الجمع بين المفاضلة ونفي التفريق بين الأنبياء

شبهة مسيحي:

﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾(1) في هذه الآية هناك رسل مفضلون عند الله، وقد رفع بعضهم فوق بعض درجات ولكن في آيات أخرى يقول القرآن إنه لا فرق بينهم، منها هذه الآية: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(2) وفي آية أخرى: ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾(3) فكيف لا يُفرِّق الله بين أنبيائه ورسله، ثم نراه يُفرِّق ويُفضِّل بعضهم على بعض ويرفع بعضهم على بعضٍ درجات ?؟؟

الجواب:

الحيثيَّة مختلفة:

الحيثيَّة التي نفى القرآن من جهتها التفريق بين الأنبياء مختلفةٌ تماماً عن الحيثيَّة التي أثبت من جهتها التفاضل بين الأنبياء، ومتى إختلفت حيثيَّة الإثبات والنفي كان التناقض منتفياً، وذلك لأنَّ من أُصول الحكم على كلامين بالتناقض هو إتَّحادهما في الحيثيَّة وإلا لم يكن بين الكلامين تنافٍ وتناقضٌ كما أفاد ذلك المناطقة وكما هو واضح بالبداهة.

فحينما يُقال: إنَّ زيداً عالمٌ بعلوم الشريعة مثلاً، ويُقال في موضعٍ آخر: إنَّ زيداً ليس عالماً بعلوم الطبيعة فإنَّه وإنْ تمَّ إثبات العلم لزيدٍ في الكلام الأول ونفيه عنه في الكلام الثاني إلا انَّه ليس بين الكلامين تنافٍ وتناقض، وذلك للإختلاف بين الكلامين في الحيثيَّة والجهة، فإثبات العلم لزيدٍ كان من جهة علوم الشريعة، ونفيُ العلم عن زيدٍ كان من جهة علوم الطبيعة، فما تمَّ الإثبات من جهته مختلفٌ عما تمَّ النفيُ من جهته.

التفاضل في مقامات الأنبياء ولا تفريق في الإيمان بهم:

والأمرُ كذلك فيما ثبتَ من جهته التفاضل بين الأنبياء في القرآن وفيما نُفيَ من جهته التفريق بين الأنبياء، فالتفاضلُ بينهم كان من جهة المقامات والدرجات الإلهيَّة الممنوحة لهم من الله تعالى، فمفاد آية التفضيل انَّ مقامات الأنبياء والمرسلين عند الله تعالى متفاوتة والمنحُ التي منحَهم إياها وشرَّفهم بها متفاضلة، وأما الحيثيَّة التي نفى القرآن من جهتها التفريق بين الأنبياء والمرسلين فهي الإيمان بهم والإقرار بنبوَّتهم ورسالاتهم، فهم جميعاً أنبياءُ الله ورسله، فلا يُقبل من أحدٍ التفريق بينهم في الإيمان، فيؤمن ببعضهم ويكفر أو لايؤمن بالبعض الآخر.

آيات نفي التفريق لا صلة لها بآية المفاضلة:

الآية الأولى وبيان عدم الصِّلة:

فمؤدَّى مثل قوله تعالى: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ هو انَّ الإيمان لا يُقبل من أحدٍ فرَّق بين الأنبياء ومايز بينهم فآمنَ ببعضهم وكفر بآخرين، وظهور الآيات النافية للتفريق في هذا المعنى بيِّنٌ واضح بل هو في غاية الوضوح.

فقوله تعالى: ﴿قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(4) ظاهرٌ في التصدِّي لتلقِين الناس ما يجب عليهم قوله والإقرار به كما هو مقتضى الخطاب بالأمر: ﴿قُولُوا آَمَنَّا﴾ فيكون مؤدَّى الآية المباركة هو لزوم الإعتقاد بما إشتملت عليه من أُصول إعتقادية، وهي الإيمان بالله وما أُنزل على نبيِّه الكريم (ص) وما أُنزل على إبراهيم والأنبياء المذكورين في الآية بأسمائهم، وما جاء به عموم النبيَّين من ربِّهم، ثم أَمرت الآية المباركة الناس أنْ يقولوا: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ففقرة: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ من التَّلقِين الذي أَمرتْ الآية بقوله والإقرار به، فليس هو من الكلام المُستأنَف لله تعالى بقرينة ذيلها ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.

وعليه يكون محصَّل الآية المباركة هو قولوا آمنَّا بالله، وقولوا آمنَّا بما أُنزل إلينا، وقولوا آمنَّا بما أُنزل على إبرهيم والأنبياء المذكورين، وقولوا آمنَّا بما جاء به النبيُّون، وقولوا لانفرِّق بين أحدٍ من الأنبياء ونحن لله تعالى مسلمون.

