العصمة لا تلازم الإلجاء والجبر

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ على حِلمِه بعد علمِه، الحمدٌ للهِ على عفوِه بعدَ قُدرتِه، الحمدُ للهِ باسطِ اليدينِ بالرحمةِ، الحمدُ للهِ عالمِ الغيبِ والشهادةِ وهو عليمٌ بذاتِ الصدورِ، والحمدُ للهِ خالقِ الخلقِ وقاسمِ الرزقِ، الحمدُ للهِ الخالقِ لِما يُرى وما لا يُرى، الحمدُ للهِ بجميعِ مَحامدِه، الحمدُ للهِ على جميعِ نعمائِه، الحمدُ للهِ على جميلِ بلائِه على خلقِه بقدرتِه، لا تُدركُه الابصارُ وهو يُدركُ الابصارَ، وهو اللطيفُ الخبيرُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ صلّى الله عليه وآله.

أُوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى اللهِ، واعلموا أنَّ منَ الحزمِ أنْ تتقوا الله. وإنَّ من العصمةِ ألا تَغترُّوا باللهِ. عبادَ الله إنَّ أنصحَ الناسِ لنفسِه أطوعُهم لربِّه، وأغشَّهم لنفسِه أعصاهُم لَه. عبادَ الله إنَّه مَن يُطعِ اللهَ يأمنْ ويستبشرْ، ومن يعصِه يَخِبْ ويندمْ ولا يسلمْ، عبادَ الله سلوا اللهَ اليقينَ، فإنَّ اليقينَ رأسُ الدينِ وارغبوا إليه في العافيةِ، فإنَّ أعظمَ النعمةِ العافيةُ، فاغتنموها للدنيا والآخرةِ، وارغبوا إليه في التوفيقِ، فإنَّه أُسٌّ وثيقٌ.

أما بعدُ: فيقولُ اللهُ تعالى في شأنِ أهل بيتِ النبيِّ (ص): ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(1).

ثمةَ شبهةٌ تترددُ في أذهانِ العديدِ من الشبابِ حاصلُها: إنَّ أئمةَ أهلِ البيتِ (ع) لمَّا كانوا معصومينَ من قِبَل اللهِ تعالى أفلا يستلزمُ ذلكَ انَّهم مجبورونَ على تركِ المعصية، فهم لا يعصونَ اللهَ تعالى أبداً لأنَّ اللهَ قد عصَمهم من الزللِ، وكذلكَ هو الشأنُ في الأنبياء؟ وإذا كانتِ العصمةُ تستلزمُ الجبرَ والإلجاءَ فحينئذٍ لا فخرَ لهم على النّاسِ ولا يستحقُّونَ المدحَ والثناءَ على تركِ المعصية؟

والجوابُ: عن هذه الشبهةِ يتَّضحُ باتِّضاحِ معنى العصمةِ وحقيقتِها، فحقيقةُ العصمةِ من الذنوبِ هي انَّها ملكةٌ من سنخِ التقوى راسخةٍ في النفسِ، على أنْ يكونَ مستوى الرسوخِ قد بلغَ من التجذُّر في النفسِ حدَّاً ينعدمُ معه الداعي إلى ارتكابِ المعصيةِ مهما حقُرتْ.

وبيان ذلك:

إنَّ المعصيةَ من الأفعالِ الاختياريَّةِ للإنسانِ، بمعنى إنَّه إنْ شاءَ ارتكبَها وإنْ شاءَ لم يرتكبْها، ولمَّا كانت المعصيةُ من الأفعالِ الاختياريَّة فهذا يقتضي أنْ لا تصدرَ من الإنسانِ المختارِ إلا أنْ يكونَ ثمةَ داعٍ في نفسِه إلى ارتكابِها، أما إذا لم يكنْ داعٍ في النفسِ لارتكابِها فإنَّ المعصيةَ لا تقعُ منه، لذلك فهو تارةً يشربُ الخمرَ مثلاً وتارة يُحجِمُ عن شربِه، وفي كلا الحالتين كان قادراً على شربِه، غايتُه انَّه في المرَّةِ الأولى كان ثمةَ داعٍ في نفسِه إلى شربِه وهي الرغبةُ، ولهذا أقدمَ على الشربِ للخمر. وفي المرَّةِ الثانيةِ لم يكن يرغبُ في شربِه فلم يكن في نفسه داعٍ للشرب، لذلك لم يقعْ منه الشربُ للخمر رغم انَّه كان قادراً على ذلك كما هو في المرَّةِ الأولى.

