معنى المنع من التعرُّض لحرمه ما دام حيًّا

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

ورد في كُتب السيَر انَّ الإمامَ الحسين (ع) قال يوم كربلاءِ مخاطبًا المُعسكر الأموي بعد أنَ حال جمعٌ منهم بينه وبين رحلِه: "وَيْحَكُمْ، يا شيعَةَ آلِ أَبي سُفْيانَ! إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دينٌ، وَكُنْتُمْ لا تَخافُونَ الْمَعادَ، فَكُونُوا أَحْرارًا في دُنْياكُمْ هذِهِ، وَارْجِعُوا إِلى أَحْسابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عُرُبًا كَما تَزْعُمُون.فناداه شمر فقال: ما تقول يا حسين ؟! فقال: أقول: أَنَا الَّذي أُقاتِلُكُمْ، وَتُقاتِلُوني، وَالنِّساءُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ، فَامْنَعُوا عُتاتَكُمْ وَطُغاتَكُمْ وَجُهّالَكُمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِحَرَمي ما دُمْتُ حَيًّا".

 

والسؤال هو لماذا التقييد بالحياة؟

 

الجواب:

بعد التتبُّع وجدتُ أنَّ أكثرَ المصادر التي أرَّختْ لهذه الحادثة خاليةٌ من هذه الفقرة الأخيرة أعني "ما دُمتُ حيًّا"، فالنصُّ المأثور فيها عن الإمام الحسين (ع) ينتهي عند القول: "امنعوا رحلي وأهلي من طُغامِكم وجُهَّالكم" كما في الطبري عن أبي مخنف(1) والكامل لابن الأثير(2) وتجارب الأمم لابن مسكويه(3) والبداية والنهاية لابن كثير(4) ونهاية الأرب للنويري(5) أو "امنعوا أهلي من طُغامِكم وسفهائِكم" كما في أنساب الأشراف للبلاذري(6) أو "فكفُّوا سُفهاءَكم وجهالَكم عن التعرُّض لحرمي، فإنَّ النساء لم تُقاتْلكم" كما في مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي(7) وكشف الغمة للأربلي(8) وقريب منه ما في الفصول المهمَّة لابن الصبَّاغ(9).

 

وأمَّا المصادرُ التي اشتملت على فقرة: "ما دمتُ حيًّا" فهو كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي(10) ثم كتاب مقتل الحسين (ع) للخوارزمي وكذلك وردت في كتاب الملهوف للسيد ابن طاووس(11) والبحار نقلًا عن مقتل محمد بن أبي طالب(12).

 

والأقرب أنَّ فقرة "ما دمتُ حيًّا" ليست من جملة النصِّ المأثور عن الإمام الحسين (ع) فلعلَّها أُضيفت خطًا من النسَّاخ أو من مصدر النصِّ ثم تبعَه مَن جاء بعده، والقرينةُ على أنَّها ليست من جملة النصِّ مضافًا إلى خلوِّ أكثرِ المصادر منها هو أنَّها لا تُضيف معنىً زائدًا يحتاجُ المتكلمُ الفصيحُ إلى بيانه بل إنَّ وجودها يُحدث ايهامًا أو تشويشًا على النصِّ لا يتناسبُ مع ما عُرف عن أبي عبد الله الحسين (ع) من التميُّزِ المُلفت في مستوى البلاغة والبيان كما تشهدُ بذلك رسائلُه ومحاورتُه وخطبُه المأثورة.

 

فالأقربُ أنَّ الفقرة ليست من جملة النصِّ بل هي من خطأ ناسخ النصِّ أو ناقلِه خصوصًا وأنَّه لم يحتفظ بحرفيَّة النصِّ كما يشهدُ لذلك اختلافُ مصادر النص في عددٍ من الألفاظ، وعلى أيِّ تقدير فلو فُرض أنَّ فقرة "ما دمتُ حيًّا" من جملة النص فليس المراد منها أنَّ لكم أنْ تعتدوا على حرمي بعد موتي، فإنَّ ذلك غيرُ مرادٍ قطعًا بل المرادُ من قولِه: "ما دمتُ حيًا" يحتملُ أحد معنيين:

 

الاحتمال الأول: هو ما يقربُ من مفادِ قولِه تعالى على لسان عيسى (ع): ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾(13).

