حكم المفقود أين منه حقُّ الزوجة؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

في المفقود يُفتي الفقهاء بوجوب الصبر والاِنتظار له على الزوجة إذا كان للمفقود أو لوليِّه مالٌ يُنفقُ منه عليها، وإذا لم يكن له مال ولا لوليِّه فإنَّ عليها أنْ تصبرَ أربع سنين مدةَ البحث بعد رفعِ أمرِها إلى الحاكم الشرعي.

 

والإشكال إنَّ هذه الفتوى لم تُراعِ الحاجة الجسديَّة للزوجةِ والتي قد تكون شابَّة؟

 

الجواب:

إنَّ ما يُفتي به الفقهاء في شأنِ المفقود قد رُوعي فيه كلٌّ من حقِّ الزوج وحقِّ الزوجة، فإيجاب الانتظار والصبر على الزوجة رُوعيَ فيه حقُّ الزوج الذي غاب عن وطنِه وأهله في ظروفٍ غامضة، فلعلَّه وقع في أسرِ الظالمين أو أنَّه انقطع به السبيل أو ابتُلي بمرضٍ أقعده عن الرجوع لوطنِه وزوجته أو الإخبار بموضعه، وذلك ما يقتضي إنسانيَّاً وعقلائيَّاً الرعايةَ لظرفِه ولحقِّه في أنْ تنعَمَ أُسرتُه في غيبتِه بما لا يُفضي إلى ضياعها وتمزُّق شملِها.

 

فأيُّ قيمةٍ إنسانيَّة لزوجةٍ تتنكَّر لزوجِها لمجرَّد ظرفٍ قاهرٍ منعَه من أداء حقِّها وإنْ كانت في حاجتِه، فأين ذهبتْ القيمُ الدينيَّة والإنسانيَّة المقتضيةُ في مثل هذه الظروف للوفاء والإيثار والمؤازرة بالعمل على حماية اُسرتِه من الضياع وتربية أبنائه والسعي ما أمكن لتخليصه من محنتِه.

 

وأما إناطةُ إيجاب الصبر على الزوجة بالإنفاق عليها من أموال زوجِها أو من أموال وليِّه فرُوعي فيه حقُّ الزوجة، إذ انَّ الزوجةَ قد تصبرُ على كلِّ شيءٍ ولكنَّها لا تصبرُ غالباً دون نفقة أي أنَّها لا تصبرُ دون مسكنٍ ومأكلٍ وملبسٍ وغير ذلك من ضرورات الحياة، فإذا كانت الزوجةُ تجدُ كلَّ ذلك من أموالِ زوجِها أو وليِّه فإنَّ أمرَها بالصبر على غيبتِه يكون حينئذٍ قابلاً للاِمتثال وغيرَ مستوحَشٍ بنظر العقلاء وغيرَ منافٍ للمقتضيات الإنسانيَّة.

 

وإذا كانت الزوجةُ غير قادرةٍ على الصبر أو غير مُريدةٍ للصبر فإنَّ مقتضى الطبع الإنساني هو المبادرة للبحث عن موضع زوجِها وبذل أقصى الجهد في هذا السبيل مستعينةً في ذلك بأهلِها وذوي قرابتها، وكذلك فإنَّ أهلَ الزوج لن يتوانوا في هذا الشأنِ بدافع الحرص على حياة فقيدِهم وسلامتِه، فسوف تتظافرُ جهود الجميع، وسوف يتوسَّلون بكلِّ وسيلةٍ متاحةٍ من أجل الوصول إلى فقيدِهم، وحينئذ إما أنْ يتمَّ العثورُ على الزوج المفقود حيَّاً ويتمًّ التعرُّف على موضعِ وجوِده، وبذلك ينتفي عنه حكم المفقود.

