الأدلَّة المُثبِتة لتورُّط يزيد بدم الحسين (ع) (2)

الدليل الثاني: على مسئولية يزيد عن دم الحسين

ونستعرض في هذا الدليل النصوص الدالَّة على تعلُّق إرادة يزيد بقتل الحسين (ع) إذا لم يُبايع حتى لو لم يُقاتله.

النص الأوّل: ذكر المؤرِّخون انَّه حينما مات معاوية وتسلَّم يزيد مقاليد الحكم كان شغله الشاغل هو بيعة الحسين (ع) ومجموعة من الشخصيَّات.

ومبرِّر هذا الاهتمام واضحٌ لمَن له أدنى اطلاع على ملابساتِ الإحداث إبَّان حكم معاوية بعد صلحِه للإمام الحسن (ع).

ونكتفي في المقام بذكر النصوص المعبِّرة عن هذا الاهتمام البالغ وما هي السياسة التي عزم يزيدُ على ممارستها إذا رفض الحسينُ بن عليٍّ (ع) البيعة.

في تاريخ اليعقوبي أنَّ يزيد: (كتب إلى الوليد بن عتبة بن ابي سفيان وهو عامل المدينة، إذا أتاك كتابي هذا فأحضر الحسين بن عليٍّ وعبد الله بن الزبير، فخذهما بالبيعة لي فإنْ امتنعا فاضرب أعناقهما وابعثْ لي برؤسهما، وخذ الناس بالبيعة فمن امتنع فانفذ فيه الحكم وفي الحسين بن عليٍّ وعبد الله بن الزبير والسلام)(1).

وتلاحظون انَّ هذا النصَّ صريحٌ في انّ السياسة التي رسا عليها يزيد بن معاوية تِّجاه الحسين بن عليٍّ (ع) هي التصفية الجسديَّة إذا لم يُبايع وانَّ الوليد ليس له خيارٌ آخر، فإمَّا ان يُبايع الحسينُ (ع) وامَّا أنْ يُقتل.

وهنا قد يُدَّعى ورود إشكالين على هذا النصِّ:

الإشكال الأول: إنَّ بعض المؤرِّخين لم يذكر في المكاتبة التي أرسلها يزيد إلى الوليد الأمر بالقتل، وكلُّ ما ذُكر فيها هو الأمر بأخذ البيعة من الحسين (ع) وجمع من الشخصيات، فما ذكره الطبري مثلاً هكذا: (وكتب اليه -أي إلى الوليد- في صحيفة كأنَّها إذن فأرة، أمَّا بعد فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليس فيه رخصةٌ حتى يُبايعوا، والسلام)(2).

والجواب عن هذا الإشكال: انَّه لا منافاة بين النصَّين، إذ انَّ النصَّ الذي نقله الطبري لم يشتمل على المنع من قتل الحسين (ع) إذا لم يُبايع، غايته انَّه لم يذكر انَّ يزيد قد أمر الوليد بالقتل في حال عدم البيعة وهذا لا ينفي وجود الامر بذلك، وذلك لما ثبت في علم الاُصول من انَّه لا تعارض بين الخبرين إذا كان أحدُهما مشتملاً على الزيادة وكان الآخرُ ساكتاً عنها، كما انَّ من الثابت في علم الاُصول انَّ المقدم في مثل هذه الحالة هو الخبر المشتمل على الزيادة الغير المنافية للخبر الساكت عنها.

مثلا: لو ورد في الأثر انَّ الأكل مفطِّرٌ للصائم والشربُ مفطِّرٌ للصائم، وورد خبر آخر انَّ الأكل الشرب والجماع مفطِّراتٌ للصائم فإنَّه لا تنافي بين الخبرين أصلاً وانَّه لابدَّ من الإلتزام بمفاد الخبر الآخر المشتمل على الزيادة، إذ لعلَّ المُخبر الاول لم يطَّلع على تمام الخبر أو أنَّه نسيَ بعض فقراته أو انَّه لم يُرِد ذكر الخبر بتمامه لمبرِّرٍ يراه موجباً لإهمال الزيادة، وهذا لا يُنافي وثاقة المُخبر بخلاف مالو بنينا على انَّ الزيادة ليست صحيحة وليست واردة فإنَّها تستوجب تكذيب المُخبر بالزيادة، وهذا خُلْف البناء على وثاقة المُخبر. واحتمال أن تكون الزيادة نشأت عن نسيان المُخبر ضعيفة جداً خصوصاً في مثل المقام والذي هو الامر بقتل الحسين (ع).

الجواب الثاني: انَّه ما معنى الأخذ الشديد الذي أمر به يزيد -بحسب نصِّ الطبري-، نقول: إنَّ هنا مجموعة من الاحتمالات الثبوتية لهذا الأمر.

الاحتمال الأول: هو أنَّ المراد من الأخذ الشديد هو أن يُغلظَ لهم القول ويُلحَّ عليهم بالبيعة دون أن يُرتِّب على عدم البيعة أيَّ إجراءٍ عمليٍّ.

وهذا الاحتمال بعيدٌ جداً، إذ ما هو المُلزم حينئذٍ للحسين (ع) بقبول البيعة والرضوخ لإصرار الوليد بعد أنْ لم يكن هذا التغليظ القولي مُستتبعاً لأيِّ إجراءٍ عمليٍّ يستوجبُ الضغط على الحسين (ع) لقبول البيعة.

ومع عدم قبول الحسين (ع) للبيعة باعتبار عدم جود الضاغط المُوجب للقبول يكون الغرض من الأمر بالبيعة منتفياً وغير متحقِّق، وهذا ما يُنافي إرادة يزيد الشديدة في أن يُبايع الحسين (ع)، ومن الواضح انَّ الذي لديه إرادة شديدة بشيءٍ لا يتوسَّل بوسيلةٍ لا تُحقِّق تلك الإرادة بل لابدَّ أن تكون الوسيلة متناسبة مع حجم الإرادة وطبيعتها خصوصاً وانَّ يزيد يعلم انَّ الحسين (ع) كان رافضاً للبيعة وانَّ معاوية نفسه لم يتمكن من إرغام الحسين (ع) على قبول العهد ليزيد كما ذكر المؤرِّخون(3).

كلُّ ذلك يُوضح سقوط هذا الاحتمال وانَّ يزيد لم يرد هذا المعنى من قوله، بحسب نقل الطبري: (أما بعد فخذ حسيناً .. بالبيعة أخذاً شديداً).

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد من الأمر بالأخذ الشديد هو أن يُمارس مع الحسين (ع) ضغوطاً لا تصل حدَّ القتل.

وهذا الاحتمال ساقطٌ أيضاً، وذلك لأنَّ الضغوط التي لا تصلُ حدَّ القتل لا تعدو عن أحد هذه الوسائل التي يمكن أنْ يتوسَّل بها الوليدُ بن عتبة في مقام إنفاذ أمر يزيد.

فهي إمَّا مصادرة أموال الحسين (ع)، وهذا وإنْ كان يُمثِّل ضغطاً إلا انَّ ذلك لا يحسمُ المشكلة بل يُؤكِّدها، إذ انَّ مثل الحسين (ع) -كما هو واضح من ملاحظة سيرته- لا يرضخُ لمجرَّد هذا الضغط، وانَّ يزيد من أكثر الناس اطلاعاً على إباء الإمام الحسين (ع) وسموِّ نفسه، على انَّ هذا النحو من الإجراء لم يكن مألوفاً فمن البعيد أنْ يخطر في ذهن الوليد هذا المعنى وانَّ مراد يزيد من الأمر بالأخذ الشديد هو هذا النحو من الإجراء، وهذا ما يتَّضح من ملاحظة الطريقة التي اعتمدها الوليد في مقام إنفاذ الامر المتوجِّه اليه من يزيد، ثم انَّه ماذا بعد مصادرة أموال الحسين (ع) إذا لم يرضخ لهذا الضغط، ومن هنا لابدَّ من أن يُمارس الوليد ضغطاً آخر.

والضغط المتصوَّر عند ذاك هو حبس الحسين (ع) وهذا مالا يُمكن أن تقبله عشيرة الحسين(4) بل ولا تقبله الاعراف السائدة آنذاك، إذ انَّ مكانة الحسين الاجتماعية والدينية تأبى ذلك وبهذا تظلُّ المشكلة ثابتة وغير محسومة فلا يكون الغرض الاُمويُّ حينئذٍ متحقِّقاً، وهكذا الحال لو فُرض على الحسين (ع) الإقامة الجبرية فإنَّ المشكلة لا تُحسم بذلك، وهذا ما يتنافى مع الغرض الاُمويِّ.

