حديث حول صوم الجوارح

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ ذي القُدرةِ والسلطانِ، والرأفةِ والامتنانِ، أَحْمَدُه اسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِه واسْتِسْلَاماً لِعِزَّتِه، واسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِه، وأَسْتَعِينُه فَاقَةً إلى كِفَايَتِه، إِنَّه لَا يَضِلُّ مَنْ هَدَاه، ولَا يَئِلُ مَنْ عَادَاه، ولَا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاه، فَإِنَّه أَرْجَحُ مَا وُزِنَ، وأَفْضَلُ مَا خُزِنَ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلَاصُهَا، نَتَمَسَّكُ بِهَا أَبَداً مَا أَبْقَانَا، ونَدَّخِرُهَا لأَهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا، فَإِنَّهَا عَزِيمَةُ الإِيمَانِ وفَاتِحَةُ الإِحْسَانِ، ومَرْضَاةُ الرَّحْمَنِ، ومَدْحَرَةُ الشَّيْطَانِ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه، أَرْسَلَه بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ والْعَلَمِ الْمَأْثُورِ، والْكِتَابِ الْمَسْطُورِ والنُّورِ السَّاطِعِ، والضِّيَاءِ اللَّامِعِ، والأَمْرِ الصَّادِعِ، إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ، واحْتِجَاجاً بِالْبَيِّنَاتِ، وتَحْذِيراً بِالآيَاتِ، وتَخْوِيفاً بِالْمَثُلَاتِ.

أُوصيكم عبادَ الله بتقوى اللهِ، الذي هو وليُّ ثوابِكم، وإليه مردُّكم ومآبُكم، فبادروا في العملِ الصالحِ قبلَ أنْ يَهجُمَ عليكم الموتُ الذي لا يُنجيكمْ منه حِصنٌ منيعٌ، ولا هربٌ سريعٌ، فإنَّه واردٌ نازلٌ، وواقعٌ عاجلٌ، فإنْ تطاولَ الاجلُ وامتدَّ المهلُ فكلُّ ما هو آتٍ قريبٌ، ومَن مهَّد لنفسِه فهو المُصيبُ، فتزوَّدوا رحمَكمُ اللهِ ليومِ المماتِ، واحذروا أليمَ هولِ البَياتِ، فانَّ عقابَ اللهِ عظيمٌ، وعذابَه أليمٌ، نارٌ تلهبُ ونفسٌ تُعذَّبُ، وشرابٌ مِن صديدٍ، ومقامعُ مِن حديد، أعاذنا اللهُ وإيَّاكم من النار، ورزقنا وإيَّاكم مرافقةَ الأبرارِ، وغفرَ لنا ولكم جميعاً إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

ورد في الحديث الشريف عن أبي عبد الله (ع): "إذا صُمتُم فاحفظوا ألسنتَكم عن الكذب، وغُضُّوا أبصارَكم، ولا تَنازعوا، ولا تَحاسدوا، ولا تَغتَابوا، ولا تُمارُوا، ولا تكذبوا، ولا تُباشروا، ولا تَحالفوا، ولا تَغضبوا ولا تَسابُّوا، ولا تَشاتموا، ولا تَنابزوا، ولا تُجادلوا، ولا تُباذوا، ولا تَظلموا، ولا تَسافهوا، ولا تَزاجروا، ولا تغفلوا عن ذكرِ الله"(1).

هذه هي إحدى الرواياتِ الكثيرةِ الواردةِ عن أهل البيت (ع) والتي يتلخَّصُ مضمونُها فيما أفاده أبو عبد الله (ع) في صحيحة محمد بن مسلم: "لَا يَكُونُ يَوْمُ صَوْمِكَ كَيَوْمِ فِطْرِكَ"(2) والتمايزُ بين يومي الصوم والفِطر ليس من جهةِ الكفِّ عن الاكلِ والشربِ وسائر المفطِّرات، فإنَّ ذلك مفروغٌ عنه وإنَّما هو التمايزُ في مستوى التمثُّلِ بقيمِ الدين وفي صفاء القلب والروح، فقلبُ المؤمنِ في ظرفِ الصوم ليس هو قلبُه في صفائه وخشوعه في ظرف الفطر، والتزامُ المؤمنِ بقيم الدينِ آدابِه في ظرف الصوم أشدُّ منه في ظرف الفِطر.

