قسوة القلب (1)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي تفرَّدَ بالحمدِ ودعا بِهِ، فهو وليُّ الحمدِ ومَنشئُه، وخالقُه وواهبُه، ملَكَ فَقهَرَ، وحكَمَ فعدَلَ، وأضاءَ فاستَنار، هو كهْفُ الحمدِ وقَرارُه، ومنهُ مُبتدأُهُ وإليه مُنتهاه، استخلَصَ الحمدَ لنفسِه، ورضيَ به مِمَّن حمدَه. فهو الواحدُ بلا نِسبةٍ، الدائمُ بلا مُدَّةٍ، المُتفرِّدُ بالقوَّةِ، المُتوحِّدُ بالقُدرة، لم يزلْ مُلكُه عظيماً، ومَنُّهُ قديماً، وقولُه رحيماً، وأسماؤهُ ظاهرةٌ، رَضيَ من عبادِه بعدَ الصُنعِ أنْ قالوا: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين. وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً (ص) عَبْدُه ورَسُولُه.
عِبَادَ اللَّه اتَّقُوا اللَّهَ واسْتَغْفِرُوه، وتُوبُوا إِلَيْه، فَإِنَّه يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئَةِ، ويَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وإِيَّاكُمْ وصُحْبَةَ الْعَاصِينَ ومَعُونَةَ الظَّالِمِينَ ومُجَاوَرَةَ الْفَاسِقِينَ، احْذَرُوا فِتْنَتَهُمْ وتَبَاعَدُوا مِنْ سَاحَتِهِمْ، واعْلَمُوا أَنَّه مَنْ خَالَفَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ ودَانَ بِغَيْرِ دِينِ اللَّهِ، واسْتَبَدَّ بِأَمْرِه دُونَ أَمْرِ وَلِيِّ اللَّه كَانَ فِي نَارٍ تَلْتَهِبُ، فاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ، واحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
أما بعد فيقولُ اللهُ تعالى في محكمِ كتابِه المجيد: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم:
﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(1) صدق اللهُ مولانا العليُّ العظيم
الحديثُ إنْ شاء اللهُ تعالى حولَ فَقرةٍ واحدةٍ من فَقراتِ هذه الآيةِ المباركة، وهي قولُه تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ﴾(2)
فما هو المرادُ مِن القَسوة؟ وما هو منشأُ التشديدِ في الآيةِ الشريفةِ على مبغوضيَّةِ هذه الصِّفة؟ وكيف صارتِ القسوةُ من مُوجباتِ الضَّلال؟ ولماذا توعَّدتْ الآيةُ الواجدَ لهذه السجيةِ الذميمةِ بالعذابِ الأليم؟ حيثُ قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم﴾(3) ومعنى الويلِ هو الوعيدُ بالعذاب.
المراد من قسوة القلب:
أما المرادُ من قَسوةِ القلبِ من ذكرِ الله تعالى فهو عدمُ خشوعِه، فالقلبُ القاسي هو القلبُ الغليظُ، فهو لغِلظتِه لا تؤثِّرُ فيه الموعظةُ، ولا ينتفعُ بالنصيحة، ولا يستشعرُ الخوفَ والحذرَ من عذابِ الله، وكذلك فإنَّ القلبَ القاسي هو الذي لا تُؤثِّر فيه المشاهدُ المُوجِبةُ بطبعِها للرقَّةِ والشَّفقةِ والرحمة.
فالقلوبُ القاسيةُ هي القلوبُ المتَحجِّرة، والتي شبَّهتْها بعضُ الآياتِ بالحِجارة، قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ﴾(4)، فهنا تُنظِّرُ الآيةُ الشريفةُ القلوبَ القاسيةَ بالحجارة؛ وذلك لأنَّ الحجرَ -وكلُّ جسمٍ صَلب- غيرُ قابلٍ للتأثُّرِ والتفاعُل، بل هو على هيئتِه لا ينكمش ولا ينتفخُ ولا يتقلَّصُ لو غمزته أو ضربته، فهو لا يتفاعلُ بالغمز أو الضَرْبِ، إلَّا أنْ ينكسرَ، أو ينثلمَ، أو يتلاشى. وذلك على خلافِ الأجسامِ المَرِنَة، فإنَّها إذا غُمِزَت تَنغمِز، وإذا حُرِّكت فإنَّها تتفاعلُ مع طبيعةِ الحركة بما يتناسبُ مع الكيفيَّة التي حُرِّكتْ بها.