ثم انَّ هناك ضغطاً آخر يُمكن للوليد أن يُمارسه لغرض إرضاخ الحسين (ع) على قبول البيعة، وهو أن ينفيه من المدينة، وهو من أضعف الإحتمالات التي يمكن أنْ تخطر في ذهن الوليد، إذ انَّ ذلك يُعقِّد المشكلة أكثر، إذ يبقى الحسين (ع) رافضاً للبيعة ويبقى النظام الامويُّ متوجِّساً من وجوده وموقعه وما يمكن أنْ يتمخَّض عنه مِن تبعات.

والذي يُؤكِّد ذلك هو حرص الوليد على عدم خروج الحسين (ع) من المدينة ولذلك كان خروجه منها سرَّاً(5).

وبهذا اتضح انَّ كل الضغوط المتصورة لا تحسمُ المشكلة بل قد تُعقِّدها، إذ تظلُّ قضيَّة الحسين(ع) عالقة، وقد تُضفي عليها الايام تعقيداً وحينها يكون حسمها مستعصياً. واتِّخاذ خيار القتل وإنْ كان خياراً صعباً إلاّ انَّه أيسر من وجود الحسين(ع) وإبائه للبيعة، إذ انَّ ذلك يُنذر بثورة قد لا يكون علاجها ميسوراً.

على انَّ يزيد بن معاوية حينما أمر الوليد بالأخذ الشديد لم يطلب من الوليد مراجعته في حين أن كلَّ هذه الضغوط قد لا تُنتج النتيجة المطلوبة وهي مبايعة الحسين (ع) ليزيد ممَّا يُعبِّر عن انَّ يزيد قد أعطى الوليد الصلاحيَّة في اتِّخاذ كافة الخيارات بما فيها القتل وإلاّ لأمره بالمراجعة حينما تفشل كلُّ الضغوط.

فعدم أمره له بالمراجعة يُعبِّر عن انَّ يزيد قد حسم القضيَّة، على انَّ يزيد لو كان متجافياً عن قتل الحسين (ع) حين رفض البيعة كان عليه أن يُبيِّن للوليد الإجراء الذي يلزمه اتِّخاذه حين رفضِ الحسين(ع) للبيعة.

الإحتمال الثالث: -من الأمر بالأخذ الشديد- هو اعطاء الصلاحية الكاملة للوليد بأن يُمارس مع الحسين (ع) تمام الخيارات حين رفضه للبيعة بما في ذلك القتل.

وهذا الاحتمال هو الاحتمال المتعيِّن بعد سقوط الاحتمالين الأولين. ويُمكن إبراز مجموعة من القرائن والمؤيِّدات على تعيُّن هذا الاحتمال.

القرينة الأولى: هو انَّ مروان بن الحكم حينما أمر الوليد بقتل الحسين (ع) إذا رفض البيعة لم يعتذر اليه الوليد بأنَّ ذلك يُنافي ما أمر به يزيد، ولم يُعتذر اليه الوليد بأنَّ يزيد لم يأمر بذلك بل اعتذر اليه بأنَّ قتل الحسين (ع) حرام وغير جائز شرعاً.

وإليك نصُّ الحوار الذي دار بين الوليد ومروان بن الحكم بحسب نقل الطبري: (فلمَّا عظُم على الوليد هلاك معاوية وما أُمر به من أخذ هؤلاء الرهط بالبيعة فزع عند ذلك إلى مروان ودعاه، فلمَّا قرأ عليه كتاب يزيد استرجع وترحَّم عليه، واستشاره الوليد في الأمر وقال كيف ترى نصنع؟ قال: فإنِّي أرى أنْ تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطاعة، فإنْ فعلوا قبلتَ منهم وكففتَ عنهم وإنْ أبوا قدَّمتهم فضربتَ أعناقهم قبل أنْ يعلموا بموت معاوية، فإنَّهم إنْ علموا بموت معاوية وثَب كلُّ امرءٍ منهم في جانب وأظهر الخلاف والمنابذة، ودعا إلى نفسه.

وجاء حسين فأقرأه الوليد الكتاب فقال حسين .. أما ما سألتني من البيعة فإنَّ مثلي لا يُعطي بيعته سرَّاً .. فقال: أجل فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس، فقال الوليد وكان يحبُّ العافية فانصرف على اسم الله .. فقال مروان: والله لئن فارقَك الساعة ولم يُبايع لاقدرتَ منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يُبايع أو تضرب عنقه .. فقال مروان للوليد: عصيتني لا والله لا يُمكنك من مثلها من نفسه أبداً، قال الوليد: وبخ غيرك يا مروان إنَّك اخترتَ لي التي فيها هلاك ديني، والله ما أُحبُّ أنَّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإنِّي قتلتُ حسيناً، سبحان الله أقتل حسيناً أنْ قال لا ابايع!!، والله إنِّي لأظنُّ امرءً يُحاسَبُ بدم الحسين لخفيفُ الميزان عند الله يوم القيامة)(6).

تلاحظون انَّ الوليد لم يعتذر إلى مروان بأنَّ قتل الحسين (ع) منافٍ لأمرِ يزيد كما انَّه لم يعتذر بأنَّ يزيد لم يأمر بقتل الحسين (ع).

ثم انَّ الوليد لم يستبعد خيار القتل، ولم يعتذر عنه بأنَّه لا تصل النوبة اليه لوجود خياراتٍ اخرى يمكن التوسُّل بها لإرغام الحسين (ع) على قبول البيعة، مما يُعبِّر عن انَّه لا خيار يُمكن اتِّخاذه ويكون ناجعاً ومحقِّقاً للغرض، فإمَّا البيعة أو القتل ولمَّا كان الوليد متحرِّجاً دينيَّاً من قتل الحسين (ع) لم يُتعب نفسه ويفكِّر في وسيلةٍ اخرى لإرغام الحسين (ع) لمعرفته بأنَّ كلَّ الوسائل الاخرى غير ناجعة، فلذلك تلاحظون انَّه لم يُسخِّف رأيَ مروان حينما قال له إنَّك لا تقدر عليه بعد هذه الساعة، فكأنَّما مروان يقول إنَّ علاج المشكلة هو قتل الحسين (ع) وهو الآن مؤاتياً وبعد هذه الساعة يكون صعباً، ولم يطرأ في خلَدِ مروان غير هذا الخيار كما لم ينقض الوليد هذا الرأي. فالوليد يرى انَّ هذا الرأي يُناسب الغرض إلاّ انَّه ينافي الدين.

كلُّ ذلك يُعبِّر عن انَّ خيار القتل لم يكن مستثنى من الأمر بالأخذ الشديد الذي أصدره يزيد، وهذا هو الفهم الذي فهمه الوليد ومروان من خطاب يزيد، وهما أعرف الناس بملابسات القضيَّة وما تنطوي عليه شخصيَّة يزيد بن معاوية.

القرينة الثانية: -على تعيُّن الاحتمال الثالث- انّ خيار القتل حال رفض البيعة هو الذي تبادر إلى ذهن الحسين بن علي (ع) وعبد الله بن الزبير حينما دعاهما الوليد.

وهذا ما يُعبِّر عن انَّ الخيارات الأُخرى موهومة وانَّ طبيعة القضيَّة وطبيعة السياسة الاُمويَّة تقتضيان تعيُّن هذا الخيار دون غيره. وإليك هذا النصُّ التاريخي الذي ينقله لنا الطبري: (فأرسل-أي الوليد- عبد الله بن عمرو بن عثمان .. إليهما فوجدهما في المسجد وهما جالسان فأتاهما في ساعةٍ لم يكن الوليد يجلس فيها للناس فقال: أجيبا، الأمير يدعو كما، فقالا له: انصرف الآن نأتيه، ثم أقبل أحدُهما على الآخر فقال عبد الله بن الزبير للحسين: ظنَّ فيما تراه بعث إلينا في هذه الساعة، فقال حسين: قد ظننتُ، أرى طاغيتهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أنْ يفشو في الناس الخبر، فقال: وأنا ما أظنُّ غيره.

قال: فما تُريد أن تصنع، قال أجمعُ فتياني الساعة ثم أمشي اليه، فإذا بلغتُ الباب احتبستُهم عليه ثم دخلتُ عليه، قال: فإنِّي أخاف عليك إذا دخلت، قال لا آتيه إلاّ وأنا على الإمتناع قادر، فقام فجَمعَ اليه مواليه وأهل بيته ثم أقبل يمشي حتى انتهى إلى باب الوليد، وقال لاصحابه إنِّي داخل فإنْ دعوتُكم أو سمعتم صوتَه قد علا فاقتحموا عليَّ باجمعكم وإلاّ فلا تبرحوا حتى أخرجَ اليكم)(7).

