دعوى الاطلاق في قوله تعالى: ﴿وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ﴾

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

المشهور بين علماء السنَّة أنَّ المرأة الحامل إذا تُوفي عنها زوجُها فإنَّ عدتها تنقضي بمجرَّد وضعها لحملها، فلو اتَّفق أنَّها وضعت حملَها بعد وفاة زوجها بساعةٍ فإنَّها تكونُ قد خرجت من عدَّته وحلَّت للأزواج واستدلُّوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾(1).

 

وأمَّا الإماميَّة فإنَّهم يذهبون إلى لزوم أنْ تعتدَّ الحامل المتوفَّى عنها زوجُها بأبعد الأجلين، فما هو دليلُهم على ذلك؟

 

الجواب:

الإماميَّة كما ذكرتم يذهبونَ إلى أنَّ الحامل المُتوفَّى عنها زوجُها تعتدُّ بأبعد الأجلين، فإنْ وضعتْ حمْلَها قبل الأربعة أشهر وعشرا لزمها التربُّص بالعدَّة حتى تنقضي هذه المدَّة، وإنْ تجاوزت هذه المدَّة ولم تضع حملَها وجب عليها التربُّص بالعدَّة حتى تضع حملَها واستندوا في ذلك إلى ما ورد عن أمير المؤمنين (ع) وعموم أهلِ البيت (ع).

 

فمَّما ورد في ذلك عنهم (ع) ما ورد في معتبرة محمد بن قيس عن أبي جعفر (ع) قال: "قضى أميرُ المؤمنين (ع) في امرأةٍ تُوفِّي عنها زوجُها وهي حُبلى، فولَدَتْ قبل أن تنقضيَ أربعة أشهر وعشر فتزوَّجت، فقضى أنْ يُخلَّى ثم لا يخطبُها حتى ينقضيَ آخرُ الأجلين، فإنْ شاء أولياءُ المرأة أنكحوها وإنْ شاؤا أمسكوها، فإنْ امسكوها ردُّوا عليه مالَه"(2).

 

ومنها: ما ورد في معتبرة الحلبيِّ عن أبي عبدالله (ع) قال: "في الحامل المتوفَّى عنها زوجُها تنقضي عدَّتُها آخر الأجلين"(3).

 

ومنها: ما ورد في معتبرة الحلبيِّ عن أبي عبدالله (ع) قال: "سألتُه عن المرأة الحُبلى يموتُ زوجُها فتضع وتُزوَّج قبل أنْ تمضيَ لها أربعةُ أشهر وعشرا فقال (ع): إنْ كان دخل بها فُرَّق بينهما ثم لم تحل له أبدًا واعتدَّت بما بقي عليها من الأول واستقبلت عدةً أخرى من الآخر ثلاثة قروء، وإنْ لم يكن دخل بها فُرَّق بينهما واعتدَّت ما بقيَ عليها من الأول وهو خاطبٌ من الخُطَّاب"(4).

 

فهذه الروايات الصريحة ونظائرها هي مستند الإماميَّة في لزوم اعتداد الحامل المتوفَّي عنها زوجُها بأبعد الأجلين.

 

وأمَّا الآية الشريفة وهي قوله تعالى: ﴿وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ فهي خاصة بالمطلَّقات، وذلك بقرينة السياق، فإنَّ هذه الفقرة من الآية واقعة في سياق قوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾(5) ثم قال: ﴿وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾.

 

فالآية بتمامها متصدِّية لبيان حكم ثلاثة أقسام من المطلَّقات وهنَّ من يئست من المحيض إنْ ارتاب أمرُها، والثانية هي من كانت لا تحيض وهي في سنَّ من تحيض، والعدَّة اللازمة على هذين الصنفين من المطلَّقات هي التربُّص ثلاثة أشهر، وأمَّا الصنفُ الثالث من المطلَّقات فهي الحامل وعدَّتُها وضع الحمل.

 

ثم إنَّ ما سبق هذه هي قوله تعالى: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ ..﴾ (6) ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ..﴾ (7).

 

فآية ﴿وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ﴾ جاءت في سياق هذه الآيات المتصدِّية لبيان حكم المطلَّقات.

 

وهكذا فإنَّ الآيات الواقعة بعد قوله تعالى: ﴿وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ﴾ متصدِّية أيضًا لبيان حكم المُطلَّقات قال تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ ..﴾(8).

 

فما سبق الآيةَ الشريفة وما لحقَها من الآيات كان حديثًا حول المطلَّقات، وهو ما يُمثَّل قرينةً ظاهرةً على عدم إرادة العموم من قوله تعالى: ﴿وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ ولو قيل بعدم قرينيَّة السياق على نفي العموم فلا أقل من صلاحيَّة السياق للقرينَّية وذلك وحدَه كاف للمنعِ من استظهار العموم. إذ أنَّ اكتناف الكلام بما يصلحُ للقرينيَّة على شيءٍ يمنع من استظهار ما ينافي مقتضى القرينة كما هو منقَّح في علم الأصول.