 

فالامامُ الحسين (ع) أراد القول بأنِّي مكلَّفٌ بحماية حرمِي ومنعِكم من التعدِّي عليهم ما دامتُ على قيدِ الحياة، فإذا متُّ فإنَّ الله تعالى يتولَّى حمايتَهم وحفظَهم، فكأنَّه أراد الإشارة إلى أنَّ اللهَ تعالى جعله سببًا في حمايتِهم مادام على قيد الحياة فإذا مات فإنَّه تعالى يُسبِّب لحمايتِهم أسبابًا قد لا تكون مُحتَسبة، فهو (ع) واثقٌ برعاية اللهِ تعالى لهم.

 

فقولُه: "ما دمتُ حيًّا" ليس تقييدًا للأمر بالمنع من التعرُّض لحرمِه وإنَّما هي بيان لحدودِ وظيفته وأنَّها تنتهي بموتِه، فإذا مات فإنَّ ثمة مَن سيتولَّى حفظَ حرمِه.

 

فمساقُ قوله (ع): "مادمتُ حيًّا" هو مساق قولِ القائل: أنا متكفلٌّ بقوتِ عيالي ما دُمتُ حيًّا، فإنَّ المتفاهم عرفًا من هذه الجملة حين تصدر عن رجلٍ مؤمن هو أنِّي اذا متُّ فإنَّ الله تعالى يتولَّى شأنَهم.

 

والاحتمال الثاني: هو أنَّ المراد من قولِه (ع) "أَنَا الَّذي أُقاتِلُكُمْ، وَتُقاتِلُوني، وَالنِّساءُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ، فَامْنَعُوا عُتاتَكُمْ وَطُغاتَكُمْ وَجُهّالَكُمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِحَرَمي ما دُمْتُ حَيًّا" هو أنِّي مَن يقاتلُكم والقوانينُ والأعرافُ العربيَّة تقتضي عدمَ التجاوزِ لحدود قتال مَن يقاتلكم، ولهذا يلزمُكم -إنْ كنتم عربًا كما تزعمون- أنْ تمنعوا جُهَّالكم عن التعرُّض لحرمي ما دمتُ حيًّا، وأما بعد الموت فلزومُ عدمِ التَّعرُّض للنساء والحرم أوضح، لأنَّ التعرُّض للنساء والحرم إنَّما هو لغرض النكاية والإيذاء لمَن يقاتلونَه، فإذا كان قد قُتل فلا موجب حينذاك للتعرُّض لحرمِه، لأنه لو وقع فإنَّه سيكون بلا موجبٍ وسيكون أكثرَ منافاةٍ للقوانين والأصول العربيَّة والعقلائيَّة. فنهيُهم عن التعرُّض لحرمِه في حياته يقتضي النهيَ عن التعرُّض لهم بعد موتِه بالأولوية العرفيَّة، ولذلك لم يكن بحاجة إلى بيانِه وكان الاقتصار على النهي عنه في حياته كافيًا لفهم النهي عن التعرُّض لهم بعد وفاته.

 

وهذا الاحتمال هو الأرجح، إذ هو المناسب لطبيعة المخاطَبين الذين إنْ كان سيردعُهم شيءٌ عن التعرُّض للنساء فهي الأعراف العربيَّة والخشية من التعيير، لذلك حرص الإمامُ (ع) على تذكيرهم بما قد يُسهمُ في ثنيهم عن هذه الموبقة، ولهذا ورد في النصوص أنَّ الشمر بن ذي الجوشن أجاب الحسين (ع) بقوله: "لك ذلك يا ابن فاطمة، ثمّ صاح بأصحابه: إليكم عن حرمِ الرجل، واقصدوه بنفسه، فلعمري لهو كفوٌ كريم"(14).

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- تاريخ الطّبري- محمّد بن جرير الطّبري- ج4 ص344.

2- الكامل في التاريخ -ابن الأثير- ج4 ص76.

3- تجارب الأمم -لابن مسكويه- ج2 ص79.

4- البداية والنهاية -ابن كثير- ج8 ص203.

5- نهاية الأرب -النويري- ج 20 ص458.

6- أنساب الأشراف -أحمد بن يحيى بن جابر (البلاذري)- ج3 ص202.

7- مطالب السؤول -ابن طلحة الشافعي- ص402.

8- كشف الغمة -الأربلي- ج2 ص262.

9- الفصول المهمَّة -ابن الصبَّاغ- ج2 ص827.

10- الفتوح -ابن أعثم الكوفي- ج5 ص117.

11- الملهوف -السيد ابن طاووس- ص146.

12- بحار الأنوار -المجلسي- ج 45 ص51.

13- سورة المائدة / 117.

14- كل المصادر السابقة.