ومن ذلك يتَّضح انَّ الآية ليست متصدِّية لأكثر من بيان مايجب الإقرار والإيمان به، فأفادت انَّ مما يجب الإقرار به هو الإيمان بعموم الأنبياء وعدم التفريق بينهم، بأنْ يتمُّ الإيمان ببعضهم دون البعض الآخر، فلا صلةَ للآية أساساً بموضوع المفاضلة عند الله تعالى بين ذوات الأنبياء.

الآية بصدد التعريض باليهود والنصارى:

وأما منشأ الأمر بقول: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ فهو التعريض بما عليه اليهود والنصارى من التفريق بين الأنبياء، فقد فرَّق اليهود بين موسى وعيسى ومحمد (ص) فآمنوا بموسى (ع) وكفروا بعيسى (ع) ومحمدٍ (ص) وكذلك غيرهما من الأنبياء، وفرَّق النصارى بين محمدٍ (ص) وبين عيسى وموسى (عليهما السلام) فآمنوا بالإثنين وكفروا بنبيِّ الإسلام (ص) فمفاد الآية انَّ التفريق في ذلك بين الأنبياء ليس هو شأن المتديِّنين حقيقةً بدين الله تعالى بل إنَّ مقتضى التديُّن والتسليم لله تعالى هو الإيمان بجميع أنبيائه ورسله. ولذلك ورد في ذيل الآية قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(5).

الآية الثانية وبيان عدم الصِّلة:

ومما بيَّناه من معنى الآية ومؤدَّاها يتَّضح المراد من نفي التفريق بين الأنبياء في الآية الأُخرى، وهي قوله تعالى: ﴿قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾.

فإنَّ هذه الآية متَّحدة في المفاد والمؤدَّى والسياق مع الآية السابقة، فكلٌّ منهما متصدٍ لبيان مايجب الإقرارُ والإيمانُ به، ومنه الإيمان بعموم الأنبياء وعدم التفريق بينهم من هذه الجهة التي هي مورد التصدِّي في الآيتين، فحيثُ انَّ هذه الجهة هي موضوع التصدِّي في الآيتين لذلك لا يصحُّ إقحام أمرٍ آخر لم تكن الآيتان بصدده وإلا كان ذلك من التعسُّف والتجيير للكلام إلى غير ماهو مسوقٌ له. فأيُّ صلة بين أمر الناس بعدم التفريق بين الأنبياء في الإيمان بهم وبين موضوع المفاضلة عند الله بين ذوات الأنبياء؟!

الآية الثالثة وبيان عدم الصِّلة:

وهكذا فإنَّ الآية الثالثة والأخيرة أجنبيةٌ عن موضوع المفاضلة عند الله تعالى بين الأنبياء، قال تعالى: ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾(6) فالآية كما هو واضحٌ من سياقها بصدد تعداد الأُصول الإعتقادية التي يُؤمن بها الرسول (ص) ومَن آمن معه، فتذكر انَّ من ضمن ما يعتقدون به ويلتزمونه هو الإيمان بجميع الرُسل، فهم لايُفرِّقون في ذلك بين أحدٍ من رُسلِه.

ففقرة: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ تحكي عن واقع حال المؤمنين أنَّهم لا يُفرِّقون في الإيمان بالرُسل بين أحدٍ منهم كما تحكي عنهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه، وذلك بقرينة عود الضمير في "رُُسلِه" على الغائب، ولو كانت الفقرة المذكورة كلاماً مستأنفا لله تعالى لقال: "رُسلي أو رُسلنا" ولم يقل: "رُسله" كما في الآية، وحينئذٍ فأيُّ صلةٍ للآية بموضوع المفاضلة بين الأنبياء؟!

الخلاصة:

والمتحصَّل مما ذكرناه إنَّ آية المفاضلة: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾(7) تقتضي ثبوت التفاوت بين الرُسل في الفضل، ولا يُناقضها ما أفادته آياتٌ أخرى من نفي التفريق بين الأنبياء والرسل، وذلك لإختلاف آية المفاضلة مع آيات نفي التفريق في الحيثيَّة، فآية المفاضلة متصدِّيةٌ لإثبات التفاوت بين الأنبياء في الدرجات والمقامات الإلهيَّة، وأما الآيات النافية للتفريق فهي بصدد الأمر بالإيمان بجميع الأنبياء والرسل والنهي عن الكفر ببعضهم، فمع الإختلاف بين حيثيتي الإثبات والنفي كيف يسوغُ التوهُّم بوجود التناقض ؟! نعم يُسوِّغ ذلك القصور في الفهم أو الإبتلاء بداء المكابرة للحق.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- سورة البقرة الآية 253.

2- سورة آل عمران الآية 84.

3- سورة البقرة الآية 285.

4- سورة البقرة الآية 136.

5- سورة البقرة الآية 137.

6- سورة البقرة الآية 285.

7- سورة البقرة الآية 253.