 

وإما أنْ يحصلَ للزوجة العلمُ بموتِه وعندئذٍ لا يلزمها إلا أنْ تعتدَّ منه عدةَ الوفاة، وبعدها تكونُ في سعةٍ من أمرها، فلها أنْ تتزوَّج بمَن شاءت، وقد أجمعَ الفقهاءُ على أنَّه لا يلزمُها في ذلك مراجعةُ الحاكم الشرعي أو غيره، فمتى ما حصل العلمُ لها بموته -وإنْ لم يحصل ذلك لأهلِه وذوي قرابته فضلاً عن غيرهم- فإنَّ عليها أنْ تعتدَّ منه عدةَ الوفاة، وعندها تكون في سعةٍ من أمرها، فلها أن تتزوَّج إنْ شاءت ذلك.

 

والفرضُ الثالثُ أنْ لا يترتَّبَ عن البحث علمٌ ببقائه على قيدِ الحياة أو موتِه ففي مثل هذا الفرض إنْ علمت الزوجة أنَّ إختفاءه كان عن إختيارٍ منه فهو قد هاجر عنها أو أخفى نفسَه وموضعَه عنها لتصييرها كالمعلَّقة، فهو لذلك رجل مُضارٌّ، وفي مثل هذا الفرض يكون للزوجة حقُّ المطالبة بالطلاق، فإذا رفعت أمرها للحاكم الشرعي ساغ له بعد التثبُّت أنْ يُطلِّقها منه.

 

وإنْ لم يتبيَّن لها حياتُه من موته ولم تعلم بمنشأ اختفائه فيلزمُها في هذا الفرض الصبر على غيبته حتى يتبيَّن لها الحال، فإنَّها قد ابتُليت والمؤمنُ العاقل إذا ابتُلي فإنَّه يصبر، ولمثلِها نزل الذكر الحكيم بالوعد الإلهيِّ في القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(1).

 

فهي ليست أسوأَ حالاً ممَّن ابتُلي زوجُها بمرضٍ طال أمدُه ولا يُرجى شفاؤه، وهنَّ كثيرات صبرنَ على ما ابتُلين به واحتسبنَ أجرهنَّ عند الله تعالى، وهناك من تبتلي بموت زوجِها وهي لا ترجو بعده -لمقتضيات الظروف- الزواجَ من غيره فتصبرُ وتحتسب.

 

فالأمر بالصبر ليس من التكليف بما لا يُطاق، نعم هو من التكليف المنافي لما هو مرغوب ولكنَّه اقتضته حكمةُ التشريع المبتنية عند تزاحم المصالح والملاكات على تغليب مصلحةٍ أهم على اُخرى دونها في الأهمية.

 

فالرعايةُ لحقِّ الزوج الغائب في ظروفٍ غامضة- وغالباً ماتكون مأساوية -والرعاية لأسرتِه -التي يكون مآلُها الشتات والضياع غالباً لو قرَّرت الزوجةُ النظرَ لنفِسها في مثل هذا الظرف وتغليبُ مصلحتها بالاِنفصال عنه- والرعايةُ للاعتبارات الانسانيَّة وكذلك الاعتباراتُ الاجتماعيَّة القاضية على المرأة بعدم اللياقة والوفاء لو أقدمت على الانفصال والزواج من آخر قبل تبيُّن المصير الذي آلَ إليه زوجها، فالرعاية لكلِّ ذلك هو منشأُ الأمر ظاهراً بالصبر إلى أنْ يتبيَّنَ الحالُ والذي لا يطولُ غالباً بعد افتراض الجدِّيةِ في البحثِ والحرصِ الشديد على بلوغ الغاية منه.

 

وكيف كان فالتكليفُ بالصبر إنَّما هي وظيفةُ من تُطيقه، وأمَّا مَن كان الصبر حرجيَّاً عليها أي أنَّها تتكبَّد منه مشقةً لا تُطاق عادةً، فمثل هذه المرأة ترفع أمرَها إلى للحاكم الشرعي أو من ينوبُ عنه فإنَّه بعد التثبُّت سيُبادر إلى تطليقِها منه ثم تكونُ بعد انقضاء عدَّتها في سعةٍ من أمرها.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الزمر / 10.