فهذا النصُّ يوضح انّ الحسين(ع) وكذلك ابن الزبير يعرفان انَّه لا خيار ثالث إمَّا البيعة أو القتل، ولذلك نجد أنَّ الحسين (ع) قال للزبير: (لا آتيه إلاّ وأنا على الامتناع قادر) وجمع فتيانه وذهب معهم إلى بيت الوليد وأمرهم بالإقتحام بمجرَّد دعوتهم أو سماع صوت الوليد قد ارتفع، وهذا الإحتراز والحيطة لا مبرِّر له سوى معرفة الحسين(ع) انَّ خيار القتل هو الخيار المتعيِّن في حال رفض البيعة، وهذا الهاجس كان متبلوراً في ذهن ابن الزبير أيضاً كما يُعبِّر عنه قوله: (فإنِّي أخافُ عليك إذا دخلت عليه)، وقد أكَّد الحسينُ (ع) هذا الهاجس بجوابه لابن الزبير والذي نقلناه لك.

ثم انَّ الهاجس كان مستقراً في نفس ابن الزبير، فلذلك لم يذهب إلى الوليد بل تحرَّز باصحابه ثم خرج بعد ذلك من المدينة سرَّاً وذهب إلى مكة المكرمة، وحينما دخلها قال: (إنِّي عائذ)، وهاك نصُّ الطبري في ذلك: (وأمَّا ابن الزبير فقال: الآن آتيكم ثم أتى داره فكمِن فيها فبعث اليه الوليد فوجده مجتمعاً في أصحابه متحرِّزاً فالحَّ عليه بكثرة الرسل .. فقال لا تعجلوني فإنِّي آتيكم .. فشتموه وصاحوا به يا ابن الكاهلية والله لتأتينَّ الامير أو ليقتلنك .. وخرج ابنُ الزبير من تحت الليل فأخذ طريق الفرع .. وتجنَّب الطريق الاعظم مخافة الطلب وتوجه نحو مكة .. ومضى ابنُ الزبير حتى أتى مكة وعليها عمرو بن سعيد فلمَّا دخل مكة قال: إنّما أنا عائذ ..)(8).

وبما ذكرناه يتَّضح انَّ خيار القتل هو المتبادر في حال رفض البيعة.

ويمكن تأكيد ماذكرناه بما نقله الطبري عن أبي مخنف قال: (وحدَّثني عبد الملك بن نوفل عن ابي سعد المقبري قال: نظرتُ إلى الحسين داخلاً مسجد المدينة وهو يتمثَّل بقول ابن مفرَّغ:

لا ذعرتُ السوام في فلق ** الصبح ولا دُعيت يزيدا

يوم أُعطي من المهابة ضيماً ** والمنايا يرصدنني أنْ أحيدا)(9)

وكذلك يمكن تأكيده بقول الحسين (ع) حينما خرج من المدينة سرَّاً فخرج منها خائفاً يترقب (10)(11).

القرينة الثالثة: -على تعيُّن الاحتمال الثالث- انَّ يزيد بن معاوية قد عزل الوليد بن عتبة عن المدينة في شهر رمضان(12) من نفس السنة التي تولَّى فيها مقاليد الحكم أي لم يمضِ على إقراره(13) على الولاية من قِبل يزيد أكثر من شهرين، حيثُ انَّ يزيد قد تولَّى مقاليد الحكم في نهاية رجب(14)، وقد ورد في كتب المؤرِّخين بما فيهم الطبري انَّ يزيد قد أقرَّ جميع ولاة أبيه معاوية على مناصبهم، ترى ماهو منشأ ذلك؟

نقول: إنَّ من المحتمل قريباً انَّ المنشأ لعزل الوليد عن ولاية المدينة هو نفسه المنشأ الذي دعا يزيد إلى عزل النعمان بن بشير عن الكوفة، حيث نقلنا لك سابقاً عن الطبري وكذلك غيره انَّ السبب في عزل يزيد للنعمان هو قضيَّة الحسين (ع)(15) وانَّ المُخلصين ليزيد كتبوا ليزيد انَّ النعمان ضعيفٌ أو يتضعف.

ومن الظريف انَّ الإعتذار(16) الذي اعتذر به النعمان عن التصدِّي لقضيَة الحسين(ع) هو نفسه الاعتذار الذي اعتذر به الوليد وهو انَّ مواجهة الحسين (ع) وقتله منافٍ للدين.

ترى ما هو الموجب لأنْ يعزل يزيدُ أحدَ ولاة أبيه بعدما أقرَّه خصوصاً وانَّ الفاصلة الزمنية بين اقراره وعزله قصيرة جداً، وكيف اتَّضح وبهذه السرعة ليزيد انَّ هذا الرجل الامويَّ-والذي لا يُشَكُّ في اخلاصه لهذه الدولة وأهليَّته لهذا المنصب في نظر رأس الدولة وقطب رحاها وهو معاوية- غيرُ مؤهَّلٍ للإستمرار في الولاية؟!.

كلُّ ذلك يُعزِّز انَّ المنشأ لعزل الوليد انَّما هي قضيَّة الحسين (ع)، وانَّ يزيد رأى انَّ الوليد لم يمتثل أمره في شأن الحسين (ع)، في حين انَّنا نرى انَّ الوليد قد بعث إلى الحسين بمجرَّد وصول الكتاب اليه وطلب منه البيعة ثم شدَّد على الحسين (ع) وحاول منعه من الخروج من المدينة كما نقل الطبري بل نقل الطبري انَّه كان أشدَّ على الحسين (ع) منه على ابن الزبير(17)، تُرى ماهو المبرِّر الذي أوجب استضعاف يزيد للوليد بعد أنْ كان قد امتثل أمره في شأن الحسين (ع)؟!.

وهذا السؤال يبقى مُلحَّاً وليس له جواب سوى ماذكرناه من انَّ يزيد قد أمر الوليد بقتل الحسين (ع) إذا رفض البيعة وانَّ ذلك هو مقصوده من الأمر بالأخذ الشديد وانَّ الوليد كان يفهم ذلك جيداً(18).

ولعلَّ تنصيب يزيد لعمرو بن سعيد الأشدق(19) يُعزِّز ماذكرناه حيث انَّ هذا الرجل كان أمضى في قضيَّة الحسين من الوليد، وكانت سريرته متسانخة تماماً مع سريرة يزيد، كما تُعبِّر عن ذلك سيرتُه، فهو الذي قال عندما سمع واعية الحسين (ع) في المدينة في بيوتات بني هاشم قال شامتاً ضاحكاً:

عجَّت نساء بني زياد عجَّة ** كعجيج نسوتنا غداة الارنب

ثم قال: (واعيةٌ بواعية عثمان)(20).

ومن الملفت للانتباه انَّ يزيد قد أعطى عمرو بن سعيد الاشدق نفس الوسام الذي أعطاه لعبيد الله بن زياد، فيزيد عندما عزل النعمان بن بشير عن الكوفة بسبب توانيه عن التصدِّي لقضية الحسين، أوعز بالولاية عليها إلى عبيد الله بن زياد، فيكون قد جمع له بين الولاية على البصرة الولاية على الكوفة(21)، وهذا هو ما صنعه مع عمرو بن سعيد الاشدق بعد أن عزل الوليد عن المدينة حيث انَّ عمرو بن سعيد كان والياً على مكة المكرمة فجمع له بين الولاية على مكة المكرمة والولاية على المدينة المنورة(22).

ولا أظنُّ انَّ ذلك كان اتفاقيَّاً وبنحو المصادفة اذ انَّ أمثال يزيد يُجيدون تسيير الأمور لصالحهم.

وبهذا اتَّضح انَّه لا منشأ آخر لعزل الوليد عن المدينة سوى ما ذكرناه وانَّه لم يمتثل أمر يزيد في شأن الحسين (ع) وانَّه كان يتحرَّج من قتل الحسين(ع) كما كان النعمان يتحرَّج من ذلك.

وانَّ الذي دعى يزيد إلى أنْ يضمَّ لاية المدينة إلى عمرو الأشدق هو نفس الداعي الذي دعا يزيد إلى أنْ يضمَّ ولاية الكوفة إلى عبيد الله بن زياد، إذ انَّ هاتين الشخصيتين -كما تُوضح سيرتهما- من أحرص الناس على هتك حرمات الله جلَّ وعلا.

وبما ذكرناه اتَّضح انَّه لا منافاة بين ما نقله اليعقوبي وبين ما نقله الطبري بل انَّ بين النقلين تمام الموائمة.

