وقائع فتح حصون خيبر - 2
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد -اللهم صل على محمد وآل محمد-، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهمَّ أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وأفتح علينا أبواب رحمتك، وانشرْ علينا خزائن علومِك.
استكمالًا للحديث حول فتح حصون خيبر وهي المعركة التي وقعت في السنة السابعة من الهجرة، وهي من المعارك الإسلاميَّة الفاصلة التي كان لها الدور الأبرز في تثبيت بُنى الدولة، فإنَّ فتح حصون خيبر قد أمَّن المسلمين من بقايا اليهود الذين كانوا يشكلون الخطر الأكبر بعد قريش وحلفائها، فلم يعُد اليهود بعد فتح حصون خيبر يشكِّلون خطرًا يُذكر على الدولة الإسلاميَّة، وكذلك فإنَّ فتح خيبر أسهم في تحسين الوضع القتالي والمعيشي للمسلمين وذلك لما غنموه من عتاد ومواقع ومؤن، وثمة العديد من الآثار لسنا بصدد البيان لها في هذه الجلسة.
الموقع الجغرافي لحصون خيبر:
قلنا إنَّ خيبر والتي تبعدُ عن المدينة بما يقرب من 170 كيلو متر، كانت مشتملة على حصونٍ سبعة أو ثمانية حصون وهو الأصح موزعة على ثلاثة مناطق:
المنطقة الأولى: يُقال لها النطاة، وفيها ثلاثة من الحصون، حصن ناعم، وحصن الصعب، وحصن القلَّة. ويتَّصل بهذه المنطقة منطقةٌ أخرى تسمى بمنطقة الشرق، وهي مشتملة على حصنين: الحصن الأول يسمَّى بحصن أُبي، والآخر يسمى حصن البريد.
وعلى بُعدِ كيلو متر واحد من منطقة الشرق، هناك منطقة ثالثة تُسمَّى بمنطقة الكتيبة، هذه مشتملة على ثلاثة حصون، الحصن الأول يسمَّى بحصن القموص، والثاني يسمَّى بحصن السلاليم أو السلالم، والحُصن الثالث يسمَّى بحصن الوطيح.
هذه الحصون الثلاثة متقاربة، وهي على مرتفعٍ من الأرض بينها وادٍ مشتمل على أربعين ألف نخلة يملكُها اليهود، هذه النخيل تُحيط بالحصون الثلاثة التي هي حصن القموص وهو أقوى الحصون وأمنعها والذي لو أنهار من أول الأمر لانهارت خيبر بأكملها، ولكنَّه كان حصنًا منيعًا جدًا، وهو الحصن الذي بقيَ المسلمون ما ينيف على العشرين يومًا يحاصرونه ويبذلون ما يملكون من وسعٍ وجهد من أجل فتحه حتى أعياهم الأمر كما سنوضح ذلك فيما بعد.
تحدَّثنا في جلسةٍ سابقة عن أنَّ النبيَّ (ص) فاجئ اليهود بأنْ جاءهم من الطريق الذي لم يكونوا يتوقَّعونه، وعسكر قرب حصن ناعم، وهو أول الحصون المفتوحة، يعني أول حصنٍ فتحَه المسلمون من حصون خيبر، وقلنا إنَّ هذا الحصن كان فيه جمع من اليهود، وفيه قبيلة غطفان المتحالفة مع اليهود، وكان تعدادهم قرابة الأربعة آلاف فارس بقيادة عيينه بن حصن.