الفرق بين قسوة القلب وخشوعه:
فالفرقُ بين القلبِ القاسي، والقلبِ الخاشِعِ الليِّن، هو أنَّ القلبَ القاسي كالحجرِ المتصلِّب الذي لا يتأثَّر، أما القلبُ الليِّنُ النابضِ بالحياة فهو كالجسمِ المَرِن، يتفاعلُ مع الموعظة، ويتأثرُ بالنَّصيحة، ويَرُقُّ حين يقفُ على مشهدٍ مأساوي، ويشعرُ بالرَّحمةِ والشَّفقةِ حين يقعُ نظرُه أو تخطرُ في مخيَّلته معاناةُ الضعفاءِ والمحرومين.
ثم إنَّ الآيةَ الشريفةَ أفادتْ بأنَّ القلوبَ القاسية قد تكونُ أشدَّ من الأحجارِ الصُّلبة! فالحجرُ الصَّلبُ قد يتفجَّرُ منه الماء، وقد يتشقَّقُ فينبُعُ منه الماء، والحجرُ الصَّلب يستجيبُ للأمرِ الإلهيِّ التكوينيِّ فيهبِطُ من السماء -يعني من الأعلى- .. أمَّا القلبُ القاسي، فالأمرُ الإلهيُّ لا يبعثُه، والنهيُ الإلهيُّ لا يَزجرُه، والموعظةُ لا تُحرِّكُ فيه شعوراً بالخوفِ أو الحذَر، والمشهدُ المأسوي لا يُشعرُه بالحُزنِ والأسى، فهو لا يعرفُ معنى العطفِ والرحمةِ، ولا ينتابُه إحساسٌ بالشفقةِ والحَنان، لذلك فبعضُ القلوبِ القاسيةُ حقُّها أنْ تُشبَّهَ بما هو أشدُّ صلابةً من الحجارةِ بمقتضى مفاد الآيةِ المباركة. ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾(5).
مرضٌ ومنشأٌ للأمراض!
ومن ذلك يتَّضحُ أنَّ القسوةَ هي مِن أسوءِ الأمراضِ التي تَعتري القلبَ، ومن أشدِّها فتكاً بدينِ الإنسانِ وانسانيتِه، ذلك لأنَّ القسوةَ منشأٌ -أولاً- للكثيرِ من الذنوبِ، وهي المولِّدُ -ثانياً- للكثيرِ من الأمراضِ القلبيَّة، فحين يُصابُ القلبُ بداءِ القَسوةِ يجدُ الإنسانُ نفسَه غيرَ مبالٍ بأوامرِ الله تعالى وزواجرِه، لذلك فهو يَرتكبُ كبائرَ الذنوبِ دونَ اكتراثِ، وهو على استعدادٍ لأنْ يقترفَ أيَّ ذنبٍ مهما تعاظَم، لأنَّ الذنبَ إنَّما يُرتكبُ نتيجةَ عدمِ الخوفِ من اللهِ تعالى، والقلبُ القاسي لا يستشعرُ الخوفَ من الله .. والذنبُ إنَّما يُرتَكبُ لعدم التَّقوى- والتي هي الحذرُ من عذابِ الله-، والمُبتلى بقسوةِ القلب لا يحذرُ من تحذير الله، فهو لا يثقُ في واقعِه بوعدِ الله، ولا يخشى وعيدَه. كما انَّ القلبَ القاسي هو المولِّدُ أو الحاضنُ لمثلِ داءِ الكِبر والعُجبِ والضغينةِ والأنانيةِ والحسدِ والعديدِ من الأدواءِ القلبيَّة، لذلك كانتِ القسوةُ أسوأَ الأمراضِ التي تعتري القلوبَ.
