هل أرواحُ الشهداء في حواصل طيورٍ خُضْر؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

هل صحيح أنَّ أرواح الشهداء تُجعل في أجواف طيورٍ خضْر، وأنها تأوي إلى قناديل معلَّقة في ظل العرش وأنَّ ذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾(1)؟

الجواب:

هذا المعنى يتبنَّاه الكثيرُ من علماء العامَّة اِستناداً إلى رواياتٍ ينسبونها إلى النبيِّ (ص):

منها: ما رواه مسلمٌ في صحيحه بسنده عن عبد الله بن مسروق قال: سألنا عبدالله عن هذه الآية ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال: أرواحهم في جوف طيرٍ خضْرٍ لها قناديل معلَّقة بالعرش تسرحُ من الجنَّة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل"(2).

ومنها: ما رواه الحاكمُ النيسابوريُّ بسنده عن ابن عباس قال: رسولُ الله (ص) لمَّا أُصيب إخوانكم بأحُد جعل أرواحهم في جوف طيرٍ ترد أنهار الجنَّة تأكلُ من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهبٍ معلَّقة في ظلِّ العرش، فلمَّا وجدوا طيب مأكلِهم ومشربِهم ومقيلِهم قالوا: من يُبلَّغ إخواننا أنَّا أحياءٌ في الجنَّة نُرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا في الحرب فقال اللهُ تبارك وتعالى" أنا أبلِّغُهم عنكم وأنزل الله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾(3).

وثمة رواياتٌ أُخرى مِن طُرقِهم مفادها أنَّ عموم أرواح المؤمنين -وليس الشهداء وحسب- تُجعل في أجوافِ طيورٍ خضر.

منها: ما رواه ابنُ ابي شيبة بسنده عن عبدالله بن عمر قال: الجنَّة مطويةٌ معلَّقة بقرون الشمس تَنشر في كِّل عام مرَّة أرواحَ المؤمنين في جوف طيرٍ خضر كالزرازير يتعارفونَ ويُرزقون من ثمر الجنَّة"(4).

هذا بعضُ ما ورد من طُرق العامَّة، وفيه ما هو الصحيح عندهم لذلك فهو موردٌ للقبول والاعتماد عند أكثرهم.

وأمَّا الاماميَّة فلم يثبت ذلك عندهم عن النبيِّ (ص) بل ورد في طُرقِهم ما ينفي دعوى أنَّ أرواح المؤمنين بما فيهم الشهداء تُجعل في أجواف طيورٍ خضر وأنَّهم أكرمُ على الله تعالى من ذلك، نعم لاريب أنَّهم أحياءٌ عند ربِّهم في عالم البرزخ يتفاضلون في النِعَم التي يمنحُها اللهُ تعالى لهم بحسب مراتب إيمانِهم وجهادهم.

قال تعالى: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(5).

فمِن الروايات التى تصَّدت لنفي دعوى أنَّ أرواح الشهداء والمؤمنين تُجعل في أجواف طيورٍ خضْرٍ ما رواه الكليني بسندٍ معتبرٍ عن أبي ولَّاد الحنَّاط عن أبي عبد الله (ع) قال: قلتُ له: جُعلت فداك يروون أنَّ أرواح المؤمنين في حواصل طيورٍ خضرٍ حول العرش فقال (ع): "لا، المؤمنُ أكرمُ على الله من أن يَجعل روحه في حوصلةِ طيرٍ ولكن في أبدانٍ كأبدانِهم"(6).

ومنها: ما رواه الكافي أيضاً بسنده عن أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (ع): إِنَّا نَتَحَدَّثُ عَنْ أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَرْعَى فِي الْجَنَّةِ وتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ؟ فَقَالَ: لَا، إِذاً مَا هِيَ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ قُلْتُ فَأَيْنَ هِيَ؟ قَالَ: فِي رَوْضَةٍ كَهَيْئَةِ الأَجْسَادِ فِي الْجَنَّةِ" (7).

ومنها: ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن يونس بن ظبيان قال: كنتُ عند أبي عبد الله (ع) فقال: "ما يقولُ الناس في أرواح المؤمنين؟ فقلتُ: يقولون تكونُ في حواصل طيورٍ خضر في قناديل تحت العرش فقال أبو عبد الله (ع): سبحان الله، المؤمنُ أكرمُ على الله من أنْ يَجعلَ روحَه في حوصلةِ طير .."(8).

فالصحيحُ عندنا أنَّ أرواح المؤمنين وأرواح الشهداء تكون في عالم البرزخ في ما يمكن التعبير عنه بالأجساد المثاليَّة، فهى تُشبه في هيئتها الأجساد في الدنيا ولكنَّها مختلفة في حقيقتها وخصائصها عن الأجساد الكثيفة التى تكون في الدنيا، فهي وجوداتٌ متناسبة مع العالم الذي انتقلت اليه، ولا يصحُّ لنا الادِّعاء بمعرفة كنْهّ وحقيقة هذه الأجساد.

والمقدارُ الذي تمَّ تلقِّيه عن أهل بيت الوحي (ع) هو ذلك كما في رواية الحنَّاط وأبي بصير المتقدِّمتين وكذلك ورد في رواية يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله (ع) قال: "فإذا قبضه الله صيَّر تلك الروح في قالبٍ كقالبِه في الدنيا، فيأكلون ويشربون، فإذا قدم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا"(9).

وكذلك ما ورد في معتبرة أبي بصير قال: سألتُ أبا عبد الله (ع) عن أرواح المؤمنين؟ فقال: "في الجنَّة على صورِ أبدانهم، لو رأيتَه لقلتَ فلان"(10).

وفي روايةٍ أُخرى عن أبي بصير عن أبي عبدالله (ع) قال: "إنَّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرٍ في الجنة .."(11).

فمجموع هذه الروايات ظاهرةٌ في أنَّ أرواح المؤمنين في البرزخ تكون متنعِّمة في أجسادٍ تُشبهُ في هيئتها الأجساد التى كانت للمؤمنين في الدنيا إلى أنْ يبعث الله تعالى عباده يوم القيامة فيكونون في عين أجسادهم التي كانت لهم في الدنيا.

فأرواحُ المؤمنين إذنْ بمقتضى الروايات المستفيضة التى فيها ما هو معتبرٌ سنداً ليست كما روت العامَّة انَّها في حواصل طيورٍ خضر، فإنَّ ذلك منافٍ لإكرام الله تعالى للشهداء وعباده المؤمنين كما أفادت بعضُ الروايات.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور


1- سورة آل عمران / 169.

2- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج6 / ص39.

3- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج2 / ص298.

4- المصنف -ابن أبي شيبة الكوفي- ج8 / ص70.

5- سورة المؤمنون / 100.

6- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص244.

7- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص245.

8- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص245.

9- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص245.

10- تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج1 / ص466.

11- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص244.