وبما ذكرناه اتَّضحَ إجمالًا منشأُ عدمِ ارتكابِ المعصومِ (ع) للمعصيةِ، فالمنشأُ هو عدمُ وجودِ الداعي في نفسِ المعصومِ لارتكابِ المعصيةِ، وحينما لا يكونُ داعٍ في النفسِ للمعصيةِ فإنَّ المعصيةَ لا تقعُ منه.

واتَّضحَ أيضاً أنَّ عدمَ وجودِ الداعي في النفسِ لارتكابِ المعصيةِ لا يعني عدمَ القدرةِ على ارتكابِها، فهي وانْ كانت مقدورةً له، ولو شاءَ لارتكبَها إلا إنَّه لا يفعلُ لعدمِ وجودِ الداعي في نفسِه إلى ارتكابِ فعلِ المعصية.

إذنْ فالمانعُ لعدمِ ارتكابِ المعصومِ (ع) للمعصيةِ ليس هو العجزَ والإلجاءَ وعدمَ القدرةِ وإنَّما هو عدمُ وجودِ الداعي في النفسِ لارتكابِ المعصية.

أما ما هو منشأُ عدمِ حصولِ الداعي في نفسِ المعصوم (ع) للمعصيةِ فهو التقوى الراسخةُ في النفسِ. فهي التي تصرفُ عن النفسَ الداعي لارتكابِ المعصيةِ والرغبةِ في اقتحامِها.

فالتقوى ذاتُ مراتبَ متعددةٍ تشتدُّ وتضعُفُ، وما مِن مرتبةٍ من مراتبِ التقوى إلا وهي تعصمُ الواجدَ لها عن بعضِ الذنوبِ، فثمةَ مستوىً من التقوى يكون معه الإنسانُ معصوماً من ارتكابِ القتلِ العمديِّ مثلاً، وثمَّةَ مستوىً يكون معه معصوماً من شربِ الخمرِ والسرقةِ مثلاً.

فنستطيعُ دونَ عنايةٍ ولا تجوُّزٍ أن نُشير إلى مَن هو واجدٌ لذلك المستوى من التقوى فنقولُ هذا معصومٌ من الوقوعِ في السرقةِ وشربِ الخمرِ والقتلِ العمدي، وذلك لا لأنَّه عاجزٌ عن ارتكابِ هذه الكبائرِ من الذنوبِ بل لأنَّه بلغ من التقوى حداً أصبحتْ معه هذه الذنوبُ مُستوحشةً في نفسِه ولهذا فهو مُنصرِفٌ عنها ولا يجدُ ما يدعوه لارتكابِها. وحينئذٍ لا تقعُ منه هذه الذنوب، وهذا هو معنى العصمةِ عن هذه الذنوبِ.

بل نستطيعُ أنْ نقولَ إنَّه ما من إنسانٍ عاقلٍ مختارٍ إلا وهو معصومٌ عن مزاولةِ بعضِ الأفعالِ، فهو لا يرتكبُها جزماً إلا أنْ يفقِدَ عقلَه أو اختيارَه.

فشربُ السُّمِ القاتلِ فورًا وجزمًا لا يُقدِمُ عليه عاقلٌ إذا كان مُلتفتًا إلى كونِه سُمًّا موجبًا قطعًا للموتِ الفوري، ومنشأُ عدمِ إقدامِه على شُربِه هو حرصُه الشديدُ على حياتِه، فهو لا يريدُ لها الهلاك، لذلك ينعدمُ عندَه الداعي إلى تناولِ السُّمِّ وإنْ كان أمامَه وأُعطيَ في مقابلِ تناولِه الكثيرَ من المال. فهو إذنْ معصومٌ عن شُربِ السُّمِّ، ومنشأُ عصمتِه هو حرصُه على الحياة. فهذا الحِرصُ هو الذي منعَه عن الإقدامِ على تناولِ السُّمِّ.

