الرجعةُ عند الإماميَّة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

السؤال:

ما معنى قولِه تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا ..﴾(1) وهل صحيح انَّها تدلُّ على الرجعة؟ وما معنى الرجعة بالتحديد؟ وهل عليها دليلٌ آخر غير الآية المباركة؟

الجواب:

المرادُ من الرجعة:

المراد من الرجعة لغويَّاً هو العودة، وهي بحسبِ مدلولِها الاصطلاحيِّ الكلاميِّ تعني عودةَ الحياةِ لبعض مَن ماتوا، فهو بَعثٌ بعد الموتولكنَّه محدودٌ في مقابل البعثِ التامِّ والذي يقعُ في يوم القيامة.

والإماميَّةُ الإثنا عشريَّة يعتقدونَ تبعاً لبعض الآيات والكثيرِ من الروايات أنَّ الله عزَّ وجلَّ يبعثُ بعضَ الأموات في آخرِ الزمان وبعد ظهور الإمامِ الحجَّة (ع)، وبذلك تكونُ الرجعةُ بهذا المعنى من أشراطِ الساعة.

وهذا الأمر وإنْ لم يكن من أُصول الاعتقاد وإنَّ غير المعتقِد به لا يخرجُ من مذهب الإماميَّة، فهو وإنْ لم يكن كذلك إلا أنَّه لا ريبَ في ثبوتِه كما أكدت ذلك الرواياتُ الواردةُ عن أهل البيت (ﻉ) والتي تفوقُ مستوى التواتر الإجماليِّ.

نعم بعض التفاصيل الواردة في الرواياتِ لم تثبت بطريقٍ قطعيٍّ، فهي آحاد لا يجبُ الاعتقاد بمضمونِها، أما أصل الرجعةِ بالمعنى الذي ذكرناه فهو ثابتٌ بطريقٍ قطعيٍّ.

فقد أفاد العلاّمة المجلسي: إنَّ الروايات التي يُمكن التمسُّك بها لإثبات أصل الرجعة تقرب من مائتي رواية رواها ما ينيفُ على الأربعين من الثقات العظام في أكثر من خمسين من مؤلفاتِهم كالشيخ الكلينيِّ والصدوقِ والشيخِ المفيد والسيِّدِ المرتضى والشيخِ الطوسي وغيرِهم(2).

ولكي يتحدَّد مفهومُ الرجعة الذي تعتقدُ به الإماميَّة ننقلُ بعضَ ما أفاده الشيخُ المفيد والسيِّدُ المرتضى علمُ الهدى (عليهما الرحمة).

أمَّا ما أفاده الشيخُ المفيد فهو قولُه: "إنَّ الله تعالى يُحي قوماً من أُمَّة محمَّدٍ (ص) بعد موتِهم قبل يوم القيامة، وهذا مذهبٌ يختصُّ به آلُ محمَّدٍ (صلواتُ الله عليه وعليهم)، والقرآنُ به شاهد"(3).

وأمَّا ما أفاده السيِّدُ المرتضى فهو: "اعلم إنَّ الذي تذهبُ الشيعةُ الإماميَّةُ إليه أنَّ الله تعالى يُعيد عند ظهور إمام الزمان المهديِّ (ع) قوماً ممَّن كان قد تقدَّم موتُه من شيعتِه ليفوزوا بثوابِ نصرته ومعونتِه ومشاهدة دولتِه، ويُعيدُ أيضاً قوماً من أعدائه لينتقمَ منهم"(4).

الدليل على الرجعة:

وبعد أن اتَّضح المرادُ من معنى الرجعة التي يُؤمنُ بها الشيعة الإماميَّة نُشير هنا بنحوِ الايجاز إلى الدليل عليها، ومَن أراد التفصيل فليراجع المُطوَّلات.

والبحث عن ذلك يقعُ في مقامين:

المقام الأول: (مقام الثبوت)

في إمكان الرجعة وبعثِ بعض الأموات قبل يوم القيامة.

ولا اعتقد أنَّ أحداً من المسلمين ممَّن يعتقدُ بيوم القيامة يتمكَّن من إنكار القدرة الإلهيَّة على بعثِ بعض الأموات قبل يوم البعثِ الأكبر، فاللهُ عزَّ وجلَّ هو محيي الموتى وهو على كلِّ شيء قدير.

فالإيمان بذلك يقتضي الإيمان بإمكانيَّة الرجعة، والظاهر أنَّ ذلك ليس محلاً للنزاع بين المسلمين. على أنَّه يمكن رفع الاستيحاش عن ذلك بواسطة ملاحظة ما أفاده القرآنُ الكريم والسنَّة الشريفة حيث ورد فيهما الحكاية عن بعثِ الله عزَّ وجل أقواماً بعد موتِهم.

منها: قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ / ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(5).

هاتان الآيتان صريحتان في أنَّ الله تعالى بعث أقوامًا من بني إسرائيل بعد أنْ أماتَهم.

ومنها: قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ / فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(6).

هذه الآية تحكي واقعةً حدثت أيام نبيِّ الله موسى (ع) حيث إنَّ رجلاً قتل آخر فأمرَ اللهُ موسى (ع) أنْ يأمر بني إسرائيل بذبح بقرةٍ ثم ضرب الميِّت بأحد أعضائها، وعندها أحيا اللهُ تعالى ذلك المقتول.

ومنها: قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾(7).

وهذه الآيةُ صريحةٌ في أنَّ الله تعالى أحيا هؤلاءِ الألوف بعد أنْ أماتَهم.

ومنها: قوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إلى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(8).