انسحاب قبيلة غطفان قبل فتح حصن الناعم:
لمَّا أنَّ عسكر النبيُّ (ص) قرب حصن ناعم بعثَ سعد بن عبادة للتفاوض مع زعيم قبيلة غطفان على أنْ ينسحبوا ويتركوا المسلمين واليهود، إلا أنَّ عيينه بن الحصن -كما أوضحنا فيما سبق- أبى أنْ يتخلَّى عن اليهود، وأصرَّ على أنْ يبقى في الحصن يُدافع عن اليهود مقابل أنْ يُعطيه اليهود تمر خيبر مدَّة عام كامل، كما بينا ذلك فيما سبق، ولمَّا أنْ رجع سعد بن عبادة وأبلغ النبيَّ (ص) بنتيجة المفاوضات التي كانت بينه وبين زعيم غطفان، وأن زعيم غطفان رفض الانسحاب. أمر النبيُّ (ص) المسلمين أن يتهيأوا لأول معركة عشية ذلك اليوم الذي اتَّضح فيها أنَّ قبيلة غطفان لن تنسحب بعد أنْ قال (ص): إنَّهم سينهزمون كما انهزموا يوم الخندق. لأنَّ قبيلة غطفان كانت من القبائل التي تحزَّبت يوم الأحزاب على رسول الله (ص). كما هو الحال في اليهود، فاليهود أيضًا كانوا ممن مالئ المشركين من قريش على الرسول (ص)، والعديد من القبائل العربية قد مالئت قريش وبعثتْ بكتائب لها تحاصرُ المدينة المنورة، وكان منها قبيلة غطفان. فالنبيُّ (ص) قال للمسلمين: إنَّهم سينهزمون كما انهزموا يوم الأحزاب، يوم الخندق. عبأ الرسولُ (ص) المسلمين وسلم الراية لعليٍّ بن أبي طالب (ع)، ونادى الرسول (ص): ألا ومَن دخل نخل خيبر فهو آمن، فجهر عليٌّ بصوته بهذا النداء.
يبدو أنَّه وقع أمرٌ لم يتفطَّن له المسلمون حينها ولم تتفطن له غطفان، سُمِع صوتٌ - كما يؤكد ذلك رجالٌ من قبيلة غطفان بعضهم أن أسلموا يقولون: نحن سمعنا صوتًا لا ندري أهو من السماء؟! أو هو من الأرض؟! هذا الصوت أدخل في قلوبنا الرعب، مفاده أن قبيلة غطفان يتهددها في مركزها خطرٌ ماحق، وأنه الغوث الغوث، يستغيثون، يقول: سمعنا أصواتًا أرعبتنا وخشينا على قبيلتنا، فركبنا الصعب والذلول وانسحبنا.
ونحن قلنا سابقًا إنَّ الرسول (ص) أكَّد في مواقف عديدة أنِّي نُصرت بالرعب، بالطبع كانت الانتصارات المتلاحقة التي أوقعها الرسول (ص) بالعديد من قبائل العرب، وباليهود من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، هذه الانصارات كان لها تأثيرٌ أيضًا في احداث الرعب لأيِّ قبيلة أو جهة تُريد أنْ تواجه الرسول الكريم (ص).
اختلاف طبيعة المعركة عند حصن الناعم:
بقي اليهود وحدهم في حصن الناعم بعد انسحاب قبيلة غطفان، وكانوا يتوقعون أن تبدأ المعركة في العشيَّة لكنَّها وقعت في اليوم اللاحق بقيادة الإمام عليِّ بن أبي طالب (ع) وقد تمكَّن (ع) من اقتحام الحصن ولم يكن ذلك ميسورًا كما ذكرنا فقد كان الحصن مخندقًا ويقف مقاتلة اليهود من وراء الخندق فكلُّ من أراد أن يواجه اليهود فعليه أن يتجاوز هذا الخندق المحيط بالحصن. وليس هذا وحسب فقد أخذ رماتهم مواقعهم على السطوح والأبراج وفي الشرف، فكانوا يرمون من يقترب من الخندق بالسهام، والنبال، والحجارة والقصب المشتعل بالنار، فالمعركة كانت في غاية الصعوبة لم يكن قد اعتاد عليها المسلمون أصلًا، المسلمون، فالحروب التي خاضزها كانت جيشًا في مقابل جيش، تكون فعلى كل فردٍ من الجيشين أن يظهر بسالته، وتكون الغلبة للجيش الذي يقتل أكثر أو يصبر على القتال مدَّة أطول فمن يكون كذلك يحسم المعركة لصالحة والمنهزم يكون هو الخاسر، هذه هي طبيعة الحروب والمعارك التي خاضها المسلمون وأما هذه المعركة فلها حساب آخر وطريقة مختلفة لم تكن معهودة لهم
فتح اليهود باب حصن الناعم، وخرج منه مجموعة من الفرسان على رأسهم مرحب، والحارث أخو مرحب، ورجل يسمَّى ياسر، وآخرون من الفرسان ال المتميزين بالبأس وقفوا جميعًا بين باب الحصن وبين الخندق. فإذا أراد المسلمون أن يقتحموا الحصن فعليهم أولًا أن يؤمنوا أنفسهم من الرماة وذلك صعب جدًا فالرماة محيطون من أعلى بأطراف الحصن فكل من أراد أن يعبر الخندق أو يقترب منه سوف ييكون هدفًا للسهام وقصب النار والحجارة وقد أصابت السهام العديد من المسلمين، ولو تمكن بعضهم من صدِّ ما يصله من السهام وتمكن بعد من من عبور الخندق فإنَّ عليه أن يواجه الفرسان المحيطة بباب الحصن.
