التصدُّقُ بالخاتَم أليس التفاتاً في الصلاة؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هو جوابُكم على مَن ادَّعى انَّ تصدَّق عليٍّ بالخاتم وهو راكع يُعدُّ التفاتًا في الصلاة ومَيلاً عن الخالق ويدلُّ على انَّه لم يكن غارقًا في العبادة؟

الجواب:

النقضُ على الاشكال:

ليس في ذلك ميلٌ عن الخالق جلَّ وعلا، فالإمامُ (ع) كان في نافلةٍ والتصدُّق عبادةٌ من العبادات، وقد ثبت أنَّ النبيَّ (ص) إذا كان في نافلةٍ وجاءه أحد أو طُرقَ عليه الباب أو سمِع بكاء طفلٍ خفَّف من صلاته(1)، وهذا معناه أنَّ صلاتَه لم تمنعْه من سماع ما يدورُ حوله، نعم يحصلُ للنبيِّ (ص) وأهلِ بيته (ﻉ) غياب عمَّن حولَهم أثناء الصلاة إلا أنَّ ذلك ليس دائميَّاً، فقد ورد في الروايات انَّ النبي (ص) كان يترفَّق في صلاتِه أو يُطيل السجود لانَّ الحسنَ أو الحسين (ع) يكون أحدُهما على ظهره فيَخشى إزعاجه(2).

على أنَّ الإمام (ع) كما هو ثابتٌ في الروايات لم يلتفت للفقير وإنَّما مدَّ يدَه فأخذ الفقيرُ الخاتم من اصبعِه أو مِن يده، وليس في ذلك التفاتٌ أو خروج عن الاستقرار المُعتبَر في الصلاة.

ولتوثيق ذلك ننقلُ بعض ما ورد في هذا الشأن من طُرق العامَّة:

فمنه: ما رواه الثعلبيُّ في تفسيره بسنده عن ابن عباس عن أبي ذرٍّ الغفاري قال: ".. أما إنِّي صليتُ مع رسول الله (ص) يومًا من الايام صلاة الظهر فدخل سائلٌ المسجد فلم يُعطِه أحدٌ فرفع السائلُ يدَه إلى السماء وقال: اللهم اشهدْ انِّي سألتُ في مسجد رسولِ الله (ص) فلم يعطني أحدٌ شيئًا، وكان عليٌّ راكعًا فأومأ بخنصره اليُمنى وكان يتختَّم فيها فأقبَلَ السائلُ حتى أخذ الخاتمَ من خنصره، وذلك بعين النبيِّ (ص) .. وقال: اللهمَّ أنا محمَّدٌ نبيُّك وصفيُّك الله فاشرحْ لي صدري ويسِّر لي أمري واجعل لي وزيرًا من أهلي عليَّاً اشدُدْ به ظهري قال ابو ذر: فواللهِ ما استتمَّ رسولُ الله الكلمة حتى أنزل عليه جبرئيل من عند الله فقال: يا محمد اقرأ ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾"(3).

ومنه: ما أخرجه الحسكاني في شواهد التنزيل بسنده إلى أنس قال: "خرج النبيُّ (ص) إلى صلاة الظهر فإذا هو بعليٍّ يركعُ ويسجد واذا بسائلٍ يسأل فأوجع قلبَه كلامُ السائلِ فأومأ بيده اليُمنى على خلف ظهره فدنا السائل منه فسلَّ خاتمَه من اصبعه فأنزلَ اللهُ فيه آيةً من القرآن، فقال له النبيُّ (ص) هنيئًا لك يا أبا الحسن قد أنزل اللهُ فيك من القرآن ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾"(4).