 

فحيثُ إنَّ إرادة العموم منافٍ لمقتضى السياق لذلك يمتنع استظهاره إمَّا لأنَّ السياق قرينةٌ على إرادة الاختصاص بالمطلَّقات أو اَّنَّه صالحٌ للقرينيَّة فتكون الآية مجملة من حيث إرادة العموم أو عدم إرادته. فاستظهار العموم بعد ذلك مجازفةٌ ظاهرة.

 

ومِن هنا لم يكن ثمة مِن موجبٍ لخروج الحامل المتوفَّى عنها زوجها من عموم قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾(9).

 

فإنَّ ظاهر هذه الآية أنَّ كلَّ من تُوفِّي عنها زوجها فإنَّ عدَّتها هي هذه المدَّة التي ذكرتها الآية الشريفة سواءً كانت حائلاً أو كانت من ذوات الاحمال، نعم لو اتَّفق تأخُّر الوضع للحمل عن المدَّة المقرَّرة في الآية الشريفة فإنَّها لا تخرجُ من العدَّة بتجاوز تلك المدَّة المقرَّرة، وذلك لدلالة السُنَّة الثابتة عن الرسولِ (ص) وأهل بيته (ع) على أنَّ المتوفَّى عنها زوجها لو تجاوز حملُها الأربعة الأشهر والعشرة أيام فإنَّها لا تخرج من عدَّتها إلا بعد وضع حملِها فتكون السُنَّة الشريفة مقيَّدة أو مخصَّصة لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾.

 

فيكون محصَّلُ الجمع بين هذه الآيةِ والسنَّةِ الشريفة هو أنَّ كلَّ من تُوفِّي عنها زوجُها حائلاً كانت أو حاملاً فإنَّ عدَّتها هي هذه المدَّة إلا الحامل التي تجاوز حملُها هذه المدَّة فإنَّ عدَّتها تنقضي بوضع حملِها.

 

وخلاصة القول: إنَّ الاستدلال بآية: ﴿وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ﴾ على أنَّ عدَّة المتوفَّى عنها زوجُها تنقضي بالوضع في غير محلِّه، إذ لا صلة لهذه الآية بالمتوفَّى عنها زوجُها، فهي خاصة بالمطلَّقات من النساء.

 

ولو تنزَّلنا جدلاً وقبلنا بدعوى ظهور آية ﴿وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ ..﴾ في العموم وأنَّها تشمل المتوفَّى عنها زوجها فإنَّ هذا العموم يكون مُعارَضًا بعموم آية ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ..﴾.

 

فإنَّ مقتضى الآية الأولى بناءً على دعوى العموم هو أنَّ المرأة الحامل تخرج من العدَّة بالوضع سواء كانت مطلقة أو حاملاً، ومقتضى العموم في الآية الثانية هو أنَّ المتوفى عنها زوجُها تعتدُّ بالأربعة أشهر والعشرة سواءً كانت حائلاً أو حاملاً.

 

فالمعارضة تستحكمُ في فرض حمل المتوفَّى عنها زوجُها ووضعها قبل تجاوز المدَّة، فمقتضى عموم الآية الأولى هو خروجها عن العدَّة، ومقتضى عموم الآية الثانية هو عدم خروجها من العدَّة، ومعنى ذلك أنَّ مقتضى عموم الآية الأولى مناقضٌ لمقتضى عموم الآية الثانية وبه يثبت انَّ أحد العمومين ليس مُرادًا قطعاً، فإمَّا أنْ يكون ذلك قرينةً أُخرى -مضافاً إلى سياق الآية- على عدم إرادة العموم من الآية الأولى، وإمَّا أنْ يكون المرجعُ لنفي إرادة أحد العمومين هو ما ورد في السنَّة الشريفة، وهي كما ذكرنا مقتضية لعدم إرادة العموم من الآية الأولى وأنَّ المتوفَّى عنها زوجها تعتدُّ بأبعد الأجلين.

 

 وأمَّا ما روته العامَّة من أنَّ سُبيعة الأسلميَّة وضعت حملَها بعد وفاة زوجِها بليالٍ فاذِن لها الرسولُ (ص) في الزواج(10) فهو لم يثبت من طرقِنا بل إنَّ ما ثبت هو خلافه كما اتَّضح ذلك ممَّا نقلناه من معتبرة محمد بن قيس عن عليِّ بن أبي طالب(ع) -الأعلم بسنة رسول الله (ص)- ومعتبرتي الحلبي وغيرها.

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة الطلاق/ 4.

2- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص455.

3- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج3 / ص511.

4- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج20 / ص452.

5- سورة الطلاق/ 4.

6- سورة الطلاق/ 1.

7- سورة الطلاق/ 2.

8- سورة الطلاق/ 6.

9- سورة البقرة / 234.

10- صحيح البخاري ج5 / ص13.