الله عليه وآله.
عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ، ولَا فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ، عِبَادَ اللَّهِ فاتقوا الله، واحْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الأَعْمَالُ، ويَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ، وتَشِيبُ فِيهِ الأَطْفَالُ، اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ، أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ، وحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ، وعَدَدَ أَنْفَاسِكُم
أما بعدُ فقد تحدَّثنا في جلسةٍ سابقة حول وصيَّةِ الإمامِ زين العابدين (عليه السلام) إلى أحدِ أبنائهِ بأنْ لا يصحبَ خمسةً وهم: الكذَّابُ، والفاسقُ، والبخيلُ، والأحمقُ، وقاطعُ الرحم. وتوقَّفنا عند الكذَّاب، وذكرنا أنَّ الإمامَ (عليه السلام) أفاد بأنَّ منشأ تحذيرهِ لابنِه من مصاحبةِ الكذَّاب هو إنَّه بمنزلةِ السرابِ يُقرِّبُ البعيدَ، ويُبعِّدُ القريب. وقد أوضحنا المراد من ذلك وذكرنا له نموذجين.
ثانياً: الفاسق
والكلام بعد ذلك حول قوله (عليه السلام): "وإيَّاك ومصاحبةَ الفاسقِ؛ فإنَّه بائعُك بأكلةٍ، أو أقلَّ من ذلك"(1).
والمرادُ من الفاسقِ هو المتَّصفُ بالفسقِ، والفسقُ والفسوقُ بحسبِ المدلولِ اللغوي يعني الخروجَ عن الشيء، فيُقالُ فسقَتِ التمرةُ أو الرطبة من قشرِها إذا أُخرجت من قِشرِها، وسُمِّيت الفأرةُ فويسِقة لخروجِها من جحرها، وقد وصفَ القرآنُ فعلَ إبليسَ بالفسقِ، فقال تعالى: ﴿ِإلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾(2) أي انَّه خرجَ عن طاعتِه، فالفسوقُ في مدلولِه اللغوي يعني الخروجَ من الشيءِ، والظاهر ان التعبير الأدق لمدلول الفسقِ والفسوقِ لغةً هو خروجُ الشيءِ من موضعِه بانسلاخِه عنه أو انفصالِه منه على نحوٍ لا يكونُ هذا الانسلاخُ والانفصالُ محموداً فلا يُعدُّ مطلقُ الخروجِ من الشيءِ فسوقاً بحسب الاستعمالِ العرفي واللغوي.
وأما القرآنُ الكريم فاستعمل مادَّة فسقَ في الخروج عن طاعة الله تعالى والتمرُّدِ على أمره، وقد استعمل هذه المادة تارةً في توصيف بعض الأفعال الممقوتة شرعاً، وتارة في توصيف بعض الأصناف من الناس المرتكبين لبعض الأفعال الممقوتة أو الواجدين لبعض الصفات الشنيعة.
أما وصفُه لبعضِ الأفعالِ الممقوتة بالفِسقِ أو الفسوق فوردَ بحسب التتبُّعِ السريعِ في مواضعَ أربعة:
منها: وصفُه للكذب والسُباب بالفسوقِ في قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾(3).
ومنها: وصفُه للاستقسام بالأزلام أو هو والذبح على النصُبِ بالفسق ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾(4).
وأما وصفُ القرآن لبعض الناس بالفاسقين فوقعَ إما بلحاظ اتَّصافهم ببعض الصفات الشنيعة أو اقترافهم لبعض الأفعال الممقوتة، وهؤلاء يُمكن حصرُهم في أصنافٍ ثلاثة:
الصنف الأول: هم الكفَّار، وإطلاقُ صفةِ الفاسقين أو الذين فسقوا أو يفسقون على الكافرين ورد في مواضعَ كثيرة من كتاب الله لعلَّها تتجاوز العشرة مواضع، وإذا أضفنا إليهم أهلَ الكتاب فإنَّ المواضع يتجاوز عددها الى ضعف العدد المذكور أو قريباً من الضِعف، لكنَّ الملفتَ في ذلك أنَّ كلَّ الآيات التي وصفتْ أهلَ الكتاب بالفسَّاق كانت تصفُ المعاندينَ منهم . وكذلك هو لحنُ الآياتِ التي وصفتْ غيرَهم من الكفَّار بالفاسقين.