ومنه: ما رواه السمرقندي في تفسيره عن قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ قال: قال ابنُ عباس: إنَّ بلالاً لمَّا اذَّن وخرج رسولُ الله (ص) والناس في المسجد يُصلِّون بين قائمٍ وراكعٍ وساجدٍ فإذا هو بمسكينٍ يسألُ الناس فدعاه رسولُ الله (ص) وقال: "هل أعطاك أحدٌ شيئًا قال: نعم قال (ص): ماذا؟ قال: خاتم فضَّة، قال: ومَن أعطاك؟ قال: ذاك المصلِّي، قال: في أيِّ حالٍ أعطاك؟ قال: أعطاني وهو راكع فنظر فإذا هو عليٌّ بن أبي طالب فقرأ رسولُ الله (ص) على عبدالله بن سلام ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ يعني يتَّصفون في حال ركوعِهم حيثُ أشار عليٌّ (ع) بخاتمه إلى المسكين حتى نزع من اصبعِه وهو في ركوعه .."(5).

هذا بعض ما وقفنا عليه مما ورد فيه انَّ عليًا (ع) أشار باصبعِه أو يدِه إلى السائل دون أن يقطعَ صلاتَه أو ينحرفَ بها عن القِبلة، وأما ما ورد من أنَّ آية الولاية نزلت في عليٍّ (ع) حين تصدَّق بالخاتم وهو راكع فهي رواياتٌ متواترة أشرنا الى بعض مصادرِها عند الحديث حول مَن نزلت فيه آيةُ الولاية.

ثم إنَّه لا بدَّ في المقام من الاشارة إلى أنَّ إثارة مثل هذه الشبهات الواهية من قِبل البعض إنَّما هو لغرض التقليل من شأن هذه المنقِبة التي اختصَّ بها عليٌّ(ع) دون سواه من سائر عباد الله جلَّ وعلا ، وذلك بعد أنْ أعيتهم الحيلةُ في التنكُّر لوقوعِها فوجدوا أنفسهم مقسورين على أنْ يُذعنوا لامتياز عليٍّ بها دون غيره فكان منهم أنْ بذلوا أقصى الوسع لغايةٍ هي أن لا تكون لهذه الفضيلة الأثر الذي تستحقُّه في نفوس المسلمين وقد غفِلوا عن أنَّ ذلك سعي خاسر.

فتصدُّقُ عليٍّ (ع) بخاتمه وهو راكعٌ صار محلاً لاشادة ربِّ السماء هبطت من عنده ملائكتُه بآيةٍ تُتلى آناء الليل واطراف النهار، فهل يليقُ بمؤمنٍ أن يُهوِّن أمرًا أجلَّه اللهُ وعظَّمه وأثنى عليه وامتدحه وجعلَه سببًا للكشف عن مقام عليٍّ (ع) عنده، فكان تصدُّق عليٍّ (ع) في صلاتِه ايذانًا لامرٍ قد أبرمه اللهُ تعالى وقدَّره على عبادِه وجعله طوقًا في أعناقهم لا يسعُهم خفرَه ولا نقضه، إذ أنَّ في نقضِه والخروج عن عُهدته نقضًا لولايةِ الله جلَّ وعلا بعد أنْ أصبحت ولايةُ عليٍّ بهذه الآية امتدادًا لولاية الله جلَّ وعلا.

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- صحيح البخاري -البخاري- ج1 / ص210، سنن أبي داود -ابن الأشعث السجستاني- ج1 / ص183، عيون الأثر -ابن سيد الناس- ج2 / ص424، السيرة الحلبية -الحلبي- ج2 / ص449.

2- مسند احمد -احمد بن حنبل- ج2 / ص513، المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج3 / ص167، ج3 / ص626، سنن النسائي -النسائي- ج2 / ص230، السنن الكبرى -البيهقي- ج2 / ص263 وغيرهم.

3- تفسير الثعلبي -الثعلبي- ج4 / ص80، وأخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ج1 / ص230، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (ص) -محمد بن طلحة الشافعي- ص170.

4- شواهد التنزيل -الحاكم الحسكاني- ج1 / ص215.

5- تفسير السمرقندي -أبو الليث السمرقندي- ج2 / ص424، تفسير مقاتل بن سليمان -مقاتل بن سليمان- ج1 / ص307، تفسير ابن زمنين -أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين- ج2 / ص34، شواهد التنزيل -الحاكم الحسكاني- ج1 / ص233.