كانت الراية بيد علي بن أبي طالب (ع) وكان فرسان اليهود يدعون للبراز، ولكن بطريقة غير منصفة، كيف تدعو فارسًا آخر أن يبرز إليك وبينك وبينه خندق! وإذا أراد أن يعبر الخندق رميتموه بالحجارة وبالجزل وبالنار وبالسهام، فالمعركة لم تكن شريفة، ولم يعهدها العرب.
اقتحام عليٍّ للخندق وفتحه لحصن الناعم:
ولكنَّه ورغم كلِّ ذلك بدأ علي (ع) المعركة، واقتحم وحده الخندق، فكان أمامه الحارث فبرزَ له عليٌّ (ع) وكانت الجولة محسومة، فلم يمهله حتى قتله ثم قتل بعده اثنين أو ثلاثة، ولم يبرز مرحب في هذه الجولة، فقد دبُّ الرعب في قلبه وقلوب مَن بقي من فرسان اليهود فبادروا للدخول إلى الحصن وأحكموا إغلاقه، بقي عليٌ (ع) عالقًا بين الحصن وبين الخندق، فالمسلمون من عبور الخندق، والحصن قد تمَّ إغلاقه فلم يبق أمام عليٍّ (ع) الرجوع ريثما يتمكن المسلمون من فتح الحصن لكنَّ عليًّا (ع) لم يعتد الرجوع، عليٌ لا يرجع، عليٌ لا يرجع، أمسك بحلقة الباب، يقول اليعقوبي: كان سمك الباب ذراع وكان ارتفاعه أربعة أذرع، فأمسك به واجتذبه حتى اقتلعه اقتلاعًا من أصوله، فأصاب اليهود حالةً من الذهول، ودبت الفوضى بين صفوفهم، دخل عليٌّ (ع) وبدأ يحصدُ ويحطمُ كلَّ مَن اعترض طريقه، حدثتْ فوضى في أوساط اليهود فتمكَّن المسلمون من عبور الخندق بعد أن أخلى الرماة مواقعهم وبذلك سقط الحصنُ في أيدي المسلمين، وهذا أولُ حصنٍ يسقطُ في أيدي المسلمين. وبقي على المسلمين حصونٌ سبعة يتعين على المسلمين العمل على إسقاطها. هم الآن في منطقة النطاة، وفيها ثلاثة حصون، فُتح الآن حصنٌ واحد.
بعد ذلك اتَّجه المسلمون إلى حصن الصعب -اسمه حصن الصعب- كان مجاورًا لحصن االناعم في منطقة النطاة، وقلنا إن لكل حصنٍ منافذ ومخارج للطوارئ، فإذا شعروا بالخطر خرجوا منه ودخلوا حصنًا آخر، فمَن سلم من حصن الناعم التحق بحصن الصعب، لم يكن حصن الصعب أمنع من حصن الناعم، كان فيه خمسمائة مقاتل فقط، وكان أشبه بالمستودع للمؤن، فيه الكثير من السمن وفيه الكثير من الشعير والتمر والحنطة، وغيرها من المؤن، ولم يكن فيه من المقاتلين سوى خمسمائة مقاتل ومن التحق بهم من اليهود الذين كانوا في حصن الناعم.