فالامتناعُ عن تناولِ السُّمِّ لم ينشأْ عن العجزِ وعدمِ القدرةِ على تناولِه وإنَّما نشأَ عن مُوازنةٍ بين خيارينِ أحدِهما لا يرغبُ في عاقبته وهو الهلاكُ، والآخر يحرصُ على التمسُّكِ به وهو الحياة. فذلك هو ما صرفَ عنه الداعي إلى اختيارِ الأول.

وبنفسِ هذا التقريبِ يكونُ اقتضاءُ التقوى للعصمةِ عن بعضِ الذنوب، فالتقوى التي تقتضي الحِرصَ على عدمِ الوقوعِ فيما يُسخطُ اللهَ تعالى، والحِرصَ على الكونِ في موقعِ الرضوانِ الإلهي تَجعلُ مِن النفسِ منصرفةً عن الرغبةِ في ارتكابِ الذنوبِ، فليس ثمةَ من داعٍ عندَها يدفعُها إلى ارتكابِ الذنوبِ، ولهذا لا تقعُ الذنوبُ، وإذا وقعتْ فهي إنَّما تقعُ نتيجةَ ضعفٍ في مستوى التقوى في النفسِ، أما إذا بلغت التقوى مرتبتَها العاليةَ والتامَّة فإنَّ الذنوبَ لا يتَّفقُ وقوعُها حتماً.

وهذا هو مرادُنا من العصمةِ الكاملةِ عن الذنوب الثابتةِ للأنبياء (ع) ولأهلِ البيت (ع).

ولمزيدٍ من التوضيح نقول:

إنَّ التقوى العاصمةَ عن تمامِ الذنوبِ خطيرِها وحقيرِها تتقوَّمُ بأركانٍ ثلاثة:

الأول: العلمُ الكاملُ والتفصيليُّ بأحكامِ الله جلَّ وعلا.

الثاني: الرؤيةُ التامَّة لآثارِ وعواقبِ المخالفةِ للتكاليفِ الإلهيَّة، وحضورِ هذه الرؤيةِ في النفسِ على نحوِ الدوام.

الثالث: الحبُّ الشديدُ لله جلَّ وعلا والرغبةُ التامَّة في الرضوانِ الإلهيِّ والخشيةُ المتناهيةُ في الشدَّةِ من السخطِ الإلهي.

فإذا اتَّفقَ لأحدٍ هذا المستوى من التقوى فإنَّه لا يُقدِمُ على معصيةٍ أبدًا، وذلك لأنَّ الإقدامَ على المعصيةِ يسبقُه الداعي إليها، والداعي لا ينشأُ إلا عن رغبةٍ في النفسِ لآثارِ المعصيةِ من لذةٍ أو نفعٍ أو حميَّةٍ أو غير ذلك من الآثار المنتظرَة من فعلِ المعصية.

فإذا كان الإنسانُ يعلمُ بأنَّ هذا الفعلَ معصيةٌ لله تعالى وكان مستحضِرًا للآثاِر والعواقبِ المترتِّبةِ على ارتكابِ هذه المعصيةِ بمعنى أنَّه يرى وينظرُ للمعصيةَ من زاويةِ ما يترتَّبُ عليها من آثارٍ وخيمةٍ، فكأنَّه لا يرى لها من أثرٍ سوى هذه الآثارِ السيئةِ كما أفادَ أميرُ المؤمنين (ع) في صفاتِ المتَّقينَ: "وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ"(2) فأثرُ المعصيةِ وهي النارُ والسخطُ الإلهيُّ ماثلٌ في النفسِ بمستوى الشهودِ، فإذا كان مع ذلك شديدُ الحبِّ للهِ تعالى شديدُ الرغبةِ في رضوانِه ليس في نفسِه من مطمحٍ سوى القُربِ من اللهِ تعالى وأنْ يكون محظيًّاً عنده، فهو يُحاذرُ ويخشى أشدَّ الخشيةِ من أنْ يكون ولو للحظةٍ في موقعٍ يَسخطُه اللهُ تعالى أو لا يُريدُه، فحينئذٍ لا يُتصوَّرُ في مثلِ هذا الإنسانِ أنْ ينشأَ في نفسِه داعٍ لارتكابِ المعصيةٍ فضلاً عن مقاومتِها.