وهذا هو معنى ما وردَ عن الإمامِ الباقرِ (ع) أنَّه: "ما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبةٍ أعظمُ من قَسوةِ القلب"(6) ويقولُ الرسولُ الكريم (ص) فيما رُويَ عنه: "إنَّ أبعدَ الناسِ من اللهِ القلبُ القاسي"(7) ويقولُ أميرُ المؤمنين (ع) فيما رُوي عنه: "مِن أعظمِ الشَّقاوةِ القَّساوةُ"(8). فالقَساوةُ بحسبِ توصيفِ الرواية شِقوةٌ، كما أنَّ كثيراً من الأمراضِ شقاواتٌ، لكنَّ أعظمَ تلك الشَقاواتِ قسوةُ القلب، فالقلبُ حين يقسو، يُصبحُ واجدُه غيرَ مبالٍ بقطيعةِ رَحِمَه -وهي مِن أشدِّ الذنوب-، وحين يقسو القلبُ، فإنَّ صاحبَه لن يُبالي في أنْ يظلمَ أقرباءَه -فضلاً عن البُعداء- .. فقاسي القلبِ لا يتأثمُ بالظلمِ والبغي والتعدِّي، ولهذا فهو يَحرِمُ الفقيرَ من حقِّه ولا يرى في ذلك غَضاضةً، ويستغفلُ أخاه المؤمنَ فيغُشُّه أو يَغبِنُه أو يحتالُ عليه فيقتطعُ جزءً من مالِه ثم لا يشعرُ بالندم، وقد يسلبُ اليتيمَ أموالَه، بل قد يتعسفُ فيُلحقُ الأذى بمَن هم دونِه ويظلُّ بعد ذلك مبتهجاً راضياً عن نفسه، وقد يجنحُ إلى ما هو أبعدُ من كلِّ ذلك فيسفكُ الدمَ الحرامَ إذا وجد لذلك سبيلاً ثم لا يخشى عاقبةً ولا ينتابه أسف! ولهذا ومثلِه كانت قسوةُ القلوب أعظمَ الشقاوات كما أفادَ أميرُ المؤمنينَ (ع).
بعد ذلك يقعُ الكلامُ في مَحاور:
المحور الأول: حولَ منشأِ إصابةِ القلبِ بداء القَسوةِ، وهل تنشأُ القسوةُ بنشأةِ الإنسان، أم أنَّه يكتسبُها فيما بعد؟
قسوة القلب مرضٌ اكتسابي:
لا اشكالَ ولا ريبَ في أنَّ قسوةَ القلبِ ليستْ من الأمراضِ التي تنشأُ بنشأةِ الإنسانِ، فإنَّ قلبَ الإنسان يُخلقُ طاهراً مُبرأً من الأمراضِ القلبيَّة، مجبولاً على ما تقتضيه الفطرةُ من الأُلفةِ والمحبةِ والرحمة.
فهو ليس كالأمراضِ العضويَّةِ وكذلك هو ليس كالأمراضِ النفسيَّة-فالأمراضُ العضويَّةُ وكذلك الأمراضُ النفسيَّة قد تنشأُ بنشأةِ الإنسان.. فقد يُولدُ الإنسانُ وهو مصابٌ بعاهةٍ من العَاهات، وقد يُخلقُ الإنسانُ وله قابليَّةُ الإبتلاء بمرضٍ نفسانيّ، ولكنَّه لا يُخلقُ قاسيَ القلب، ولا يُخلقُ وهو مُتكبِّرٌ أو حقودٌ أو حسودٌ، فهو يُخلقُ حين يُخلقُ وهو مُعافى من هذه الأدواء، وإنَّما يُبتلى بها؛ نتيجة شِقوتِه، وسُوءِ اختيارِه وأعمالِه، أو نتيجةَ الأجواءِ التي تَحوطُه، والحواضنِ التربويَّة التي تكتنفُه، والثقافاتِ التي يتلقَّاها، وتنشأُ القسوةُ بالدرجةِ الأولى نتيجةَ المقارفةِ للذنوبِ والمعاصي، ويتفاوتُ أثرُ الذنوبِ بتفاوتِ مستوى مبغوضيتِها وشناعتِها كما انَّ للإصرارِ والإقامةِ على الذنبِ أبلغَ الأثرِ في حدوثِ واشتدادِ القسوةِ في القلب.