محاصرة حصن الصعب وقتل عليٍّ (ع) لأقوى فرسانه:
حاصر المسلمون حصن الصعب أيامًا -وسوف نختصر الحديث لضيق الوقت- اخذوا يتأملون كيف يمكن اقتحامه، أمر النبيُّ (ص) بعدها باقتحام الخندق أو العبور إلى الحصن من الجهة التي لم تكن مخندقة وكان ذلك يكلفهم التعرُّض لسهام الرماة وقد أصيب بعضهم وقتل آخرون لكنَّهم استطاعوا العبور إلى الحصن وقفوا قريبًا منه وطال وقوفهم بعدها خرجت مجموعة من مقاتلة اليهود فاشتبكت بالمسلمين الذين عبروا الخندق وحين وجد اليهود أن لا طاقة لهم على الاستمرار دخلوا الحصن وأغلقوه في وجه المسلمين
بقي المسلمون أيامًا يحاصرون الحصن ثم اقتضى رأي اليهود أن يفتحوا باب الحصن ليعملوا على فكِّ الحصار فخرج منه جمع الفرسان وقفوا عن باب الحصن وكان من بينهم رجل يسمى عامر طويل القامة فقال النبيُّ (ص): أترونه خمسة أذرع، كناية عن طوله، يقول كأن طوله خمسة أذرع، أخذ يدعو للبراز، كان رجلًا جسيمًا وقد تدرع بدرعين وقد أحجم عنه الناس، كان عليٌّ (ع) واقفًا إلى جنب الرسول (ص) فأشار إليه أن ابرز له، فبرز له علي (ع) ضربه علي (ع) ضربات، لم تؤثر فيه، بعد ذلك ضربه على ساقيه فبرك، كان مربوعًا وكان اليهودي طويلًا لذلك ضربه على ساقيه فعقره، فبرك الرجل على الأرض، يعني كأنَّه قدم لعليٍّ رأسه فضربه ففلق هامته وحُسمت المعركة ([1]). حينما يُقتل الكبار ينهار الصغار، وهذا ما وقع، سقط حصنُ الصعب، وسقط وبعده حصن القلة.
سقوط حصون خمسة وتكليف عليٍّ (ع) بحمايتها:
قلنا إنَّ هذه الحصون الثلاثة تتصل بمنطقة ثانية، وهي منطقة الشقة، ومنطقةُ الشقة مشتملة على حصنين: حصن أُبي، وحصن البريد، تم فتحها بهذه الطريقة: اشتباكات محدودة، ومبارزات ثم يتم فتح الحصن، وفُتحت حصون خمسة، ثلاثة حصون في منطقة النطاة، واثنين في منطقة الشقة.
بعد أنْ انتهت المعارك المتَّصلة بهذه الحصون الخمسة واستقرَّ الأمر، أمر النبيُّ (ص) عليًا (ع) أن يمكث في هذه المنطقة، وزحف النبيُّ (ص) بالمسلمين إلى منطقة الكتيبة والتي هي مشتملة على ثلاثة حصون، منها حصن القموص والذي هو أمنع الحصون، وقلنا إنَّه يحيط بهذه الحصون وادٍ يشتمل على أربعين ألف نخلة لليهود.
مكث الإمام علي (ع) مع جماعة من المسلمين في تلك المنطقة، لم تكن بعيدة، قلنا إنَّها تبعد تقريبًا كيلو متر أو أكثر أو أقل، وكان من بقاءه هو حماية الحصون المفتوحة خشية أن يكون ثمة كمين أو لعل مددًا يفاجئهم من حيث لا يحتسبون، لذلك يتحتم بقاء جماعة من المسلمين لحماية الحصون الخمسة المفتوحة لذلك جعل النبيُّ (ص) عليَّ بن أبي طالب (ع) قيمًا على تلك المنطقة المفتوحة مع عدد من المسلمين وزحف هو ببقية المسلمين إلى منطقة الكتيبة التي تبعد مقدار كيلو متر عن المناطق المفتوحة.
محاصرة المسلمين لحصن القموص:
فأولُ حصنٍ حاصره المسلمون هو حصنُ القموص، وقلنا إنَّه لو يتم اسقاط حصن القموص تسقط معه بقية الحصون، كان حصنًا منيعًا، وكان فيه أكثر رجالات اليهود، اليهود يقدر عددهم بعشرة آلاف يهودي، وعدد يهود خيبر يقدره البعض بعشرة، ألاف وبعضهم يقدره بأربعة عشر ألف يهودي، متوزعين على الحصون السبعة أو الثمانية، المقاتلون منهم بضعة آلاف، والبقية أطفال ونساء وعجزة وشيوخ و، فالمقاتلون كانوا قرابة الأربعة آلاف. وكانت المنعة الأساسية تكمن في إحكام البناء، ومن حيث ارتفاعه ومن حيث السعة، ومن حيث العتاد، ومن حيث تموضع المقاتلين وارماة، كان أكثرهم في حصن القموص، وكان خندقه أكبر وأوسع كما يقتضيه اعتماد اليهود عليه، فلابد تكون تحصيناته أكبر.