فالمعصيةُ في نفسِه مستبشَعةٌ كأشدِّ ما يكونُ استبشاعُ المحبِّ للإساءِةِ لمعشوقِه، والمعصيةُ مستقذَرةٌ في نفسِه استقذارَ العارفِ بحقيقةِ الطعامِ القذِرِ المقدَّمِ إليه وكيفيةِ تحضيرِه، فقد يرى الغافلُ طعامًا مزوَّقًا ومنوَّقًا فيتناولُه بشراهةٍ لجهلِه بأنَّه من لحومِ الجيف المتهرئةِ والمشوبةِ بصديدِ القروحِ وفضلاتِ القوارضِ والمعالَجةِ من قبلِ المجذومينِ وذوي العاهاتِ المزمِنةِ والمعدية، أمَّا العارفُ بواقعِ هذا الطعامِ وبمَن عالجَه فإنَّه يستقذره بل ويفرُّ منه رغمَ أنَّه كان مزوَّقًا ومنوَّقًا.

فالمعصومُ (ع) يرى المعصيةَ وإنْ حقرتْ رؤيةَ هذا العارفِ بحقيقةِ هذا الطعامِ ويَستقذرُها استقذارَ هذا العارفِ بهذا الطعامِ. وكما لا يصحُّ وصفُ هذا العارفِ بأنَّه كان مُلجئًا ومقسورًا ومجبوراً على عدم تناولِ هذا الطعامِ فكذلك لا يصحُّ وصفُ المعصومُ بأنَّه مقسورٌ على تركِ المعصية.

فهو إنَّما يتركُ المعصيةَ لمعرفتِه بحقيقتِها والآثارِ المترتِّبةِ على مقارفتِها ومنافاةِ الوقوعِ فيها لإرادةِ محبوبِه ومعشوقِه، ولأنَّها تحولُ بينه وبين كمالِ عبوديتِه والتي لا مطمحَ له في سِواها، لذلك فهو يستحقُّ على تركِ المعصيةِ أحسنَ الثناءِ نظرًا لنشوءِ ذلك عن المعرفةِ والحبِّ لله تعالى والخشيةِ من سخطِه والرغبةِ في كمالِ الحظوةِ عندَه تعالى.

وبما ذكرناه يتَّضحُ أنَّ العصمةَ وإنْ كانتْ منحةً الهيَّةً يهبُها لبعضِ عبادِه لغايةٍ تقتضيها حكمتُه إلا انَّ ذلك لا يعني إلجاءَ مَن مُنحتْ له العصمةُ على الطاعةِ وتركِ المعصيةِ، وذلك لأنَّ منحَ العصمةَ إنَّما هو بمعنى الإراءةَ الكاملةَ والهدايةَ والتسديدَ.

أو بتعبيرٍ آخر: هو إنَّ الله تعالى يخلقُ في المعصومِ الاستعدادَ الذهنيَّ والنفسيَّ لتلقِّي الفيوضاتِ الإلهيَّة ثم يُفيضُ عليه من العلمِ والمعرفةِ ما يُؤهِّلُه لرؤيةِ المعصيةِ على حقيقتِها وما يترتَّبُ عليها من آثارٍ، ويمنحُه من الملكاتِ النفسيَّةِ والسجايا الحميدةِ ما يُؤهِّلُه لمقاومةِ الرغباتِ التي تقتضيها طبيعتُه الإنسانيَّة، وكلُّ ذلك لا يسلبُ منه اختيارَ ما ينافي علمِه وملكاتِه الممنوحةِ له من قِبلِ اللهِ تعالى. فهو قادرٌ على اختيارِ ما يراهُ قبيحاً ومنافيًا للعفَّةِ مثلاً إلا أنَّه لا يختارُه بمحضِ إرادتِه.