الإشكال الثاني: على نصِّ اليعقوبي- هو انَّه لو كان يزيد قد أمر الوليد بقتل الحسين (ع) إذا لم يُبايع، فلماذا لم يحتج مروان عليه بذلك، ولماذا قال له عندما لم يقتل الحسين (ع) حين رفض البيعة (عصيتني) ولم يقل عصيت يزيد، فلو كان يزيد قد أمر الوليد حقاً بقتل الحسين(ع) لكان المناسب أنْ يحتجَّ مروان على الوليد بأنَّ عدم قتل الحسين (ع) يُخالف أمر يزيد.

والجواب عن هذا الإشكال:

انَّ المقصود من قول مروان للوليد (عصيتني) هو انَّ الوليد لم يُبادر في قتل الحسين(ع) حين رفض البيعة وقبل أنْ يفشو موتُ معاوية ويأخذ الحسين (ع) لنفسه الحيطة والتحرُّز. وهذا المقدار لم يرِد في رسالة يزيد إلى الوليد، ولذلك لا يمكن لمروان أن ينسب معصية الوليد إلى يزيد، إذ انَّ يزيد لم يأمر بهذه الكيفيَّة الخاصَّة التي اقترحها مروان.

ومن هنا ناسب أن يقول مروان للوليد: (عصيتني). وحتى يتَّضح ما ذكرناه ننقل لك نصَّ الحوار الذي دار بين الوليد ومروان كما نقله الطبري: (فلمَّا عظم على الوليد هلاك معاوية وما أمر به من أخذ هؤلاء الرهط بالبيعة فزع عند ذلك إلى مروان ودعاه فلمَّا قرأ عليه كتاب يزيد .. وقال كيف ترى نصنع؟ قال: فإنّي أرى أنْ تبعث الساعة إلى هؤلاء فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطاعة، فإنْ فعلوا قبلتَ منهم وكففتَ عنهم وإنْ أبوا قدَّمتهم فضربتَ أعناقهم قبل يعلموا بموت معاوية، فإنَّهم إنْ علموا بموت معاوية وثَبَ كلُّ امرءٍ منهم في جانب وأظهر الخلاف والمنابذة) ثم انَّه لمَّا جاء الحسين(ع) إلى الوليد وأبا ان يُبايع قال مروان للوليد كما نقل الطبري: (والله لئن فارقك الساعة ولم يُبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يُبايع أو تضرب عنقه) ثم لمَّا خرج الحسين من مجلس الوليد قال مروانُ للوليد: (عصيتني لا والله لا يُمكنك من مثلِها من نفسه أبداً)(23).

وواضح من سياق هذا النص انَّ مراده من قوله: (عصيتني) هو انَّك عصيتني في استثمار هذه الفرصة والذي يدلُّ على ذلك انّه قال بعد قوله: (عصيتني) (لا والله لا يمكنك من مثلها من نفسه).

وبالتأمُّل في النصِّ الذي نقلناه عن الطبري يتَّضح انَّ مروان لم يخطر في باله انَّ الوليد لن يمتثل أمر يزيد في قتل الحسين (ع) فمروان حينما اقترح على الوليد بأنْ يقتل الحسين (ع) في أول فرصةٍ سانحة -وقبل أن ينتشر موت معاوية ويأخذ الحسين (ع) لنفسه الحيطة والحذر- فمروان حينما اقترح عليه ذلك لم يُبد الوليد أيَّ معارضة بل بادرإلى دعوة الحسين (ع) في ساعةٍ لم يكن يجلس فيها وكأنَّه استجاب لاقتراح مروان.

وحتى بعد أن جرت المشادَّة الكلاميَّة بين مروان والحسين (ع) في مجلس الوليد لم يظهرمن الوليد ما يكشف عن انَّه متجافٍ عن قتل الحسين (ع) بنحوٍ مطلق(24). ومن هنا لا مبرِّر لأنْ يقول مروان إنَّك عصيت أمر يزيد، نعم هو عصى أمرُ مروان حيث لم يستثمر هذه الفرصة السانحة.

قد تقول إنَّ مروان اطَّلع بعد ذلك على انَّ الوليد لن يقتل الحسين (ع) ولن يمتثل أمر يزيد.

إلاّ انَّه يُقال انَّ مروان انَّما اطَّلع على ذلك بعد أن اعتذر الوليد عن قتل الحسين (ع) بأنَّ ذلك غيرُ جائزٍ شرعاً، وحينئذٍ لا مجال لأن يُجيبه مروان بأنَّ ذلك مخالفٌ لأمر يزيد بعد أن اعتذر الوليد عن قتل الحسين (ع) بأنَّه مخالف لأمر الله جلَّ وعلا، ولذلك سكتَ مروان وهو غير حامد، واليك نصُّ الحوار الذي دار بين مروان والوليد في ذلك بحسب نقل الطبري: (فقال مروان للوليد عصيتني، لا والله لا يمكِّنك من مثلها من نفسه أبداً، قال الوليد وبِّخ غيرك يا مروان إنَّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني، والله ما أُحبُّ انَّ لي ما طلعتْ عليه الشمسُ وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وانِّي قتلتُ حسيناً، سبحان الله أقتل حسيناً أن قال لا أُبايع!!، والله إنِّي لأظنُّ امرءً يُحاسَب بدم الحسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة، فقال مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت، يقول هذا له وهو غير الحامد له على رأيه)(25).

وتلاحظون انَّ مروان استحى من جواب الوليد وأظهر خلاف ما يُبطن، وحينئذٍ لا مجال لأنْ يقول للوليد إنَّك خالفت أمر يزيد، إذ أنَّ جواب الوليد كان حاسماً وانَّ الردَّ عليه بأنَّ ذلك مخالف لامر يزيد يعني الخروج عن الدين وهذا مالا يسع مروان اظهاره ولذلك أحجم عن الجواب وهو غير حامد.

هذا تمام الكلام في النصِّ الاول الدالِّ على انَّ إرادة يزيد كانت متعلِّقة بقتل الحسين (ع) متى ما رفضَ البيعة.

ويمكن تأكيد نصِّ اليعقوبي الذي نقلناه لك بما نقله أبو المؤيَّد بن أحمد المكي الخوارزمي في مقتل الحسين (ع) من انّ يزيد كتب للوليد بعد أن سمع برفض الحسين للبيعة: (أما بعد، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخُذ البيعة ثانية على أهل المدينة توكيداً منك عليهم .. وليكن مع جواب كتابي هذا رأس الحسين فإنْ فعلتَ ذلك جعلتُ لك أعنَّة الخيل .. والحظَّ الأوفر، والسلام)(26).

النص الثاني: ما ذكره الطبري عن بعض الرواة قال: (سمعتُ الحسين بن عليٍّ وهو بمكة وهو واقف مع عبد الله بن الزبير .. ثم التفت الينا الحسين فقال أتدرون ما يقولُ ابن الزبير، فقلنا: لا ندري جعلنا اللهُ فداك فقال: قال: أقِمْ في هذا المسجد أجمع لك الناس، ثم قال الحسين (ع): والله لإنْ أُقتل خارجاً منها بشبرٍ أحبُّ اليَّ من ان أُقتل داخلاً منها بشبر، وأيم الله لو كنتُ في جحرِ هامَّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم، والله ليعتدن عليَّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت)(27).

وتلاحظون انَّ هذا النصَّ صريح في انَّ الحسين (ع) كان عارفاً بما انطوت عليه الدولة الاُمويَّة والتي على رأسها يزيد بن معاوية، وانَّ إرادتهم قد تعلَّقت بقتل الحسين (ع) حتى ولو اختبأ في جحر هامَّة، وهو أبلغُ تعبيرٍ عن مدى الإرادة الشديدة التي تنطوي عليها نفوس بني اميَّة وانَّهم لا يتركونه وشأنه حتى ولو لم يخرج بالثورة عليهم، فمبرِّرُ عزمهم على قتله ليس أكثر من عدم البيعة ليزيد.

ولذلك تجد انَّ الحسين (ع) أقسم بأنَّ قتله حتميٌّ، وليس الخروج بالثورة على يزيد هو المبرِّر الوحيد لاستحلال دمه، ولذلك قال (ع) إنّه عازمٌ على الخروج حتى لا تُهتك بقتله حرمة بيت الله الحرام، فهو يأبى أن يكون الكبش الذي يُستباح به بيت اللهِ الحرام، ولذلك فضَّل أن يُقتل خارج الحرم ولو بشبر.

ومن الواضح انَّ هذا الجزم عند الحسين (ع) والذي كشف عنه بقسَمه المتكرِّر لم ينشأ جُزافاً، فهو صاحب القضية، ولذلك يكون أعرفَ الناس بملابساتها، ولا يُناسب شأنَ الحسين (ع) ومقامه الديني أنْ ينسب إلى يزيد والى بني اميَّة شيئاً بغير علم.