ومن هنا يتضحُ انَّ الأمراض القلبيَّة -ومنها قَسوةُ القلب- من الأمور المُكتَسبةِ التي يَبتلي بها الإنسانُ نتيجة َسوءِ اختياره، فليس لأحدٍ أنْ يقولَ: هكذا أنا، خُلِقتُ قاسيَ القلب! فإنَّ ذلك لا يصحُّ، فالإنسانُ لا يُخلقُ قاسيَ القلب، بل يطرأُ عليه هذا الداءُ لسوءِ صنيعه وقبيح عملِه. ولذلك ورد في القرآنِ الكريم في سياق الحديث عن بني إسرائيل قولُه تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾(9) فابتلاءُ هؤلاءِ بقَسوةِ القلوبِ نشأ عن نقضِهم للمواثيق، والتي هي من الأفعالِ الصادرةِ عن الإنسان بمَحضِ اختيارِه، فهم مَن اختاروا لأنفسِهم الوقوعَ في داءِ القَسوة وذلك بنقضهم للعهود التي قطعوها على أنفسِهم.
وثمةَ آيةٌ أخرى لعلَّها أصرحُ من السابقة وهي قولُه تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(10) فرَيْنُ القلبِ تعبيرٌ آخرُ عن القَسوة، ذلك لأنَّ معنى الرَيْنِ هو الغشاءُ الغليظُ أو هو الصَدأُ الذي يعلو الشيءَ فيحجبُه، وقد أفادتِ الآيةُ المباركةُ أنَّ الرَيْنَ الذي غشيَ قلوبَهم نشأ عمَّا كانون يكسبون ويجترحون.
القسوة المكتسبة يمكن أن تشتدّ، ويمكن أن تزول:
ثم إنَّ القسوةَ ليستْ على مرتِبةٍ واحدة، بل هي على مراتبَ متفاوتةٍ مِن حيثُ الشِدَّةُ والضعف، فقد يبلغُ الإنسانُ مرتِبةً من القسوة، بحيثُ يُصبحُ فيها كالحجرِ الأصمّ؛ لا يسمعُ؛ ولا يُبصرُ ولا يُشعرُ، فسواءٌ عندَهُ القتلُ والأكلُ، والماءُ والدم، بل قد يأنسُ بمشاهدِ البؤسِ ومظاهرِ الشرور أكثرُ من أنسِ الأسوياء بمشاهدِ البهجةِ والسرورِ ويغتبطُ بمقارفةِ الذنوب أكثرُ من اغتباطِ الصالحينَ بالطاعات، مثل هذا على درجةٍ متقدِّمةٍ من القسوة، ولهذا لا يُرجى فيه خيرٌ، ولا يُنتظرُ منه عودة، بل إنَّ تعاقبَ الإيام لا تزيده إلا انتكاساً وارتكاساً في المُوبِقات.
