﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء﴾

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاَّتي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(1).

ما هو المرادُ من القواعد؟ وما هو المقدارُ الذي يجوز لهنَّ كشفُه؟

الجواب:

الآيةُ المباركُة أوضحت المراد من القواعد حيثُ أفادت أنَّهنَّ اللاَّتي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا، ومعنى ذلك هو أنَّ المرأة تكون من القواعد إذا بلغت مرحلة من العمر لا تكون معه راغبةً في الزواج، وذلك لا يتَّفق غالباً إلا في سنِّ الشيخوخة، أي عندما يتقادمُ العمرُ بالمرأة فتُصبح مسنَّة. فليس المراد من القواعد هو مُطلق النساء اللاّتي لا يرجونَ نكاحاً حتى لو كان لسببٍ غير تقادم العمر بل المرادُ من القواعد هو المُسنَّات من النساء، ووصفهن باللاتي لا يرجون نكاحاً نشأ عن أنَّ عدم الرغبةِ في النكاح غالباً ما تكون بسببِ تقادم العمر. فالمٌصحِّح لاستظهار إرادة النساء المسنّات من لفظ القواعد هو الملازمة العاديَّة بين التقدُّم في العمر وعدم الرغبة في النكاح، فالآيةُ المباركة استعانت بهذه الملازمة في تفسير معنى القواعد. ولعلَّها أرادت أنْ تُشير إلى أنَّ المرأة المُسنَّة لو لم تنقضِ عنها الرغبةُ في النكاح فإنَّها لا تكون مشمولةً للأحكام المترتِّبة على عنوان القواعد. وبذلك يكونُ الخارج عن أحكام القواعد صنفان من النساء:

الصنفُ الأول: هو المرأة الشابَّة التي لا رغبةَ لها في النكاح.

والصنفُ الثاني: هو المرأة المُسنَّة التي يتَّفق عدم انقضاء رغبتِها في النكاح.

وبتعبيرٍ آخر: إنَّ من المحتمل قويَّاً أنَّ وصف القواعد باللاتي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا ليس لغرض التعريف وإنَّما هو لغرض الاشتراط، بمعنى أنَّ الأحكام المترتِّبة على القواعد منوطةٌ بفعليَّة عدم رغبة المسنَّات في النكاح، فوصفُ القواعد باللاتي لا يرجون نكاحاً حيثية تقيديَّة وليس وصفاً توضيحيَّاً، ويمكن تعزيزُ هذا الاحتمال بدعوى أنَّ مفهوم القواعد مفهومٌ واضحٌ عُرفاً وأنَّ المراد منه النساء المُسنَّات، فالوصف المذكور إنَّما أُريد منه التقييد دون التفسير.

وأمَّا المقدار الذي يجوز للقواعد كشفه أمام الأجنبي فقد وقع الاختلاف فيه بين الفقهاء، فقد نُسب إلى بعض الفقهاء القول بجواز كشف تمام الجسد ماعدا العورة، واحتمل السيدُ الخوئي (رحمه الله) أنَّ منشأ المصير إلى هذا القول هو استظهارُ الإطلاق من الآية حيثُ أفادت أنَّه لا جُناح على القواعد في وضع ثيابهنَّ دون أنْ تقيِّد الثياب بنوعٍ خاص منها كالقناع مثلاً أو الجلباب، وهذا ما يقتضي استظهار أنَّ للقواعد وضعَ جميع الثياب عنهنَّ. فالجمع في الثياب إنَّما هو بالإضافة إلى كلِّ امرأة مسنَّة، أي أنَّ لكلِّ امرأةٍ مسنَّة أنْ تضع عن جسدِها جميع الثياب، نعم الإطلاق لا يشملُ الثياب الساترة للعورة للقطع بعدم إرادة ذلك من الإطلاق وهو ما يقتضي عدم الشمول للثياب الساترة للعورة.

وبتعبيرٍ آخر: إنَّ الإطلاق إنَّما يُتمسَّك به في ظرف الشك في المراد وأنَّ هذا الفرد مشمولٌ للإطلاق أو أنَّه غير مشمول، أمَّا فيما يُحرز عدم إرادتِه فإنَّه لا مجال معه للتمسُّك بأصالة الإطلاق للبناء على إرادته. وحيثُ إنَّ من الواضح أنَّ كشف العورة من الموارد التي اقتضت الضرورة الفقهيَّة أو الدينيَّة عدم جوازه مطلقاً للرجل والمرأة وفي عمر الصبا أو الشيخوخة لذلك فهو غير مشمولٍ للإطلاق جزماً.

هذا ما يُمكن أنْ يُنتصر به لصالح هذا القول المنسوب لبعض الفقهاء إلا أنَّ مقتضى التحقيق هو عدم صحَّة هذا الاستظهار وأنَّه لا ظهور للآية في جواز وضع جميع الثياب، لأنَّ من المحتمل قويّاً أنَّ الجمع في الثياب إنَّما هو بلحاظ مجموع القواعد، وعليه يكونُ وِزان الآية وزان قول أحدِهم .. أيُّها الرجال ضعوا عمائمكم عن رؤوسكم، فالجمع في العمائم بلحاظ مجموع الرجال، أي أنَّ على كلِّ رجلٍ أنْ يضع عمامتَه عن رأسِه. فمعنى الآية ظاهراً انَّه لا بأس على المُسنَّة في أنْ تضع ثوبَها عن جسدِها.