والذي يؤكِّد هذا الأمر انَّ عمرو بن سعيد الاشدق حينما عرف بخروج الحسين (ع) من مكة المكرمة احتال على ذلك بإعطائه الأمان(28)، وما ذلك إلا لأنَّ الحسين (ع) لم يكن آمناً في مكة وإنَّما هو الوقت والفرصة المؤاتية لقتله إلاّ انَّه حينما يخرج الحسين(ع) من مكة تكون فرصة اغتياله مستعصيةً جداً.

وقد تقول انّه ما كان لعمرو الاشدق أن يُعطي الحسين (ع) أماناً لولا انّه كان يعلم بقبول يزيد بذلك الامان.

إلا انَّه يُقال: انَّ الحسين (ع) كان أعرف ببني اميَّة وانَّ ذلك لم يكن أكثر من مناورة قد تنجح وتصرف الحسين (ع) عن الخروج من مكة وعندها تكون فرصة اغتياله مؤاتية كما انَّ بقاءه في مكة كان أفضل من خروجه إلى العراق وتحرُّزِه بشيعته هناك، إذ انَّ المفترض انَّهم لن يُسلموه حتى تكثر القتلى بينهم وبين بني اميَّة.

وهناك بعض النصوص التاريخية تُشيرُ إلى انَّ اعطاء عمرو بن سعيد الاشدق الامان للحسين (ع) انَّما كان بعد طلبه والعجز عن صرفه عن الخروج من مكة المكرمة، فقد ذكر ابنُ قتيبة في كتاب الامامة والسياسة ماهذا نصه: (فلمَّا انصرف عمرو بلغه انَّ الحسين خرج، فقال: اركبوا كل بعيرٍ بين السماء والارض فاطلبوه، قال: فكان الناس يعجبون من قوله هذا قال: فطلبوه فلم يُدركوه)(29).

وقد تقول انَّة لو كانت إرادة يزيد وبني اميَّة هي قتل الحسين (ع) في مكة فلماذا نصحه عبد الله بن جعفر وكذلك ابن عباس ومحمد بن الحنفيَّة بعدم الخروج من مكة وهم ممَّن لا يُشكُّ في اخلاصهم للحسين (ع) فهل كانوا لا يعلمون بأنَّ حياة الحسين (ع) في خطرٍ إذا بقي في مكة المكرمة، وهل أرادوا ان يُستباح بالحسين (ع) حرمة البيت الحرام.

فنقول إنَّه ليس من الضروري أن يكونوا على اطلاعٍ تامٍّ بما عزمت عليه بنو اميَّة(30) -وعلى رأسهم يزيد- من قتل الحسين (ع)، فلا مجال لهذا الإشكال بعد أن صرَّح الحسين (ع) بما عزمتْ عليه بنو اميَّة من قتله وأكَّد ذلك بتكرار قسَمه كما نقلنا لك نصَّ كلامه (ع).

ثم انَّه لعلَّهم كانوا مطَّلعين على الإرادة الاُمويَّة إلا انَّهم كانوا يرون انَّ بني اميَّة لا تتمكَّن من قتل الحسين (ع) في مكة نظراً لحرمتها أو انَّ الحسين (ع) كان له مَن يحميه في مكة أو انَّهم يتمكنون من التماس امانٍ له كما صنع ذلك عبد الله بن جعفر(31)، لعلَّ ذلك هو الذي دعا هؤلاء الكرامأنْ ينصحوا الحسين (ع) بأن يبقى في مكة المكرمة.

ثم انّ الملاحظ لنصائح هؤلاء انَّ نظرهم لم يكن مركزاً على أصل الخروج من مكة وانَّما هو التوجُّه إلى العراق، فهم يرون انَّ بقاءه في مكة رغم انَّه في خطر إلا انَّ احتمال قتله حينما يخرج من مكة إلى العراق أقرب، فلذلك نصحوه بعدم الخروج(32).

ونحن لسنا بصدد الحديث عن مجموع الغايات التي خرج من أجلها الحسين (ع) من مكة المكرمة، إذ هذا خارج عن محلِّ البحث، ومحلُّ البحث هو ما صرَّح به الحسين (ع) من انَّ غاية يزيد وبني اميَّة هي قتله بمجرَّد انَّه لم يُبايع، والنص الذي ذكرناه لا يترك مجالاً للشك إلاّ انَّ ذلك انَّما هو لمن ألقى السمع وهو شهيد.

وقد تقول إنَّ النصَّ ليس صريحاً في انَّ غاية يزيد وبني اميَّة هي قتل الحسين (ع) إذ انَّ الحسين (ع) إنَّما قال: (لو كنتُ في جحر هامَّة لاستخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم) فلم يصرِّح بالحاجة التي يريد بنو اميَّة قضاءها من الحسين (ع)، فلعلَّ هذه الحاجة لا تصل إلى حدِّ القتل.

نقول: إنَّ هذا من التدليس في النقل، وذلك لانَّه من التقطيع المخل حيث انَّ الحسين (ع) لم يكتفِ بهذا القول وانَّما صدَّر كلامه، كما نقلنا ذلك بقوله: (لإنْ أُقتل خارجاً منها بشبرٍ أحبُّ اليَّ من أنْ أُقتل داخلاً منها بشبر) ثم قال (وايمُ الله لو كنتُ في جحر هامَّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم) ثم ذيَّل كلامه (ع) بقوله: (والله ليعتدن عليَّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت)(33).

فصدر كلامه يوضح ماهي الحاجة التي يريدون قضاءها منه وماهي مرتبة الإعتداء التي عزموا على ارتكابها منه (ع).

ويمكن تأكيد النصِّ الذي نقلناه لك بما ذكره جمعٌ من المؤرخين من انَّ ابن عباس كتب إلى يزيد كتاباً جاء فيه: (فلستُ بناسٍ اطرادك الحسين بن عليٍّ من حرم رسول الله (ص) إلى حرم الله، ودسّك اليه الرجال تغتالُه، فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة فخرج منها خائفاً يترقَّب، وكان أعزَّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً وأعزَّ أهلها حديثاً وأطوعَ أهل الحرمين بالحرمين لو تبوأ بها مقاماً واستحلَّ بها قتالاً، ولكن كرهأنْ يكون هو الذي يستحلُّ حرمة البيت وحرمة رسول الله (ص) فأكبر من ذلك مالم تكبر حيث دسستَ اليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم)(34).

وتلاحظون انَّ هذا النصَّ صريحٌ جداً فيما ذكرناه ومطابقٌ تماماً لكلام الامام الحسين (ع) والذي نقلناه عن جمع من المؤرِّخين.

النص الثالث: ما نقله اليعقوبي: وهذا نصُّه: (وأقبل الحسين من مكة إلى العراق وكان يزيد قد ولَّى عبيد الله بن زياد العراق، وكتب اليه قد بلغني أنَّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم وانَّه خرج من مكة متوجهاً نحوهم، وقد بُليَّ به بلدك من بين البلدان وأيامك من بين الايام فإنْ قتلته وإلا رجعت إلى نسبك وإلى أبيك عبيد فاحذر أنْ يفوتك)(35).

هذا النصُّ صريحٌ في أنَّ يزيد هو الذي أوعز إلى عبيد الله بن زياد بقتل الحسين (ع) وهدَّده إنْ لم يمتثل لسوف يُرجعه إلى نسبه، وهو يشير إلى قضية إلحاق معاوية زياداً إلى أبي سفيان(36)، وهي قضية مشهورة جداً حتى قال ابن الاثير في الكامل: (وأنا ذاكرٌ سبب ذلك وكيفيته، فإنَّه من الامور المشهورة الكبيرة في الاسلام ولا ينبغي اهمالها، وكان ابتداء حاله انَّ سمية أم زياد كان لدهقان زندرود)(37) ثم ذكر الحدث مفصلا.

وواضح انَّ يزيد في هذه المكاتبة يُحرِّك وتراً كان يخشاه عبيد الله بن زياد أشدَّ الخشية، وهذه الوسيلة قد استفاد منها معاوية بن ابي سفيان في موارد عديدة مع زياد بن سميَّة، وهي مذكورة في كتب التاريخ(38)، وهنا يزيد يتوسَّل بذاتالوسيلة مع عبيد الله بن زياد، وهذا ما يُؤكِّد حرص يزيد بن معاوية على قتل الحسين (ع) بعد أنْ فشل حينما أوعز إلى الوليد بقتله في المدينة وفشل في المرَّة الثانية حينما كان الحسين (ع) في مكة.