ولهذا تصدَّتِ الرواياتُ الواردةُ عن أهل البيت (ع) لإفادة انَّ الكفَّ عن الطعامِ والشرابِ هو الصومُ في مرتبته الدنيا، وثمة مرتِبةٌ أخرى للصوم يُعبَّرُ عنها بصومِ الجوارح، والمرتبةُ العليا للصوم هي صومُ القلب، فهذه مراتبُ ثلاثٌ للصوم، فأولاً يصومُ البطنُ والفرجُ عن الطعام والشراب وسائرِ المفطِّرات، وهذه هي المرتِبة الاولى والتي يحظى بها الكثيرُ من المسلمين، وهي مقامٌ عظيم لا يُستهانُ به، ولهذا لا تكادُ تجدُ في الملل الاخرى مَن يلتزمُ بالامساكِ عن الطعام والشراب وسائر المفطِّرات في علنه وخلوته؟! يلتزمُ بذلك على مدارِ شهرِ كاملٍ منذُ طلوعِ فجرِ كلِّ يومٍ منه إلى أنْ تغربَ الشمس دون أن يتبرَّمَ أو يتضجَّر، ينتابُه الظمأُ والجوعُ والإعياءُ فيصبرُ حتى يحينَ وقتُ المغرب فلا يُحدِّث نفسه أنْ يأكل ولو شيئاً يسيراً، ولا يُحدِّثُ نفسَه انْ يشرب ولو جرعةً من ماء، تلك مرتبةٌ عالية لا يحظى بها الكثيرُ من الناس من غير مِلتنا إلا انَّها ليستْ هي المرتبة التي يطمحُ فيها المؤمنُ التقي، فثمةَ مراتبُ أخرى، ولكلِّ مرتبةٍ مراتب.

والمرتبةُ المُشارُ إليها في الروايةِ الشريفةِ الآنفةِ الذكر هي المرتبةُ الثانيةُ من الصوم، وهي صومُ الجوارح، فمَن صام صامتْ جوارحُه، فجارحةُ اللسانِ ينبغي لها أنْ تصوم، وجارحةُ السمعِ ينبغي لها أن تَصوم، وكذلك جارحةُ العين، وسائرُ الجوارح، فشهرُ رمضان هو شهرُ الإمساكِ والكفِّ لجميع الجوارح، وهذا هو ما ُتشيرُ إليه الرواية، فهي قد استوعبت أكثرَ جوارحِ الانسان وتصدَّت لبيانِ كيفية الصومِ المناسبِ لكل جارحة، وليس معنى ذلك انَّ المؤمن في سعةٍ من جهة الخصال التي نهت عنها الرواية في غير شهر رمضان وإنَّما هي بصدد الإشارة إلى انَّ لشهر رمضان حرمةً يشتدُّ بها مقتُ هذه الخصال وكذلك أراد لنا الإمامُ (ع) مما أفاده أنْ نجعلَ من شهر رمضان منطلقاً لترويضِ النفس على ترك هذه الخصال الذميمة في تمامِ السنة.