والصنف الثاني: هم المنافقون، وقد أطلقَ القرآنُ وصفَ الفاسقينَ على المنافقينَ في مواضعَ تصلُ إلى سبعةٍ أو أكثر:
منها: قولُه تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(5) وقولُه تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾(6).
وأما الصنف الثالث: فهم المرتكبون لبعض الأفعالِ الشنيعة سواءً كانوا من المسلمين أو كانوا من غيرِهم، وهؤلاءِ يُمكنُ حصرُهم ظاهراً في سبعةِ أصناف:
الأولِ والثاني والثالث هم الناقضونَ لعهدِ الله والقاطعونَ لما أمرَ اللهُ به أنْ يُوصل والمفسدونَ في الأرض، وقد جمعهم القرآنُ في قولِه تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ / الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾(7) فالمقصودونَ من الفاسقين هم هؤلاء الأصنافِ الثلاثة كما هو ظاهرُ الآيةِ المباركة.
والصنفِ الرابع: هم المرتكبون لعملِ قومِ لوط (عليه السلام) كما هو مفادُ قولِه تعالى: ﴿وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ﴾(8).
والصنف الخامس: هم الذين يرمونَ المحصناتِ بالفاحشةِ كما أفادَ ذلك قولُه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(9) فإذا ضممنا إلى مفاد الآية ما أفادتْه الرواياتُ المعتبرةُ فإنَّ وصف الفاسقين في الآيةِ المباركة يكونُ شاملاً لمطلقِ من قذفَ مؤمناً رجلاً أو امرأةً بالفاحشة.
والصنف السادس: الذين لا يحكمونَ بما أنزل اللهُ، قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(10).
والصنف السابع: هم المجترحونَ للظلم بمعناه الواسع الشاملِ لمطلقِ التجاوزِ لحدودِ الله تعالى كما هو مقتضى استعمالِ القرآن لهذه المادَّة في الكثيرِ من المواضع قال تعالى: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾(11).
وبذلك يتَّضحُ انَّ المراد من الفاسق هو مطلق المتجاوز لحدود الله وإن كان أولى الناس بهذا الوصف الجاحدين من الكفار والمنافقين إلا انَّه يصدق كذلك على المجترح لكبائر الذنوب وإن لم يكن كافراً أو منافقاً، نعم الظاهر من الآيات وكذلك ما وقفت عليه من الروايات ان وصف الفاسق لا يصدق إلا في فرض الإقامة على ارتكاب الذنوب، فتكرار الاجتراح للذنوب والاستمرار على مقارفتها شرط في صحة اطلاق هذا الوصف على المذنب، وأما مجرد الاجتراح للذنب فإنه لا يصحح ظاهراً وصف فاعله بالفاسق حتى وإن كان ذلك الذنب من الكبائر. نعم اجتراح الذنب الكبير يعدُّ من الفسوق لكنَّ فاعله لا يُوصف بالفاسق إلا في فرض التمادي والإقامة على الذنوب.
وعليه فالمراد من الفاسق الذي حذَّر الإمامُ زينُ العابدين (عليه السلام) من مصاحبته هو المتمرِّد على الله المتجاوزُ لحدوده، الذي لا يرعى لله حرمة، فلا ينزجرُ بزواجرِ الله، ولا يأتمر بأوامره، فهو يرتكب كبائر الذنوب دون أن يكترث، ويستهين بفرائض الله -عزَّ وجلَّ- كالصلاةِ، والصومِ، والزكاةِ، والحجِ، والخمس .. فلا يعبأ بها أو ببعضها، فهو قد يصلي، وقد لا يصلِّي! وإذا صلى فإنه لا يرعى للصلاة حدودها وشرائطها وأوقاتها، وقد يُزكِّي، وقد يُغفل امتثال هذه الفريضة استخفافاً وهكذا هو شأنه في سائر الفرائض، فهو جريءٌ على الله -عزَّ وجلَّ-؛ مستخف بفروضه، لا يجد غضاضةً من اقتراف أيِّ ذنبٍ أُتيحَ إليه أنْ يرتكبَه، ولا يُبالي من أيِّ جهةٍ اكتسبَ من حلالٍ أو حرام، نعم قد يتحاشى بعضَ الذنوبِ لكن وازعَه عن ارتكابِها ليس هو الورعُ والخوفُ من الله عز وجل فهو لا يخشى الله، وليس في قلبِه إجلالٌ وإكبارٌ لعظيمِ شأنه جلَّ وعلا وإنَّما يمتنعُ عن الذنبِ لاعتباراتٍ يجدُها في نفسه، كالخشيةَ من العقوبة مثلاً، أو لأنَّه في مجتمعٍ يستهجنُ هذا الذنبَ ويحتقرُ فاعلَه، أو لأنَّ هذا الذنبَ غيرُ مُتاحٍ له، فهو لا يقدرُ على فعله .. إذن فالذي يمنعُه عن ارتكابِ بعضِ الذنوبِ ليس هو الوازعُ الدينيّ، والورعُ، والخشيةُ من الله جلَّ وعلا، وإنما تمنعُه عن ارتكابِ بعضِ الذنوب موانعُ ليس منها التقوى والخوفُ من الله تعالى. هذا هو الفاسق.