وواضحٌ من هذه المكاتبة انَّ يزيد لم يُعلِّق الأمر بقتل الحسين(ع) على عدم البيعة، وذلك لأنَّه عرف بعد كلِّ تلك المحاولات انَّ الحسين (ع) لن يُبايع وانَّ الأمور قد أخذت منحىً خطيراً، وانَّ إباء الحسين (ع) للبيعة قد ذاع بين الناس، وهذا ما قد يُساهم في التمرّد على الدولة الأمويَّة. فلا يحسِمُ هذه المشكلة التي بدأت تستفحل سوى قتل الحسين (ع)، ولذلك احتاج يزيد إلى أنْ يُؤكِّد حرصه على قتل الحسين (ع) بالتهديد الذي وجَّهه إلى عبيد الله بن زياد، والذي لا يدع مجالاً لأنْ يتوانى ابنُ زياد في هذا السبيل، ففي الوقت الذي يُدركُ عبيد الله بن زياد معنى إرجاعه إلى نسبه الحقيقي وانَّه بذلك يُصبح من أولاد الزنا كذلك يُدرك انَّ معنى هذا التهديد هو عزله عن منصب الولاية وهذا مالا يرضاه ابنُ زياد لنفسه، فهو على استعدادٍ في أن يصنع المستحيل وأن يجترح كلَّ عظيم في سبيل التحفُّظ على انتسابه لبني أمية وفي سبيل التحفُّظ على ولاية الكوفة والبصرة.

وواضحٌ من هذا النص انَّ يزيد لم يجعل لابن زياد خياراً آخر غير القتل، فحتى لو انصرف الحسين(ع) عن الثورة أو انَّ عبيد الله بن زياد ظفر بالحسين (ع) وتمكَّن من أسره فإنَّ خيار القتل هو الخيار الوحيد الذي انعقدت عليه إرادة يزيد بن معاوية وإلاّ كان عليه أنْ يجعل لابن زياد فسحةً في تدبير شئون هذه القضية، وهذا ما يُعبِّر عن انّ يزيد قد تبلور في ذهنه أنْ لا علاج لهذه المشكلة سوى قتل الحسين (ع) حتى ولو أبدى الحسين (ع) مرونةً وانصرف عن الثورة مثلاً أو أزمع على عقد صلحٍ كما صنع الامامُ الحسن (ع)، كلُّ هذه الإحتمالات لم يُعر لها يزيدٌ أيَّ اهتمام، ولذلك ذيَّل مكاتبته بالتحذير من فوات الحسين (ع) حيث قال: (فاحذرْ أنْ يفوتك).

قد يُقال إنَّ هذا النص منافٍ للنصِّ الذي ذكره الطبري والذي هو عبارة عن المكاتبة التي بعثها يزيد إلى ابن زياد حينما بعث اليه عبيد الله برأسي مسلم بن عقيل وهاني بن عروة حيث نقل الطبري انَّ يزيد في تلك المكاتبة قال لعبيد الله بن زياد: (غير انَّك لا تقتل إلاّ مَن قاتلك)(39)، إذ انَّه في النصِّ الذي ذكره اليعقوبي لم يُعلِّق يزيد الامر بقتل الحسين (ع) على شيءٍ بل انَّه أمر بقتله بنحوٍ مطلق في حين أنَّ الذي نقله الطبريُّ هو انَّ يزيد قد علَّق الامر بالقتل على المقاتلة.

والجواب عن هذا الإشكال:

هو انَّة لا يخفى انَّ النصين متَّفقان على انَّ يزيد لم يكن متجافياً عن قتل الحسين (ع) بل انَّه قد أمر بقتله كما اتَّضح ذلك حينما بحثنا نصَّ الطبري غاية مافي الأمر انَّ نصَّ المكاتبة التي نقلها الطبري اشتمل على تعليق يزيد الامر بالقتل على المقاتلة وهذا لا يوجب تنافياً بينه وبين نصِّ المكاتبة التي نقلها اليعقوبي من جهة أنَّ يزيد قد أمر بقتل الحسين (ع)، نعم نصُّ الطبري يُعبِّر عن انَّ خيار القتل إنَّما هو في حال مواجهة الحسين (ع) لابن زياد والدخول معه في حرب، أما نصُّ اليعقوبي فهو يُعبِّر عن انَّ الأمر بقتل الحسين (ع) غير منوطٍ بشيءٍ بل انَّ عبيد الله بن زياد مكلَّفٌ بقتل الحسين (ع) مطلقاً حتى لو لم يدخل معه في مواجهة.

وهذا هو منشأ دعوى التنافي بين النصَّين. فنحن لو سلمنا -جدلاً- بوجود التنافي بين النصين من هذه الجهة فإنَّ هذا لا يُؤثِّر على ما هو المطلوب اثباته وهو مسئولية يزيد عن دم الحسين (ع)، إذ انّ دم الحسين(ع) هو في عهدة يزيد بن معاوية حتى بناءً على ما نصَّ عليه الطبري، وذلك لأنَّ يزيد -بحسب نصِّ الطبري- قد أمر عبيد الله بالقتل في حال المقاتلة ولم يأمره بالمقاتلة فحسب، فلو كان متجافياً عن قتل الحسين (ع) لكان عليه أنْ يقول قاتل الحسين (ع) اذا قاتلك، واذا ظفرت به فلا تقتله.

ثم انَّه لا يبعد أنْ يكون النصَّان يُعبِّران عن مكاتبتين متفاوتتين زماناً وانَّ المتأخِّر من النصَّين هو النصُّ الذي نقله اليعقوبي، إذ من المعقول جدَّاً أنْ يكون رأيُ يزيد أولاً هو أنْ لا يدخل عبيد الله بن زياد مع الحسين(ع) في مواجهة إلاّ اذا اضطر إلى ذلك، إذ من الممكن جداً انَّ يزيد كان قد خطَّط لاغتيال الحسين (ع)، وهي وسيلة أسلم من الدخول مع الحسين(ع) في مواجهة كما يؤكِّده كتابُ ابن عباس إلى يزيد، وقد نقلنا لك شطراً منه مع ذكر مصادره.

وهذا النحو من التدبير كان متعارفاً في سياسة معاوية بن أبي سفيان إذا ما أراد تصفية بعض الشخصيَّات ذات الثقل الإجتماعي أو الديني(40) فقد توسَّل بهذه الوسيلة مع الامام الحسن بن عليٍّ (ع) ومالك الاشتر وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد.

فقد يكون رأي يزيد في بادئ الأمر هو أن يستفيد من هذه الوسيلة إلاّ انَّه وبعد انْ اطلع على مستجدَّات الأحداث تبلور عنده انَّه لا يمكن التريُّث وتحيُّن الفرصة للاستفادة من هذه الوسيلة وانّ حسم المشكلة لا يتمُّ إلاّ بقتل الحسين (ع) سريعاً مهما كلَّف ذلك من تبعات، فلذلك بعث برسالةٍ أخرى لعبيد الله بن زياد وأمره بقتل الحسين (ع) بأيِّ وسيلةٍ اتفقت.

ويمكن تأكيد هذا الاحتمال بمجموعة من القرائن:

القرينة الأولى:

هي انَّ الحسين (ع) صرَّح في موارد عديدة انَّه لن يبدأ بالمواجهة والقتال ومع ذلك أصرَّ عبيد الله بن زياد على البيعة أو القتل، فلو كان نصُّ الطبري هو المتأخِّر أو هو المتعيِّن لما أقدم ابن زياد على قتل الحسين (ع) رغم انَّه لم يبدأهم بقتال، إذ انَّ الأمر المتوجِّه إلى ابن زياد -بحسب نصِّ الطبري- هو قتل الحسين(ع) إذا ما بدأهم بقتال والنصوص التاريخية تُؤكِّد انَّه (ع) لم يبدأهم بقتال، ولعمري هل لعبيد الله بن زياد أنْ يستقلَّ بهذا الأمر الخطير والذي لا سابقة له في الاسلام والذي كان يتنصَّل منه القادة وأعيانُ البيت الامويِّ والشخصيات القرشيَّة اللامعة ويلتمسون لذلك المعاذير كما اتَّضح ذلك من موقف الوليد بن عتبة.

ومن هنا يتَّضح انَّ الإقدام على قتل الحسين(ع) رغم انَّه لم يبدأهم بقتال لم يكن ليجرء عليه ابنُ زياد لولا المرسوم الملكي الذي صدر من يزيد بن معاوية وحتى يتأكَّد لك ماذكرناه ننقل بعض النصوص التي نقلها المؤرِّخون، والتي تكشفُ عن أنَّ الحسين (ع) كان يأبى أنْ يبدأهم بقتال.