عسكر المسلمون قبل الحصن بمسافة حتى لا يكونوا في مرمى الرماة، فبينهم وبين الحصن تلال وآكام بحيث لا تصلُهم سهام الرماة، عسكروا حول الحصن وضربوا الخيام عازمين على محاصرة اليهود ومنع المدد عنهم.
العجز عن اقتحام حصن القموص قرابة العشرين يومًا:
وكان النبيُّ (ص) في كلِّ صباح يُصلِّي بالمسلمين ويعبؤهم ويأمرهم بالعمل على اقتحام حصن القموص، لم يكن يذهب معهم بل كان يعقد الراية لأحدهم ويبعث معه أكثر من معه من المسلمين، كان ذلك هو ديدنه معهم في كلِّ يوم على مدار بضع وعشرين يومًا. فيومًا بعث سعد بن عبادة فرجع جريحًا محمولًا، وأصيب بعض من كان معه أصابتهم سهمام الرماة ودمغت بعضهم الحجارة التي يقذفون المسلمين بها، وبعث الزبير بن العوام ثم عاد بمن معه خائبًا، وبعث أبا بكر بالمسلمين فرجع خائبًا، يُجبِّن أصحابه ويجبنونه وبعث طلحة فما لبث حتى رجع خائبًا، وفي كلِّ يومٍ يبعث قائدًا من القواد مع المسلمين فيرجعون، يُجبِّنهم ويجبنونه، أو يرجع محمولًا كما وقع لسعد بن عبادة، وبعث عمر بن الخطاب -كما في مجمع الزوائد للهيتمي- فما لبث أن عاد بالمسلمين، يُجبِّنهم ويُجبِّنونه، ويُوبِّخهم ويُوبخونه ([2]).
عشرون يومًا -أو يزيد- يذهب المسلمون إلى الحصن ثم يعودون خائبين حتى انهارت معنويات المسلمين، وأخذت معنويات اليهود في الارتفاع، في أول الأيام لم يكن اليهود يخرجون من باب الحصن ثم أخذوا يخرجون وعلى رأسهم مرحب من باب الحصن، ويقفون بين باب الحصن وبين الخندق، يدعون المسلمين للمبارزة، هذا لأنَّ معنوياتهم بدأت ترتفع، وبدأت معنويات المسلمين تنهار.
الرسول (ص) يُقسم بأنَّه سيُعطي الراية رجلًا لا يفر:
غضب النبيُّ (ص) وعبر عن استيائه، في كلِّ يوم تذهبون ثم ترجعون فاريين منهزمين، والذي كرَّم وجهَ محمدٍ لأُعطينّ الراية رجلًا لا يفر، قال ذلك في الليل بعد رجوعهم، وكانت الراية في يده، قال: من يأخذُها بحقها، فجاء الزبير فقال (ص): أمط، وجاء أبو بكر فقال له: أمط، أميطوا عني، كان مغضبًا يقول (ص): أميطوا عني، "لأعطينّ الراية غدًا رجلًا يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسولُهُ كرارٌ غير فرار، يفتحُ الله على يديه"([3]).
تطاولت الناس ومدُّوا الأعناق، كلٌّ يرجو أنْ يكون هو المعني بهذا الوسام النبويِّ وجال في خلَد قريش أنَّ الرسول (ص) لا يقصدُ عليًا (ع) لأنَّ عليًّا (ع) في منطقة الشقة والنطاة مكلَّف بحماية الحصون الخمسة التي تمَّ فتحها، وقد أصيب بالرمد، يقول عمر يقول: ما أحببت الرئاسة إلا في ذلك اليوم.
يقول سعد بن أبي وقاص: لما أصبح الله الصباح وصلَّينا مع رسول الله (ص)، جلستُ جاثيًا على ركبتي أتطاول لأُري وجهي لرسول الله (ص) لعلَّه يختارني، لأن الرسول (ص) قد لمن سيكلف بالمسير إلى الحصن وسامًا كبيرًا غير مسبوق: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يحبُّ الله ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسولُهُ كرارٌ غير فرار"، ثم وعد بوعدٍ لا يتخلف، "يفتح الله على يديه"، يقول سعد: فتطاولت أعناق قريش والمهاجرين والأنصار، كلٌ يطلبها ويتمنَّاهالنفسه، فحين فرغ الرسول (ص) من صلاته قال: أين علي. فضجَّ المكان إنَّه مصاب بالرمد يا رسول الله، قال: نادوا عليًا، فذهب، بعضهم قيل: إنَّه طلب من سلمان وأبي ذر أن يناديا عليًا، وبعضهم قال: إنَّه طلب من سلمة بن الأكوع، خرجوا فجاؤوا فجاؤوا بعليٍ (ع) يقاد، لا يكاد يبصر الطريق، فسأله النبيُّ: ما بالك يا علي؟ قال: أصابني الرمد بعد فراقك، فالنبي (ص) اضجعه ووضع رأسه على فخده ثم أخذ من ريقه ووضعه على عيني أمير المؤمنين (ع) ودعا له، فقام وكأنَّه ليس به من سوء ([4]).