علامات الفاسق:
وقد ورد عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله أنَّ "علاماتِ الفاسقِ أربع: اللَّهوُ، واللَّغوُ، والعُدوانُ، والبُهتانُ"(12)، هذه أربعُ سماتٍ يُعرفُ بها الفاسق:
فالأولى: هي اللَّهو
ومعنى اعتبارِ اللهو علامةً للفاسق هو اعتبارُ تعاطي اللهو دليلاً على فِسقِ مَن يتعاطاه ويُقيمُ عليه، والمرادُ من اللهو بمقتضى مناسباتِ الحكم والموضوع هو خصوصُ ما حرَّمه اللهُ تعالى من الأفعال المعدَّة للعبِ والعبثِ والتي من شأنِها الترويح، فليس المقصود من اللَّهو في الرواية مطلقَ اللعب أو ما يُوجبُ الترويحَ عن النفس، فإنَّ في اللعبِ ما هو مباحٌ وفيه ما هو محرَّم، واللهو الذي يكون علامةً على الفسوق هو خصوصُ ما هو محرَّمٌ من المُلهيات كتعاطي الغناءِ أو حضورِ مجالسِ الغناءِ والطرب، أو الحضورِ لمجالسِ القمار، كمجالس اللَّعب بمثل الورقِ والنرد، والشطرنج، وغيرها من المجالس التي يتمُّ العبثُ فيها واللهوُ بما هو محرَّم.
والعلامة الثانية: هي اللغو
واللغو: هو مطلق الكلامِ المُفضي لهتكِ الأعراضِ أو المُوجبِ للحطِّ من أقدارِ الناس أو دخولِ الأذى على قلوبِهم أو المقتضي لخدش حيائِهم، فهو يصدقُ على مثلِ القذفِ والسُبابِ والهجاءِ والتجريحِ والغيبةِ والنميمةِ والسخريةِ والازدراءِ كما يصدقُ على الفُحش من القولِ، وهي الألفاظُ البذيئةُ الموجبةُ لخدشِ الحياء، وأكثرُ المعاصي الناشئةِ عن جارحةِ اللسان تُعدُّ من اللغو.
وعليه فمفادُ هذه الفقرةِ من الروايةِ الشريفة هو انَّ من العلائمِ الكاشفةِ عن فِسق الواجدِ لها هي اعتيادُ الاستعمالِ للكلامِ الموجبِ لإدخال الأذى على الناس فلا يكاد لسانُه يخلو إما من الغيبةِ أو السُبابِ أو الاستهزاءِ والتنقُّص من أقدارِ الناس، وإذا خاطبَ من أحدٍ دونَه في السنِّ أو القدْرِ فإنَّه لا يرعى له حُرمةً، فقد يزجرُهُ أو يوبِّخُه دون مبرِّرٍ أو يحتقرُه أو يُعيِّرُه، وقد يشتمُه أو يُضحِكُ الآخرينَ عليه
مثلُ هذا الإنسانِ السيءِ كثيرٌ في أوساط المجتمع يُعجبُه ويَروقُ له أنْ ينتقي من الألفاظِ والكلماتِ ما يزرعُ بها الأذى والحزنَ والكآبةَ في قلبِ مَن يُخاطِب، فإذا وجد أثرَ كلامِه الممقوتِ على محيَّا مَن يُخاطبُه شعُرَ بالنشوةِ والاعتزاز، وفي المقابِلِ ثمَّة مَن يَهِشُّ ويبِشُّ في وجهِ من يُخاطبُه، ويختار له من الكلماتِ والألفاظِ ما تقتضي بطبعِها ادخالَ السرورِ والبهجةِ في قلبِ المُخاطبِ، مثلُ هذا يكونُ أقدرَ على كسبِ مودَّةِ الناسِ وتقديرِهم من ذلك الذي يستطيلُ على الناسِ فيكسبُ مقتَهم وازدراءَهم. يقول الله تعالى: ﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ / تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾(13) ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾(14).