الأوّل: ما ذكره الطبري انَّه لمَّا وصل كتاب عبيد الله بن زياد إلى الحرِّ بن يزيد الرياحي أنْ جعجعْ بالحسين ولا تُنزله إلا في العراء في غير حصنٍ وعلى غير ماءٍ قال مانصُّه: (وأخذ الحرُّ بن يزيد القوم بالنزول في ذلك المكان على غير ماءٍ ولا في قرية، فقالوا دعنا ننزلُ في هذه القرية .. فقال: لا والله لا أستطيع هذا رجل قد بعث إليَّ عيناً، فقال له زهير بن القين: يا ابن رسول الله إنَّ قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم .. فقال الحسين ما كنتُ لأبدأهم بالقتال)(41).

الثاني: ما ذكره الطبري انَّ عمر بن سعد لمَّا أنْ سار إلى الحسين (ع) وسمع قول الحسين (ع) كتب إلى ابن زياد: (أمَّا بعد فإنِّي حين نزلتُ بالحسين بعثتُ اليه رسولي، فسألتُه عمَّا أقدمه وماذا يطلب ويسأل، فقال; كتب إليَّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلُهم فسألوني القدوم ففعلت، فأمَّا إذا كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلُهم فأنا منصرفٌ عنهم، فلمَّا قُرء الكتاب على ابن زياد قال:

الآن إذ علقت مخالبُنا به ** يرجو النجاة ولاة حين مناص(42)

وهذا النص صريحٌ في انَّ الحسين (ع) لم يشأ أنْ يُقاتلهم بعد أنْ نكث أهلُ الكوفة عهودهم، ومع ذلك أصرَّ عبيدُ الله بن زياد على قتله وتمثَّل بهذا البيت المعبِّر عن انَّه لا مناص من قتله، فلو كان نصُّ الطبري هو المتأخِّر أو هو المتعيِّن لكان على عبيد الله بن زياد أنْ ينصرف عن قتل الحسين (ع)، إذ انَّه اُمر فيه بأنْ لا يقتل إلا مَن قاتله وقد صرَّح الحسين (ع) انَّه منصرفٌ عن قتالهم، وهذا ما يُؤكِّد تعيُّن النصِّ الذي نقله اليعقوبي وانَّ ابن زياد قد اُمر بقتل الحسين (ع) حتى لو لم يُقاتل.

الثالث: ما ذكره الطبري من انَّ الشمر بن ذي الجوشن في يوم عاشوراء شتم الحسين (ع) بأعلى صوته قبل بدء المعركة، فقال مسلم بن عوسجة: (يا ابن رسول الله جعلت فداك ألا أرميه بسهمٍ فإنَّه قد امكنني .. فقال له الحسين: لا ترمهِ فإنِّي أكره أنْ أبدأهم)(43).

الرابع: ما نقله الطبري انَّ الحسين في اليوم العاشر نادى في جيش عمر بن سعد: (أيُّها الناس إذ كرهتموني فدعوني انصرف عنكم إلى مأمني من الارض، قال فقال له قيس بن الاشعث: أوَلا تنزل على حكم بني عمك؟ .. فقال الحسين (ع): لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرُّ اقرار العبيد انِّي عذتُ بربِّي وربِّكم ان ترجمون..)(44).

وهذا نصٌّ يُعبِّر عن انَّ الحسين (ع) كان إلى آخر لحظةٍ يُصرُّ على عدم الدخول مع عبيد الله بن زياد في مواجهة، وهذا ما يُحتِّم انصراف ابن زياد عن قتله لو كان نصُّ الطبري هو المتأخِّر أو المتعيِّن، وهذا ما يؤكِّد انَّ نصَّ اليعقوبي هو المتأخِّر أو المتعيِّن وانَّه لا صارف عن قتل الحسين (ع) إلا الإستسلام والبيعة وهذا ما يأباه الحسين (ع).

القرينة الثانية: -على تأخُّر أو تعيُّن نصِّ اليعقوبي-.

ما نقله أبو المؤيَّد بن أحمد المكي أخطب خوارزم قال: (ثم أقبل الحرُّ بن يزيد فنزل في أصحابه حذاء الحسين وكتب إلى ابن زياد يُخبره بنزول الحسين بكربلاء، فكتب ابنُ زياد للحسين: أمَّا بعد يا حسين فقد بلغني نزولك (كربلاء) وقد كتب اليَّ أمير المؤمنين -يزيد- أن لا أتوسَّد الوثير، ولا أشبعُ من الخمير حتى اُلحقك باللطيف الخبير أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد)(45).

وهذا النصُّ كما تلاحظون متطابق تماماً مع نصِّ اليعقوبي حيث أخبر ابنُ زياد انَّ يزيد كتب إليه بأنْ يقتل الحسين (ع) ولم يُعلِّق الأمر بالقتل على دخول الحسين (ع) معه في مواجهة كما هو نصَّ الطبري ولو كان كذلك لكان على ابن زياد يكتب للحسين (ع) إنَّك إنْ لم تقاتلنا فإنَّنا لا نقاتلك.

وتلاحظون انّ ابن زياد أخبر بأنّ أمر يزيد معلَّق على عدم البيعة وعدم الدخول في حكمه وهذا هو معنى قول يزيد لابن زياد بعد الأمر بالقتل (واحذر أنْ يفوتك) أي انَّه لا خلاص للحسين من القتل إلا بالبيعة ليزيد ومن الواضح انَّ ذلك لا يتمُّ إلاّ بواسطة ابن زياد إذ هو المأمور بالتصدِّي لقضية الحسين (ع) وانَّ خيار الانصراف بدون البيعة غير واردٍ اصلاً.

وغير خافٍ عليك انَّ نسبة ابن زياد ذلك إلى يزيد يؤكِّد نصَّ اليعقوبي، إذ ليس لابن زياد وهو الموظَّف ليزيد أنْ ينسب إلى يزيد شيئاً لم يقله خصوصاً مع الإلتفات إلى خطورة ما نسبة ابن زياد إلى يزيد، فابن زيادٍ أضعف من أنْ يجازفَ بهذه المجازفة الخطيرة التي قد تُودي بحياته أو لا أقل تُودي بمنصبه الذي هو أحرص ما يكون عليه فهو ممَّن لا تخفى عليه تبعاتِ مثل هذه النسبة الخطيرة خصوصاً وانَّها تمَّت بواسطة كتاب ومعه لا سبيل للتفصِّي عن هذا المُستمسك لو لم يكن صادقاً في دعواه.

من كتاب: قراءة في مقتل الحسين (ع)

الشيخ محمد صنقور

24 / رمضان / 1420ه

1 / يناير / 2000م


1- تاريخ اليعقوبي ج2 / ص241، وذكر الخوارزمي في مقتل الحسين (ع) ما يُقارب هذا النص، ج1/262، ونقل ما يقارب هذا النص ابن أعثم في كتاب الفتوح ج5 / ص10-11 وهذا بعض ما جاء فيه: (فخذ الحسين .. فمن أبى فاضرب عنقه وابعث اليَّ برأسه).

2- تاريخ الطبري ج 4 / ص250.

3- تاريخ الطبري ج4 / ص250، الكامل في التاريخ ج3 / ص263، الامامة والسياسة ج1 / ص189، كتاب الفتوح لابن أعثم ج4 / ص236-237، 241، تاريخ ابن الوردي ج1 / ص227، المنتظم لابي الفرج بن الجوزي ج5 / ص323، مرآة الجنان لابي محمد الشافعي المكي اليافعي ج1 / ص110.

4- ويمكن تأكيد ما ذكرناه بقضيّة حبس الوليد لعبدالله بن مطيع وهو رجل قرشي من بني عدي وذلك لكونه من اتباع عبدالله بن الزبير وممن لم يبايع مع عبدالله بن الزبير ليزيد بن معاوية. قال ابن أعثم في كتاب الفتوح: (فمشى رجال من بني عدي ..) وقالوا: (لتخرجنَّه أو لنموتنَّ من دونه .. ثم وثب بنو عدي فجعلوا يحضرون حتى صاروا الى باب السجن فاقتحموا على عبدالله بن مطيع فأخرجوه ..) ج5 / ص23.

5- تاريخ الطبري ج4 / 252، الكامل في التاريخ ج3 / 265 مقتل الحسين (ع) للخوارزمي ج1 / 273، الأخبار الطوال 228.

6- تاريخ الطبري ج4 / ص251، الكامل في التاريخ ج3 / ص264، البداية والنهاية ج8 / ص157-158، كنز الدرر وجامع الغرر ج4 / ص84، الأخبار الطوال ص228.

7- تاريخ الطبري ج4 / ص251، الكامل في التاريخ ج3 / ص264، البداية والنهاية ج8 / ص157-158 كتاب الفتوح ج5 / ص15-18، كنز الدرر وجامع الغرر ج4 / ص83، الاخبار الطوال ص227، المنتظم في تاريخ الامم والملوك ج5 / ص323.