"إذا صُمتم فاحفظوا ألسنتَكم عن الكذب":

قال (ع): "اذا صُمتم فأحفظوا ألسنتَكم عن الكذب"(3) قد لا يكونُ الانسانُ معتاداً على الكذب، فهو يكذبُ اتَّفاقاً ولكنَّه ليس مُمتهِناً ومُعتاداً على الكذب، نعم هو لا يُحاسب نفسَه كثيرًا ولا يُمسكُ لسانَه عن أنْ يكذبَ اذا احتاجَ إلى الكذبِ في شؤونِه وحاجاتِه ويومياتِه، هذا ما يتَّفقُ للكثير من الناس في سائرِ الأيام، وأمَّا في شهر رمضان فينبغي بل يجبُ على المؤمن أنْ يكون في شؤونِه وفي سلوكه وفي معاملاتِه حذراً عند كلِّ قول يصدرُ عنه، وهذا معنى "احفظوا ألسنتَكم"، فالمؤمنُ، قد يعصي فيكذبُ ثم يُحاسبُ نفسَه ويلومُها، هذه مرتبةٌ متقدِّمة إلا أنَّ المرتبة التي ينبغي أن يستقرَّ عليها المؤمنُ هي مراقبةُ النفس قبل التكلُّم فلا يصدرُ منه قولٌ حتى يتثبَّتَ من صدقِه، وهذا هو معنى حفظِ اللسان عن الكذب.

"وغضُّوا أبصاركم":

هذه العينُ المُسترسِلةُ والطامحةُ التي لا يكُّفها شيء، فهي على أيِّ منظرٍ وقعت استقرَّت، فسواءً وقعت على ما يصحُ النظرُ إليه والتمعُّنُ فيه او وقعت ما يحرم، فهي متى ما استثارَها منظرٌ حدَّقت به دون تحفُّظ ولا تأثُّم، مثلُ هذه العينِ يجبُ كبحُها، وليكنْ شهرُ رمضان ظرفاً ترتاضُ فيه على ذلك، فليس كلُّ منظرٍ يسوغُ النظرُ إليه أو التمعُّنُ فيه، فثمةَ منظرٌ أوجبَ اللهُ تعالى الغضَّ عنه، لأنَّ في تمعُّنِه انتهاكاً لحرماتٍ الناس أو مظنَّةً للفساد أو هو مفضٍ للوقوعُ في الريبة، ولهذا لو وقع البصرُ اتَّفاقاً على ما يحرمُ النظرُ إليه فمقتضى الإيمانِ والتديُّن هو المبادرةُ إلى صرفِه عنه دون تريُّث، وهذا هو معنى غضِّ البصر، الذي أمرَ الإمامُ (ع) بترويضِ النفس على تمثُّله في شهر رمضان.

"ولا تنازعوا ولا تحاسَدوا":

النزاعات والمناكفات التي قد تحدثُ بين الأصدقاء وقد يتفقُ وقوعُها بين الاقارب فيما بينهم في بيوتهم بين الأخوين أو بين الزوجين أو بين أبٍ وولد أو بين بنتٍ وأم، هذه النزاعاتُ مرجوحةٌ وممقوتةٌ في تمام السنة وهي في الشهر الشريف أشدُّ مرجوحيَّة، ولهذا ينبغي للصائم أن يحرصَ ما وسعه على تجنُّبِ الوقوع في أيِّ نزاعٍ، فالنزاعُ يُورث الغِلَّ في القلب ويورثُ الضغينة، وإذا امتلأ القلب حقداً وغلاً وغيضاً على المؤمن فكيف سيفرغُ لذكرِ الله، فالقلبُ وعاءٌ اذا امتلأ بما هو سيئٌ تعذَّر عليه التأهُّلُ لاستقبال فيضِ الله تعالى في هذا الشهر الشريف، فشهر رمضان اُعدَّ لكي يخلوَ فيه قلبُ المؤمن لذكر الله والتدبُّرِ في آياته فيما يصلحُ المآل والمعاد، فإذا اشتغل بما يحول دون ذلك صار القلبُ محروماً من تحصيل هذه الغاية بل ومحروماً من لذةِ ما يتلوه من آياتِ الله ومناجاتِه في الليل وفي النهار، قال (ع): "ولا تنازعوا ولا تحاسدوا"(4)، فالحسدُ واحدٌ من آثار النزاع، وقد ينشأُ عن سببٍ آخر غير النزاع، فقد لا اكونُ في نزاعٍ مع هذا المؤمنِ أو ذاك ولكنِّي أحسدُه لأنَّني أشعرُ بالغبن وأشعر انِّي محرومٌ وهو محظوظ، هذا الشعورُ يبعثُ على الحسد، وعدمِ الرضا بقضاءِ الله، وينشأُ عن الجشعِ وعدم القناعة، فالطمعُ الجامحُ في كلِّ شيء هو ما يدعو للحسد ويمكِّنُه من النفس، ولهذا فالعلاجُ من هذا الداءِ الوبيل يكمنُ في اقتلاع أسباب الحسد من النفس، فلا جدوى من الرغبة في تركِ الحسد إذا كانت بواعثُه ومناشئُه متجذِّرةً في النفس، فإذا كان الرجلُ يطمحُ في كلِّ شيء، ولا يقنعُ بشيء، والدنيا عظيمةٌ في قلبِه ولا وزنَ للآخرة في نفسه فمثلُه لا ينفكُّ عن الحسد، فقولُ الإمام (ع) "لا تحاسدوا" يعني ابحثوا عن كلِّ مناشئِ الحسدِ وبواعثِه الكامنةِ في النفس واقتلعوها، وليكنْ شهرُ رمضان هو مبدأ اقتلاع هذه البواعثِ السيئة من النفس.