وهذه الآية تتحدَّثُ عن انَّ عزيراً بُعث بعد أن أماته اللهُ مائة سنة.

كلُّ هذه الآيات تُوكِّد أنَّ بعث الأموات في الحياة الدنيا أمر ممكن، إذ لا شيءَ أدلُّ على الإمكان من الوقوع.

المقام الثاني: (مقام الاثبات)

على أنَّ الرجعة التي أوضحنا المراد منها ستقع قبل يوم القيامة.

الدليل على ذلك هو القرآن والسنَّة والشريفة:

أما القرآن فنكتفي بقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾(9).

تقريبُ الاستدلال بالآية هو أنَّها أفادت أنَّ اللهَ سيبعثُ فوجاً ممَّن يكذب بآيات الله، وذلك لا يناسبُ يوم القيامة، لأنَّ ما هو ثابتٌ بالضرورة الدينيَّة أنَّ الله عز وجل سيبعثُ يوم القيامة كلَّ الناس، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾(10).

ويقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾(11).

إذنْ فالبعثُ الذي سيقعُ يوم القيامة إنَّما هو البعثُ التام، وذلك يكشف عن أنَّ الحشر الذي تُشير إليه الآية المباركة ليس هوالحشرَ ليوم القيامة بل هو ما عبَّرت عنه الروايات بالرجعة.

وأما السُنَّة الشريفة فيُمكن أنْ نستدلَّ بها من طريقين:

الطريق الأول: ما ورد في رواياتٍ كثيرة من طُرق الشيعة والسنَّة أنَّ كلَّ ما وقع في الأُمم السابقة سوف يقعُ في أُمَّة النبيِّ محمَّدٍ (ص)، ولإنَّ إحياء الأموات قد وقع في الأمم السابقة -كما دلَّت على ذلك الآيات التي نقلنا بعضَها- إذن لا بدَّ من وقوعه في أُمَّة النبي ِّمحمَّدٍ (ص).

فممَّا ورد من طريق العامة ما رواه البخاري في صحيحِه عن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله (ص) قال: "لا تقومُ الساعة حتى تأخذ أُمتي بأخذِ القرون قبلَها شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراع، فقيل: كفارس والروم، قال: ومَن الناسُ إلا أولئك "(12).

وروى البخاري أيضًا عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (ص) قال: "لتتبعُّن سَننَ من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً بذراعٍ حتى لو دخلوا جحر ضبٍ تبعتموهم، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمَن؟ "(13).

وأما من طرقِنا فقد وردت رواياتٌ بهذه المعنى كثيرة:

منها: ما ورد في عيون أخبار الرضا (ع) أنَّ المأمون العباسيَّ سأل الإمام الرضا (ع) عن الرجعة فأجابه بقوله: إنَّها حقٌّ قد كانت في الأُمم السابقة ونطقَ بها القرآنُ، وقد قال رسولُ الله (ص): "يكونُ في هذه الأُمَّة كلُّ ما كان في الأُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذَّة بالقذَّة"(14).

الطريق الثاني: هو الروايات الواردة عن أهل البيت (ﻉ) والتي تفوقُ مستوى التواتر المعنويِّ والاجماليِّ حتى أنَّ المحدِّثَ الكبير الشيخ الحرَّ العامليَّ أفاد انَّ الروايات الواردة في الرجعة عن أهل البيت (ﻉ) أكثر من أن تُعدَّ وتحصى(15).

منها: ما رُوي عن الإمام الباقر (ع) أنَّه قال: "أيامُ الله ثلاثة: يومَ يقومُ القائمُ، ويومَ الكرَّة، ويومَ القيامة"(16).

ومنها: ما رُويّ عن أبي بصير أنّه قال: قال لي أبو جعفر (ع): "يُنكرُ أهلُ العراق الرجعة؟ قلتُ: نعم، قال: أما يقرأونَ القرآنَ ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا﴾"(17).

ومنها: ما رواه عليُّ بن إبراهيم في تفسيره بالإسناد عن حمّاد، عن الصادق (ع) أنّه قال: "ما يقولُ الناس في هذه الآية ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا﴾؟. قلتُ: يقولون إنّها في القيامة. قال (ع): ليس كما يقولون، إنَّ ذلك في الرجعة، أيحشرُ الله في القيامة مِن كلِّ أمةٍ فوجاً ويدعُ الباقين؟ إنّما آيةُ القيامة قوله ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾"(18).

وهناك رواياتٌ كثيرة حول الرجعة وحتميَّة وقوعِها أعرضنا عن نقلها خشيةَ الإطالة.

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: شؤون قرآنية

الشيخ محمد صنقور


1- سورة النمل / 83.

2- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج53 / ص122.

3- المسائل السروية -الشيخ المفيد- ص32.

4- رسائل المرتضى -الشريف المرتضى- ج1 / ص125.

5- سورة البقرة / 55-56.

6- سورة البقرة / 72-73.

7- سورة البقرة / 243.

8- سورة البقرة / 259.

9- سورة النمل / 83.

10- سورة النمل / 87.

11- سورة المجادلة / 6.

12- صحيح البخاري -البخاري- ج8 / ص151.

13- صحيح البخاري -البخاري- ج8 / ص151.

14- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج1 / ص218.

15- الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة -الحر العاملي- ص62.

16- الخصال -الشيخ الصدوق- ص108، معاني الاخبار -الشيخ الصدوق- ص366.

17- مختصر بصائر الدرجات -محمد بن الحسن الصفار- ص25، بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج53 / ص40.

18- تفسير القمي -علي بن إبراهيم القمي- ج1 / ص24، ج2 / ص36.