8- تاريخ الطبري ج4 / ص252-254، وذكر الكامل في التاريخ ما يقارب هذا النص، ج3 / ص264، البداية والنهاية ج8 / ص158.

9- تاريخ الطبري ج4 / ص253، الكامل في التاريخ ج3 / ص265، مقتل الخوارزمي ج1 / ص270، البداية والنهاية ج8 / ص179، أنساب الاشراف للبلاذري ج3 / ص368، تذكرة الخواص لسبط بن الجوزي ص214، مقتل الحسين للخوارزمي ج1 / ص270، كتاب الفتوح ج5 / ص35-36.

10- سورة القصص / 21.

11- تاريخ الطبري ج4 / ص254، الكامل في التاريخ ج3 / ص265، تذكرة الخواص لسبط بن الجوزي ص214، مقتل الحسين للخوارزمي ج1 / ص272.

12- تاريخ الطبري ج4 / ص254، الكامل في التاريخ ج3 / ص265، الامامة والسياسة ج2 / ص4، البداية والنهاية ج8 / ص158، المنتظم ج5 / ص324.

13- تاريخ الطبري ج4 / ص250.

14- تاريخ الطبري ج4 / ص250، الكامل في التاريخ ج3 / ص263-265.

15- تاريخ الطبري ج4 / ص265، الكامل في التاريخ ج3 / ص288، مقتل الخوارزمي ج1 / ص288.

16- تاريخ الطبري ج4 / ص265 الكامل في التاريخ ج3 / ص228، مقتل الخوارزمي ج1 / ص287، كتاب الفتوح لابن أعثم ج5 / ص18.

17- تاريخ الطبري ج4 / ص252.

18- وهناك نص ذكره ابن كثير في البداية والنهاية يؤكد ما ذكرناه، قال: (وفي هذه السنة في رمضان عزل يزيد بن معاوية الوليد بن عتبة عن امرة المدينة لتفريطه، وأضافها الى عمرو بن سعيد بن العاص نائب مكة) ج8 / ص158، ولم يكن من قضية تُذكر ولها خطر قد فرَّط في شأنها الوليد بما يستوجب العزل سوى قضية الحسين (ع) فلاحظ.

19- تاريخ الطبري ج4 / ص254، الكامل في التاريخ ج3 / ص265، الامامة والسياسة ج2 / ص3.

20- تاريخ الطبري ج4 / ص357، الكامل في التاريخ ج3 / ص300، مقتل الحسين للخوارزمي ج2 / ص84، البداية والنهاية ج8 / ص224، أنساب الاشراف ج3 / ص417.

21- تاريخ الطبري ج4 / ص258، الكامل في التاريخ ج3 / ص268.

22- تاريخ الطبري ج4 / ص254، الكامل في التاريخ ج3 / ص265-266، البداية والنهاية ج8 / ص58 تاريخ ابن الوردي ج1 / ص230، المنتظم ج5 / ص324.

23- تاريخ الطبري ج4 / ص251-252، الكامل في التاريخ ج3 / ص264، مقتل الحسين للخوارزمي ج1 / ص267، البداية والنهاية ج8 / ص157-158، كتاب الفتوح لابن أعثم ج5 / ص18، الأخبار الطوال ص228.

24- بل هناك من النصوص ما يدل على انَّ الوليد أغلظ للحسين بالقول، قال ابن كثير في البداية والنهاية (وكان الوليد أغلظ للحسين) ج8 / ص175، تاريخ الاسلام ووفيات المشاهير والاعلام للذهبي في حوادث سنة ستين ص7.

25- تاريخ الطبري ج4 / ص252، الكامل في التاريخ ج3 / ص264.

26- مقتل الحسين لابي المؤيد الموفق بن أحمد المكي أخطب خوارزم المتوفي سنة 568هـ  / ج1 / ص269، ونقل هذا النص ابن اعثم في كتاب الفتوح ج5 / ص26، وكذلك يمكن تأكيد نص اليعقوبي بما ذكره ابو بكر الدواداري في كنز الدرر قال: (وبلغ يزيد فعل الوليد بمكاتبة مروان له بذلك فعزله عن المدينة وأضافها لعمرو بن سعيد، الأشدق) ج4 / ص84، ونقلنا لك ما يقارب هذا النص عن ابن كثير في البداية والنهاية ج8 / ص158.

27- تاريخ الطبري ج4 / ص289، الكامل في التاريخ ج3 / ص276، أنساب الاشراف للبلاذري 279 هـ ج3 / ص375، ونقل ابن كثير في البداية والنهاية انه قال ذلك لابن عباس أيضاً (قال لابن عباس: لإنْ اُقتل بمكان كذا وكذا أحبُّ اليَّ من ان اُقتل بمكَّة، فكان هذا الذي سلَّى نفسي عنه) ج8 / ص172، ونقل ابن أعثم في كتاب الفتوح ما يقارب نص الطبري وابن الأثير إلا انه ذكر انَّ الحسين (ع) قال ذلك لعبدالله بن جعفر فيمكن ان يكون هذا التعبير قد صدر عن الحسين (ع) في أكثر من مورد، راجع ج5 / ص116.

28- تاريخ الطبري ج4 / ص291، الكامل في التاريخ ج3 / ص277.

29- الامامة والسياسة ج2 / ص3، الكامل في التاريخ ج3 / ص276، تاريخ الطبري ج4 / ص289.

30- نقل ابن كثير في البداية والنهاية ان الحسين (ع) قال لابن عباس: (لان اُقتل مكان كذا أو كذا أحب اليَّ في ان اقتل من مكة، فكان هذا الذي سلَّى نفسي عنه) ج8/172، كتاب الفتوح ج4/116، كنز الدرر ج4/86.

31- تاريخ الطبري ج4 / 291، الكامل في التاريخ ج3 / 277.

32- تاريخ الطبري ج4 / ص253، 287، 288، 291، الكامل في التاريخ ج3 / ص265، 276.

33- ونقل ابن اعثم في كتاب الفتوح وهو من أعلام القرن الرابع الهجري نقل انَّ الحسين (ع) قال لعبدالله بن عمر: (هيهات يا ابن عمر انَّ القوم لا يتركوني وان أصابوني وان لم يصيبوني فلا يزالون حتى ابايع وأنا كاره أو يقتلوني .. اتق الله يا أبا عبدالرحمن ولا تدعن نصرتي ..) ج5 / ص42-43.

34- تاريخ اليعقوبي ج2 / ص249، الكامل لابن الاثير ج3 / ص318 بشيء من التفاوت، مقتل الحسين للخوارزمي ج2 / ص86، ونقل نص الكتاب سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص عن الواقدي وهشام وابن اسحاق وغيرهم ص247، 248.

35- تاريخ اليعقوبي ج2 / ص242، وذكر ما يُقارب هذا النص الامام الحافظ ابن هبة الله بن عبدالله الشافعي في تاريخ مدينة دمشق إلا انه قال: (وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تُعتبد العبيد) ولم يُصرِّح بالامر بالقتل ج65 / ص369، 395، وذكر مثله الإمام محمد بن مكرم المعروف بابن منظور في مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر ج28/19.

36- تاريخ الطبري ج4 / ص163، الكامل في التاريخ ج3 / ص219، الامامة والسياسة ج1 / ص181، مروج الذهب ج3 / ص14، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص196، كتاب الفتوح ج4 / ص171-172، تاريخ ابن الوردي ج1 / ص225.

37- الكامل في التاريخ ج3 / ص219، الاخبار الطوال لابي حنيفة الدينوري ص219.

38- الكامل في التاريخ ج3 / ص220.

39- تاريخ الطبري ج4 / ص285.

40- تاريخ الطبري ج4 / ص38، 171، الكامل في التاريخ ج3 / ص178، 255، مروج الذهب ج3 / ص5 تاريخ الحلفاء للسيوطي ص192 تذكرة الخواص لسبط بن الجوزي نقلا نقلا عن الشعبي وابن سعد في الطبقات.

41- تاريخ الطبري ج4 / ص309، الكامل في التاريخ ج3 / ص282 مقتل الحسين للخوارزمي ج1 / ص334، كتاب الفتوح ج5 / ص142-143.

42- تاريخ الطبري ج4 / ص311، الكامل في التاريخ ج3 / ص283، كتاب الفتوح ج5 / ص155.

43- تاريخ الطبري ج4 / ص322.

44- تاريخ الطبري ج4 / ص323، الكامل في التاريخ ج3 / ص287-288، البداية والنهاية ج8 / ص194، انساب الاشراف ج3 / ص396، المنتظم ج5 / ص339.

45- مقتل الحسين للخوارزمي ج1 / ص340، ونقل نص الكتاب ابن أعثم في كتاب الفتوح وهو من أعلام القرن الرابع الهجري ج5 / ص150.