في هذه الأثناء قال حسان بن ثابت قال: تأذن لي يا رسول الله أن أقول شعرًا؟
قال: تفضل. قال:
وكان عليٌ أرمد العين يبتغي ** دواءً فلما لم يحس مداويا
شفاه رسول الله منه بريقه ** فبورك مرقيًا وبورك راقيا
يحب إلهي والرسول يحبه ** به يفتح الله الحصون الأوابيا ([5])
النبيُّ (ص) يكلِّف عليًّا بفتح حصن القموص:
بعد ذلك الرسول (ص) عمَّم عليًا بعمامته، وشدَّ ذا الفقار على وسطه، وقال: اذهب على اسم الله وافتح حصن هؤلاء، واكفني مرحبًا، كان مرحب محلَّ اهتمامٍ من الرسول (ص) قال: واكفني مرحبًا.
يقول سعد بن أبي وقاص: فأخذ عليٌ السيف والراية فذهب يهرول، فقلتُ: إربع يا أبا الحسن، يلحقُك الناس، فلم يلتفت إلى أحد، يقول جابر بن عبدالله الأنصاري: فما انتظر بنا علي حتى نلبس سلاحنا، وفي الروايات أنه فتح حصن القموص قبل أن يتكامل الجيش ليصل إلى موضع الحصن ([6]).
وقعت أحداث عديدة عند حصن القموص، أهمها أنه كما يقول أبو سعيد الخدري وغيره: جاء عليٌ حاملًا رايته مسرعًا مهرولًا ثم غرسها عند الحصن في رضم -يعني في مجمعٍ من الحجارة الصغيرة-، ركزها في رضم، وما لبث أنْ اقتحم الخندق، لم ينتظر، ولم يكن يبالي بما ترميه به اليهود من السهام والنبال، وكانت كرش المطر، يقول بعض الرواة: كأنَّها الجراد، لكثرتها وتلاحقها لكنَّ عليًا لم يكن يعبأ ولم يكن يكترث، فكان كما كان يوصي ابنه محمد بن حنفية يوم الجمل حين سلَّمه الراية فجاءته السهام كرشق المطر، قال له: ارمق ببصرك أقصى القوم، عضَّ على ناجذك، تد في الأرض قدمَك، أعر الله جمجمتك واعلم أنَّ النصر من عند الله. بهذا الشعور تستطيع أن تقتحم، أما أن تتلكأ وتتردد فإنك لن تصل إلى غاية ويوم تلكأ وحين تلكأ ابن الحنفيَّة، جاء إليه وضرب على كتفه وقال له: أدركك عرقٌ من أمك. ابنُ عليٍّ لا يتلكأ([7]).
عليٌّ (ع) يقتحم الخندق ويقتلُ مرحبًا:
اقتحم علي (ع) الخندق دون أن يرعى أهمية لكل الرشق الذي كان يتلاحق عليه، فكان أمامه مرحب، هذه هي العقبة الثانية الكؤود. مرحب كان رجلًا جسيمًا رفيعًا، وكان هو المعوَّل عليه في القتال وقد أرهق المسلمين بجولاته وشدَّة بأسه، وكان قتله موجبًا لانكسار شوكة اليهود، كانت على رأسه خودة منحوتة من صخر، وكان دارعًا تارسًا وبيده سيف وفي الأخرى رمح، وكان حوله مجموعة من الفرسان تقدَّم للمبارزة، فوعظه الإمام علي (ع) ونصحه بأن يدخل في الإسلام، وأن يشهد الشهادتين فسخِر من علي بن أبي طالب (ع)، عندها بدأت المجاولة وكانت سريعة لم يمهله عليٌ (ع) حتى ضربه على رأسه ففلق تلك الخودة الصخرية، وبلغ السيف أضراسه وقال بعضهم بلغ سيف عليٍّ ظهر جواد مرحب. كذلك كانت ضرباتُ عليٍّ إذا علا قدَّ وإذا توسط قطَّ ([8]).