العلامة الثالثة: العدوان
والعلامةُ الثالثةِ للفاسق هي العدوانُ. والعدوانُ: يعني التعدِّي على حقوقِ الناس. وللتعدِّي مظاهرُ كثيرة، فقد يكون التعدِّي بالقتل وسفكِ الدمِ الحرام، وقد يكون بسلبِ الأرض، أو سلب الحقوق العامَّة لكنَّ ذلك مظهر من مظاهر العدوان، ولعلَّه من أجلى مظاهره وثمَّة مظاهرُ أخرى كثيرةٌ فمِن مظاهر العدوان أنَّ تجحدَ حقاً عليك لأخيك أو يكونُ له دينٌ فتُماطلُ في أدائه رغم قدرتِك على الوفاءِ به أو تبتزُّه فتُلجأُه إلى التخلِّي عن حقِّه أو تَغشُّه في بيعٍ أو تَغبِنُه في معاملة، أو تُغريه بصفقةٍ كاسدةٍ فتُوهمه أنَّها رابحة، أو يكونُ لك زوجةٌ فتُجحفُها حقَّها أو تخدعُها فتستحوذُ على أموالها أو يكونُ لك جارٌ تضرُّه أو زميلٌ تُوقِعُ به، كلُّ ذلك وشبهِه من العدوان، فإذا اعتادَ الإنسانُ فعله كانَ من الفاسقين.
العلامة الرابعة: البهتان
والعلامةُ الرابعةُ هي البهتان، ورغم أنَّ البهتانَ من مظاهرِ العدوانِ إلَّا أنّ النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله بحسبِ الرواية قد خصَّه بالذكر؛ لبشاعته وخطورةِ أثرِه، ولعلَّه أراد أن يظلّ هذا المعنى حاضراً في ذاكرة المؤمن.
ومعنى البهتان: هو أنْ تتهمَ أخاك بما ليس فيه. فتكونُ قد جمعتَ كَذِباً وإساءةً وظُلماً على أخيك .. وقد تكونُ جمعتَ كذباً وإساءةً وغيبة. فأنْ تفتري على أخيك في محضره أو في ظهرِ الغيبِ لتُسقطُه في أعينِ الناس أو لأيِّ غايةٍ أخرى فذلك هو البهتان، وهو مِن أسوأ مراتبِ الكذب وأبشعِ الظلمِ خصوصاً إذا كان البهتانُ بمُوبِقة أو كبيرةِ من الكبائر كأنْ يفتري أحدُهم على أخيه بالفجورِ أو بشربِ الخمر أو حتى بما دون ذلك من الذنوب، وكذلك أن تنسبَ لأخيك قولاً لم يقلْه أو رأياً لا يتبنَّاه فإنَّ ذلك من البُهتان، ولا يعتادُ فعلَ هذه الجريرةِ إلا مَن كان من أهلِ الفُسوق.
بعد ذلك يقعُ الكلامُ حولَ الآثارِ المترتِّبةِ على مصاحبةِ الفاسقِ، وهذا ما قد نستعرضُه لاحقاً إنْ شاء اللهُ تعالى
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ / مَلِكِ النَّاسِ / إِلَهِ النَّاسِ / مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ / الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ / مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾(15)
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
19 من ذي القعدة 1436هـ - الموافق 4 سبتمبر 2015م
جامع الإمام الصادق (عليه السلام) - الدراز
1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 12 ص 32.
2- سورة الكهف / 50.
3- سورة البقرة / 197.
4- سورة المائدة / 3.
5- سورة التوبة / 67.
6- سورة التوبة / 96.
7- سورة البقرة / 26-27.
8- سورة الأنبياء / 74.
9- سورة النور / 4.
10- سورة المائدة / 47.
11- سورة البقرة / 59.
12- "وأما علامة الفاسق فأربعة: اللهو، واللغو، والعدوان، والبهتان" بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 1 ص 122.
13- سورة إبراهيم / 24-25.
14- سورة إبراهيم / 26.
15- سورة الناس.