وقد يُبتلى الإنسانُ بمرتِبةٍ من القَسوة، فهو لا يتَّعظ بالمواعظ، ويظلُّ سادراً غافلاً يرتكبُ بعضَ الذنوبِ ولكنَّه يتأثمُ من بعضِها، يتعدَّى فيظلمُ، ولكنَّه قد يتأثرُ فيبكي أو يستشعرُ الحزنَ حينَ يقفُ على مشهدٍ مأساوي، مثلُ هذا الإنسانِ لا زالَ في قلبِه بقيةُ حياة، فعليه أنْ يحذرَ، فإنَّ الموتَ الكليَّ للقلبِ لا يتمُّ دُفعةً واحدة، بل هو على مراحل. وإذا كان القلبُ ينعمُ بمرتبةٍ من الحياة فإنَّ هذه المرتِبة قادرةٌ على بَعثِ الحياةِ إلى المواقعِ الميِّتةِ من القلب، ولهذا فينبغي لمثلِه أن يستثمرَ ما بقيَ من حياةٍ في قلبِه، فيتخذُ كلَّ ما يصادفُه وسيلةً للتنبُّه والاتَّعاظ، فإنَّ صروفَ الأيامِ مليئةٌ بالمواعظِ والزواجرِ والمنبِّهات، وليس على العاقلِ سوى الإصغاءِ إليها بقلبه، وحينذاك سوفَ يحيى ما كان قد ماتَ منه، فالعقلاءُ الحريصونَ على حياةِ قلوبِهم لا يكونُ مثلاً موتُ الأصدقاءِ أو الأقرباءِ حدَثاً عابراً، وحين يُصابُ أحدُهم بمرضٍ بل وبخدشٍ فإنَّ حِرصَه على معالجةِ ذلك المرض أو ذلك الخَدشِ ليس بأشدَّ من حِرصِه على استثمارِ ما أصابه لإحياء ما عطَب من قلبِه ومشاعرِه، فهو يتخذُ من كلِّ مصيبة أو ملمَّةٍ بل ومِن كلٍّ عارضٍ خطيرٍ أو حقيرٍ وسيلةً للتذكُّرِ والتنبُّهِ والاتَّعاظِ، ولهذا نجدُ في المأثوراتِ عن ذوي الحكمة قولَهم: إنَّ الشيبَ نذيرُ الموتِ وسولُه(11)، فمِثلُ هذا العارضِ الذي لا يكترثُ ولا يعبأُ به الكثيرُ من الناس يتخذُ منه العاقلُ المومنُ وسيلةً للتنبُّه والاتَّعاظ، ونجدُ فيما ورد عن الإمامِ الصادق (ع) انَّه قُدم له طعامٌ، فحينَ مسَّهُ وجدَه حارَّا، فرفعَ يدَه وهُوَ يَقُولُ: "أَسْتَجِيرُ بِاللَّه مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللَّه مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللَّه مِنَ النَّارِ، هَذَا مَا لَا نَصْبِرُ عَلَيْه فَكَيْفَ النَّارُ، هَذَا مَا لَا نَقْوَى عَلَيْه فَكَيْفَ النَّارُ، هَذَا مَا لَا نُطِيقُه فَكَيْفَ النَّارُ، قَالَ: وكَانَ (ع) يُكَرِّرُ ذَلِكَ(12). مثلُ هذه الروايةِ الشريفةِ تُعبِّرُ عن انَّه ينبغي للمؤمنِ العاقلِ أن يتَّخذَ من كلِّ ما يُصادِفُه وإن كان حقيراً وسيلةً للتذكُّرِ والاتَّعاظ.
فالقلوبُ كما ورد عن الرسولِ الكريمِ (ص) تَصدأُ كما يَصدأُ الحديد، وجلاؤها يكونُ بمثلِ تلاوةِ القرآنِ والتأملِ الصادقِ في المآلاتِ وعواقبِ الأمور.
ونستكملُ الحديثَ فيما بعد إن شاء الله تعالى.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ / وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(13)
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
23 من محرّم 1437هـ - الموافق 6 نوفمبر 2015م
جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز
1- سورة الزمر / 22.
2- سورة الزمر / 22.
3- سورة الزمر / 22.
4- سورة البقرة / 74.
5- سورة البقرة / 74.
6- تحف العقول عن آل الرسول (ص) -ابن شعبة الحراني- ص 296.
7- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 12 ص 194.
8- عيون الحكم والمواعظ -علي بن محمد الليثي الواسطي- ص 469.
9- سورة المائدة / 13.
10- سورة المطففين / 14.
11- "إن الشيب قد عم الرأس، وهو نذير الموت" تفسير مجمع البيان -الشيخ الطبرسي- ج 6 ص 401.
12- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول -العلامة المجلسي- ج 22 ص 149.
13- سورة العصر.