انكسر جيش اليهود، ودخل من كان مع مرحب إلى الحصن وأغلقوا الباب، تقول أم سلمة -أم سلمة كانت في المعسكر-: سمعنا صوت مرحب قد ضجَّ منه وادي خيبر. يعني بعد أن ضربه علي بن أبي طالب صرخ بأعلى صوته، تعبيرًا عن شدَّة الألم الذي انتابه حتى ملأ ضجيجه أجواء خيبر فبلغ إلى مخيم ومعسكر المسلمين والذي تفصله عن الحصن تلالٌ وآكام أم سلمة كانت هي الوحيدة من نساء النبيِّ حضرت خيبر ([9]).
عليٌّ (ع) يقتلع باب خيبر فيسقط حصن القموص:
سارع اليهود فأغلقوا حصن القموص وأحكموا الإغلاق، وقف جمع من فرسانهم خلف الباب من الداخل، وجاءت النبال والسهام والنيران من كل حدب وصوب نحو عليٍّ (ع) كل النبال والسهام والحجارة صار مركزها علي بن أبي طالب، يريدون أولًا أن ينتقموا لمرحب، وثانيًا كان هو وحده الذي وصل وعبر الخندق لذلك قصدته النبال والسهام من كلِّ جهة يقول المؤرخون: كان هناك باب صغير من حديد، في بطول رجل أو أكبر، أخذه علي وتترس به ثم جاء إلى حلقة باب حصن القموص ليعالج قلعه، تقول صفية بنت حي بن أخطب، زوجة النبي أم المؤمنين (رضوان الله عليها)، هذه كانت في الحصن، كانت بنت حي بن أخطب زعيم اليهود، كانت في الحصن، تقول: كنت في شرفة -بعد مقتل مرحب- مع النساء فحين أمسك عليٌّ بحلقة أو بعضادة الباب وهزه اهتز له الحصن بأكمله حتى قلنا إنَّه قد وقعت زلزلة، هكذا تروي صفية ويروي آخرون، تقول شعروا كأنما زلزلة قد وقعت، اهتزَّ الحصن بأكمله لم يكونوا يتوقعون أن ذلك كان بفعل هزِّ باب الحصن لأن بنيان الحصن قد ارتجَّ بأكمله كله اهتز تلك هي المحاولة الأولى.
يقول: فأخذ عليٌ (ع) يعالج الباب حتى اقتلعه، اقتلع أمام ذهولٍ من اليهود، كيف يمكن اقتلاع هذا الباب؟ كان بابًا عظيمًا جدًا، قدّر المسلمون المقلُّ منهم أن الذي يفتحه عشرون، والذي يحمله أربعون. وأما جابر بن عبدالله -كما في رواية أحمد بن حنبل- قال: لا يحمله أقل من سبعين رجل، تحت ضغط الرمي المتلاحق، وعليٌ (ع) يريد أن يحمي نفسه وفي ذات الوقت يريد أن يقتلع الباب، تصوروا الموقف، مذهل! فلذلك أثر عن عليٍّ أنَّه قال: "والله ما قلعت باب خيبر، ودكدكت حصن يهود بقوة جسمانية بل بقوة إلهية" وقال في رسالته إلى سهل بن حنيف (رحمه الله): والله ما قلعت باب خيبر ورميت بها خلف ظهري أربعين ذراعا بقوة جسدية، ولا حركة غذائية، لكني أيدت بقوة ملكوتية، ونفس بنور ربها مضية"([10]).
بعد ذلك وجد اليهود أنفسهم وجهًا لوجه مع عليِّ بن أبي طالب (ع)، رمى بالباب، والمسلمون عالقون وراء الخندق، دخل عليٌّ (ع) الحصن وحده، فواجه عددًا من الفرسان، قتل منهم سبعةً فتحاشاه الباقي وتموضعوا استعدادا للقتال، وفي هذه الأثناء رجع عليٌّ (ع) إلى الباب -حتى تعرفون حجم الباب- حمل عليٌّ الباب ووضعه جسرًا للمسلمين فوق الخندق ([11])، فعَبَر المسلمون الخندق بكل هدوء وسلاسة، وألفوا حصنًا مفتوحًا، وفرسانًا كانوا يحمون الحصن قتلى، والأحياء منهم لم تعُد لهم طاقة على القتال فقد أوهن الرعبُ قواهم، دخل المسلمون الحصن ليجمعوا الغنائم، وهكذا انهار حصنُ القموص عن آخره بضربات عليِّ بن أبي طالب (ع)([12]).