فكما أنَّ اللهَ جلَّ وتقدَّس قادرٌ على ظلمِ عبادِه إلا أنَّه لا يختارُ الظلمَ أبدًا فكذلك المعصومُ (ع) قادرٌ على فعلِ المعصيةِ إلا أنَّه لا يفعلُها. فكما أنَّ عدمَ صدورِ القبيحِ من الله تعالى لا ينافي قدرتِه واختيارِه فكذلك عدمُ صدورِ المعصيةِ من المعصومِ (ع) لا ينافي اختيارَه وقدرتَه على مقارفتِها.

ولإيضاحِ عدم الملازمةِ بين كونِ العصمةِ ممنوحةً من اللهِ تعالى وبين سلبِ الاختيارِ والقدرةِ على فعلِ المعصية نذكرُ هذا المثالَ:

وهو أنَّ أحدًا لو كان يجهلُ الطريقَ إلى مقصدِه فوجدَ رجلاً صالحًا راجحَ العقلِ عارفًا بالطريقِ وأبدى استعدادَه لإيصالِه إلى مقصدِه، فأخذ بيدِه أو سار معه في الطريق المُوصِلِ للمقصدِ. فهل يُقال عن هذا الإنسانِ غيرِ العارفِ بطريقِه إلى مقصدِه أنَّه مسيَّرٌ ومسلوبُ الاختيارِ لمجرَّد انقيادِه لهذا المُرشدِ ؟!، ألم يكنْ من الممكنِ لهذا الإنسانِ أن يجتذب يدَه من يَدِ المُرشدِ ويسيرُ في طريقٍ آخر أو أنْ يتخلَّى عن مقصدِه فيرجعُ من حيثُ جاء، كلُّ ذلك ممكنٌ في حقِّه، فإذا لم يفعلْ واستمسكَ بيدِ المُرشِد وسار معه حيثُ يسير فهو إنَّما يفعلُ ذلك بمحضِ اختياره، وذلك لشدَّةِ تعلُّقِه بمقصدِه ووثوقِه بالمتصدِّي لإرشادِه ولأنَّ رجاحةَ عقلِه تدعوه للالتزامِ بذلك الطريقِ المفضي لبلوغِ غايتِه وإنْ شقَّ عليه السيرُ وأعياهُ بُعدُ المسافة.

فالعصمةُ ليستْ شيئًا آخر غيرَ الهدايةِ والتسديدِ الدائمِ للمعصومِ (ع) ولكنَّ هذه الهدايةَ ليست بمستوى الإراءةِ للطريقِ المفضي لرضوان الله كما هي الهدايةُ العامَّة بل هي بمستوى الأخذِ باليدِ إلى حيثُ بلوغِ المقصدِ، وهذا هو معنى التسديدِ الدائم، وهو مؤدَّى ما رُوي عن الإمام الرضا (ع) حيثُ قال: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اخْتَارَه اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لأُمُورِ عِبَادِه شَرَحَ صَدْرَه لِذَلِكَ، وأَوْدَعَ قَلْبَه يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ، وأَلْهَمَه الْعِلْمَ إِلْهَاماً .. فَهُوَ مَعْصُومٌ مُؤَيَّدٌ، مُوَفَّقٌ مُسَدَّدٌ، قَدْ أَمِنَ مِنَ الْخَطَايَا والزَّلَلِ والْعِثَارِ، يَخُصُّه اللَّه بِذَلِكَ لِيَكُونَ حُجَّتَه عَلَى عِبَادِه وشَاهِدَه عَلَى خَلْقِه"(3).

فالمعصومُ مؤيَّدٌ ومسدَّدٌ ولكنَّه ليس مسلوبَ الإرادةِ الاختيارِ. فله أن يتمرَّدَ فيُصغي إلى ما تقتضيه طبيعتُه الإنسانيَّةُ إلا أنَّه لا يفعل لشدَّةِ حرصِه على أنْ يكونَ قريبًا دائماً من الله تعالى بعيدًا عمَّا يوجبُ سخطَه. 

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ / مَلِكِ النَّاسِ / إِلَهِ النَّاسِ / مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ / الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ / مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾(4)

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

14 من صفر 1437هـ - الموافق 27 نوفمبر 2015م

جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز


1- سورة الأحزاب / 33.

2- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج 2 ص 161.

3- الكافي -الشيخ الكليني- ج 1 ص 203.

4- سورة الناس.