قال (ع): "ولا تغتابوا ولا تماروا":

"الغيبةُ إدامُ كلابِ أهلِ النار"(5) هذا الوصفٌ يبعثُ على التقزُّز والإستقذار، لأنَّ ما تأكلُه الكلابُ هو الجيفُ والقاذورات، والمرادُ من الإدام هو ما يُوضعُ على الطعام من لحمٍ أو سَمنٍ أو خلِّ أو غير ذلك مما يُوجبُ فتحَ الشهية لتناولِ الطعام، وهنا شبَّه الإمامُ (ع) الغيبةَ بالإدام ولكن ليس هو الإدامُ الذي يفتحُ الشهيةَ على الطعام فيستسيغُه الطاعمُ ويستذوقُه وإنَّما هو الإدامُ الذي يستذوقُه ويستمرؤُه الكلابُ، وما تستمرؤه الكلابُ إنُما هو الجيفُ والقاذورات، فلو كان الطعامُ طيِّباً ولكنَّك أودَمْته بإدامٍ متعفَّنٍ تنبعثُ منه رائحةٌ نتنة أو كان الإدامُ مستقَذَراً فإنَّ أحداً لن يستسيغَ تناولَ الطعامِ المأدوم بذلك الإدام المستقذَر وإن كان الطعامُ طيباً في نفسه، وكذلك فإنَّ أحدنا لو فتحَ مجلسَه ليُتلى فيه القرآن ويجلسُ فيه المؤمنون فهو مجلسٌ مَرضيٌّ عند الله عز وجل، فإذا طُعِّم هذا المجلسُ وأُودم بالغيبةِ أصبحتْ عفونتُه ونتنُ ريحِه طاغيةً على كلِّ ما فيه من مناشئ الرضا، فما يتصاعدُ من هذا المجلس الذي اغتيبَ فيه مؤمنٌ هي الروائحُ النتِنة، فلا يحظى حينذاك باستغفار الملائكةِ ودعائهم لأصحابِ هذا المجلس، لذلك ينبغي أنْ لا نتعاطى الغيبةَ في مجالسنا ولا نقبلُ أنْ يغتاب أحدٌ أحداً في مجالسنا، فنحنُ إنما نعقدُ مجلسَ القرآن مثلاً لنجني منه ثوابَ الله أفنغلقُه في آخر الليل على غضبٍ وسخطً من الله عز وجل!!، فحين يتناولُ الحاضرون في ذلك المجلس أحد المؤمنين بالتشريح والتجريح لعرضه فهم كمن بضَّع جسده وهو ميَّت فما أشأمَ هذا المجلس!! الذي فُتح رجاءً لثواب الله ومرضاته فأغلق على سخطٍ من الله تعالى ومقته.