والحديث لم ينته عند هذا الحد، ولكن نكتفي بهذا المقدار.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
[1]- المغازي -الواقدي- ج2 / ص657، تاريخ الإسلام -الذهبي- ج2/ 417، سبل الهدى -الصالحي الشامي- ج5 / ص125.
[2]- لاحظ: المصنف -ابن أبي شيبة- ج8 / ص525، كنز العمال -المتقي الهندي-، المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص38، مجمع الزوائد -الهيثمي- ج6 / ص151، رسائل المرتضى ج4 / ص103، الخصال -الصدوق- ص555، الإرشاد -المفيد- ج1 / 126، الإفصاح -المفيد- ص86.
[3]- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج3 / ص16، مسند أبي يعلى -أبو يعلى الموصلي- ج2 / ص500، المناقب النضرة -المحب الطبري- ج3 / ص150، البداية والنهاية -ابن كثير- ج4 / ص212، مجمع الزوائد -الهيثمي- ج6 / ص151.
[4]- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج1 / ص99، ج1 / ص185، ج4 / ص52، صحيح البخاري -البخاري- ج4 / ص5، ج4 / ص12، ج4، 20، ج4/ ص207، ج5 / ص76، صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج5 / ص195، ج7 / ص120، سنن الترمذي ج5 / ص302، فضائل الصحابة -النسائي- ص16، السنن الكبرى -البيهقي- ج6 / ص362، ج9 / ص107، ج9 / ص131، السنن الكبرى -النسائي- ج5 / ص46، ج5/ ص108، 109، 111، 112، ج5/ ص149، خصائص أمير المؤمنين -النسائي- ص49.
[5]- مناقب علي بن أبي طالب -ابن المغازلي- ص154، الإرشاد -المفيد- ج1/ ص64، مناقب أمير المؤمنين -محمد بن سليمان الكوفي- ج2 / ص499، الوافي بالوفيات -الصفدي- ج5 / ص166.
[6]- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج5 / ص359، الإرشاد -المفيد- ج1 / ص333، مناقب علي ابن أبي طالب -ابن المغازلي- ص152، شرح الأخبار -القاضي النعمان المغربي-، عمدة عيون الأخبار -ابن البطريق- ص153، المعجم الكبير -الطبراني- ج7 / ص35، الرياض النضرة -المحب الطبري- ج3 / ص151، البداية والنهاية -ابن كثير- ج4 / ص212، ج7 / ص373، تاريخ مدينة دمشق- ابن عساكر- ج42 / ص89.
[7]- لاحظ: نهج البلاغة ص43، مروج الذهب -المسعودي- ج1 / ص320، شرح النهج -ابن أبي الحديد- ج1 / ص243.
[8]- لاحظ: مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج5 / ص359، تاريخ الطبري -الطبري- ج2 / ص300.
[9]- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج6 / ص152، المعجم الكبير -الطبراني- ج23 / ص251، الستيعاب -ابن عبد البر- ج4 / ص1939، مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج5 / ص359، تاريخ الطبري -الطبري- ج2 / ص300، المغازي -الواقدي- ج2 / ص653.
[10]- لاحظ: شرح النهج -ابن أبي الحديد- ج20 / ص316، المواقف -الأيجي- ج3 / ص628، الأمالي -الصدوق- ص604، روضة الواعظين -الفنال النيسابوري- ص127، بشارة المصطفى -محمد بن أبي القاسم الطبري- ص294، كشف المراد -العلامة الحلي- ص522.
[11]- تاريخ الإسلام -الذهبي- ج2 / ص412، ج3 / ص626، تاريخ مدينة دمشق- ج42/ ص111، تاريخ الخلفاء -السيوطي- ص184، دلائل النبوة -البيهقي- ج4 / ص212.
[12]- مسند أحمد -أحمد بن حنبل- ج4 / ص52، المصنف -ابن أبي شيبة- ج7 / ص500، ج8 / ص520، الاستيعاب -ابن عبد البر- ج2 / ص787، تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج42 / ص91، الطبقات الكبرى -ابن سعد- ج2 / ص112.