يقول (ع): "ولا تُماروا":

والمماراةُ هي الجدال والخصومة لغرضِ الانتصار للنفس، فالمماري يسعى في العادةِ بكلِّ وسيلةٍ لإثبات صحة رأيه، فهو يتوسَّلُ بالصراخِ والمغالبةِ بالصوتِ والحركة، وقد يقومُ ويجلسُ ويثيرُ اللغط من أجلِ أنْ يثبت رأيه، وقد يكذب، وقد يُدلِّسُ وقد يُسيئُ الأدب، كلُّ ذلك من أجل أن يُثبت صوابَ رأيه وأنَّ رأي الطرفِ الاخر خاطئ، ولهذا فهو لا يُبالي أنْ يحطَّ من قدرِ الطرف الاخر فيطعنُ في فهمه أو يحقِّره أو يُؤذيه بالمشينِ من الألفاظ، وقد يتوسَّلُ في مقامِ الإنتصار لرأيه بالغيبةِ أو النميمةِ أو السُخرية، وكلُّ ذلك منافٍ لقيمِ الدين، فقد وردَ عن أهل البيت (ع) الحضُّ على ترك المراء في مطلق الأحوال كما في الحديثِ الشريف "أورعُ الناسِ مَن ترك المِراءِ وإنْ كان محقاً"(6) فإذا اتَّفق أنْ دخل أحدُنا مع آخر في مناقشة مسألة فوجده يُماري وأحرز أنَّه ليس بصدد البحث عن الحقيقة أو التنضيج لرأيٍ وإنَّما هو بصدد البحثِ عن انتصارٍ لذاتِه فهو يبحث عن انتصارٍ رخيصٍ ومحدودٍ وجزئي فمثلُه لا يستحقُ الحوار، اعطه الانتصار وامضِ عنه، لأن هذه المماراة تُذهب ببهاء المؤمن، وتملأ قلبَه غلاًّ، ولا ينبغي للمؤمن أنْ يكون في قلبه غلاًّ للذين آمنوا.

"ولا تحالفوا":

قد يحلفُ الإنسان حتى يُثبتَ انَّ بضاعته جيِّدة أو أنَّه لم يفعل أو أنَّه فعل، هذا النحو من الحلف ممقوتٌ عند الله تعالى، فمن أجل بضاعة زهيدة تبتغي الربحَ من ورائها تحلفُ بالله وتُقسم بآلائه!!، فكم هو هيِّن لفظ الجلالة على ألسنتنا!! حتى انَّ أحدَنا يُقسم في يومه بالأيمان المغلظة عشراتِ المرات، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: ﴿وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ﴾(7).

"ولا تغضبوا":

فالغضب جمرة من فيح جهنم ينفخ فيها الشيطان فيزداد أَوارُها ويتَّقدُ لهبُها، والغضب هو المنشأ الاكبر لوقوع الكثير من الذنوب والمآسي الاجتماعية.

"ولا تسابُّوا ولا تشاتموا ولا تنابزوا":

التنابز هو التعيير لغرض استصغار واحتقار الآخرين، كأن تُعرِّض بكلمةٍ غير مناسبة تفوَّه بها مؤمنٌ خطأً أو جهلاً فتعيِّره بها أو تُعيِّره بعيبٍ في جسده أو شطحةٍ وقعت في تاريخه أو مغمزٍ في بعض قرابته هذا هو التنابز، وقد نهى القرآنُ عنه كما نهت عنه الروايات.

"ولا تباذوا":

صاحب اللسان البذيء هو الذي اعتاد استعمال الألفاظ الفاحشة فيجمعُ سبَّاً وشتماً وألفاظاً نابيةً تخدشُ الحياء، وقد ورد انَّ صاحب اللسان البذيء، لا يدخل الجنة، فالجنة طهرٌ طاهر لا يدخلها ذو اللسانٍ البذيء، أقذر شيء في الانسان أن يكون لسانه بذيئاً فاحشًا يخدش حياءَ الآخرين.

"ولا تظلموا ولا تسافهوا":

نختم بهذه الفقرة وهي قوله (ع) "ولا تسافهوا" ومعنى التسفيه هو أنْ ترمي أخاك بالسفَهِ وضعفِ العقل، ومن التسفيه الاستخفافُ بآراء الآخرين ووصفها بما يوجب التوهين لهم والتقليل من شأنهم، وغالباً ما يكون غرضُ المستخفِّ بآراء الناس هو التزكيةُ للنفس والظهورُ في مظهر العاقل اللبيب صاحب الآراء الرصينة.

معنى احترام الرأي الآخر:

فالتسفيه في أحد معانيه هو الاستخفاف بآراء الآخرين لمجرَّد عدم التبنِّي لها، وكذلك فإنَّ عدم احترامٍ الآخرين بالنحو الذي ترجوه من احترامهم يعدُّ من التسفيه فينبغي للمؤمن أن يُقدِّر وأنْ يحترم آراءَ الناس كما يحبُّ من الناس أن يحترموا رأيه، فالاسلام هو اولُ من أوصى بإحترام آراء الاخرين وتقديرها فليس لأحدٍ المزايدة علينا.

وهنا أمرٌ يحسن التنبيهُ عليه وهو انَّ احترام الرأي الآخر يعني عدم الإعراض عنه وإغفاله أو الاستخفاف به وليس معنى احترام الرأي الآخر هو قبوله والتبنِّي له بل معناه انَّ من حق الأخرين النظر في آرائهم والتقليب لها فلعلها صائبة ولو في بعض جوانبها ومقتضى الاحترام للرأي الآخر هو القبول به لو تبيَّن بعد التأمل والنظر انه الأصح فالعاقل لا يستنكف من التراجع عن رأيه لو تبيَّن له خطأه وصوابية رأي الآخر.

نعم في المقام مغالطة يكثر التلبيس بها على الناس وهي انَّ الرأي الاخر الذي ينبغي احترامه هو كلُّ رأيٍ صدر من كلِّ أحد، ليس الأمرُ كذلك، فليس كلُّ مَن سمَّى كلامه رأياً وجبَ علينا احترامُه والنظرُ فيه، فالرأي المحترَم والذي يحسنُ من العقلاء النظرُ فيه هو الرأي الناشئ عن التأمُّل والتروِّي على أن يكون صادراً ممن يملكُ أسبابَ النظر وموادَه وأدواتِه، فالمهندسُ لو جاء بوجهةِ نظر تتصل بتخصُّصه فرأيه محترمٌ ويستحقُّ النظر، وكذلك الطبيبُ لو جاء بوجهة نظرٍ ترتبط بتخصُّصه، فرأيُه محترم، ويستحقُّ النظرُ والتقدير، وأما رأيُ غير الطبيب فيما يتصل بالطب فلا يُعدُّ رأياً لأنَّه لا يملكُ الأسبابَ التي تُؤهله لأن يُعطى رأياً في الطب، فمعيبٌ على الإنسان أنْ يُسمِّي ما يتبناه أو يقتنعُ به رأياً وهو لا يملكُ أسباب ذلك الرأي وموادَّه، وكذلك هو الحال في الشأن الديني ومطلق الشئونات.

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ / وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا / فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾(8)

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

2 من شهر رمضان 1436هـ - الموافق 19 يونيو 2015م

جامع الإمام الصادق (عليه السلام) - الدراز


1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 10 ص 166.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 10 ص 161.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 10 ص 166.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 10 ص 166.

5- "إياك والغيبة، فإنها إدام كلاب النار". بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 72 ص 246.

6- الأمالي -الشيخ الصدوق- ص 73.

7- سورة البقرة / 224.

8- سورة النصر.