والمنشأُ لهذا الاستظهار هو ما ورد في ذيل الآية من اشتراط عدم التبرُّج بالزينة، فإذا كان كشفُ ما يُتزيَّن به غير جائز للمرأة المُسنَّة فكشف الأرداف والصدر والبطن غير جائز بالأولوية القطعيَّة، أي أنَّ العُرف يرى أنَّ في تحريم كشف ما يُتزيَّنُ به مع إباحة كشف مثل الأرداف والصدر تهافتاً واضحاً، وهذا هو ما يُوجب استظهار عدم إرادة جواز إلقاء جميع الثياب عن الجسد. على أنَّ مذاق الشريعة والمقتضي للحرص على الحشمة يُساهم في استظهار ذلك، إذ لا ريب في أنَّ إلقاء جميع الثياب عن الجسد منافاة للحشمة. ولعلَّ ذلك هو منشأ السؤال المتكرِّر من الرواة عمَّا يصحُّ للقواعد كشفُه من ثيابهن، إذ لو كان الإطلاق مناسباً للمتفاهم العرفي لمّا ساغ السؤال عمّا يصلحُ كشفه ممَّا يعبِّر عن عدم استظهارهم لجواز إلقاء جميع الثياب. ولو لم يتم التسليم بما ذكرناه فلا أقلَّ من أنَّ الآيةَ مجملةٌ من هذه الجهة، وذلك لصلاحيَّة ذيل الآية للقرينيَّة بالإضافة إلى القرينة اللُبِّيَّة التي ذكرناها، أعني مذاق الشريعة المقتضي للحرص على الحشمة. وكيف كان فالمُحكَّم في المقام هو الروايات المتصدِّية لتحديد ما يجوز كشفُه للقواعد. وهي وإنْ اختلفت في مقدار ما يصحُّ كشفُه إلا أنَّها تشترك في إفادة عدم جواز وضع جميع الثياب، وعليه فهذه الروايات إمَّا أنْ تكون مقيِّدة للإطلاق المدَّعى أو أنَّها مفسِّرة لِما هو مجمل في الآية المباركة ومبيِّنة لِما يصحُّ وضعُه عن الجسد من الثياب.

فالرواياتُ على طوائف ثلاث:

أما الطائفة الأولى: فمفادُها أنَّ الذي يصحُ وضعُه للقواعد هو الجلباب أي الإزار وهو الرداء الذي تلبسُه المرأة فوق ثيابها، فهي تتجلبب به فيشتمل على معظم جسدها، وقيل إنَّ الجلباب كالمقنعة يغطِّي من المرأة رأسها وظهرها وصدرها ومن روايات هذه الطائفة صحيحةُ محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) في قوله عزَّ وجل: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاَّتي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾ ما الذي يصلحُ لهنَّ أنْ يضعن من ثيابِهن قال (ع): الجلباب"(1).

وأمّا الطائفة الثانية: فمفادُها أنَّ الذي يصحُّ وضعُه للقواعد هو الخمار بالإضافة إلى الجلباب، والمرادُ من الخمار هو ما تغطِّي به المرأةُ رأسَها. ومن روايات هذه الطائفة صحيحةُ حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله (ع): "إنَّه قرأ يضعن من ثيابهن، قال (ع): الجلباب والخمار إذا كانت المرأة مُسنَّة"(2). ومعنى ذلك أنه يصحُّ للمرأة المُسنَّة أنْ تكشف عن تمام شعرها بالإضافة إلى ذراعها وعنقها وشيءٍ من صدرها مما يلي العنق، وهذا بخلاف الطائفة الأولى والتي تقتضي عدم جواز كشف أكثر من الذراع والعنق وشيءٍ من الصدر، ذلك لأنَّ الجلباب يُلبس فوق الثياب والخمار فإذا وضعته لم ينكشف أكثر من الذراع والعنق وشيء من الصدر. وبذلك تكون هذه الطائفة مقتضية لكشف ما هو أوسع من الطائفة الأولى.

وأما الطائفة الثالثة: فمفادُها التفصيل بين الحرَّةِ والأمة، فالقواعد من الحرائر لا يصحُّ لهنَّ وضعُ غير الجلباب، وأما القواعد من الإماء فيصحُّ لهن وضعُ الخمار بالإضافة إلى الجلباب. فقد ورد في رواية أبي الصباح الكناني قال: سألتُ أبا عبد الله (ع) عن القواعد من النساء، ما الذي يصلحُ لهنَّ أنْ يضعن من ثيابهنَّ؟ فقال الجلباب إلا أن تكون أمة فليس عليها جُناح أنْ تضع خمارها(3). وهذه الرواية لو تمَّ سندُها لكانت شاهد جمعٍ بين الطائفتين الأولى والثانية إلا أنَّ سندها غيرُ معتبرٍ نظراً لاشتمالها على محمد بن الفضيل وهو مشترك بين الثقة والضعيف كما أفاد ذلك السيد الخوئي (رحمه الله). ومن هنا كان لابدَّ من معالجة ما يبدو من تعارضٍ بين الطائفتين الأولى والثانية. فنقول إنَّه لو عُرضت هاتان الروايتان على العُرف لجمع بينهما بهذا الجمع وهو أنَّه يجوز للقواعد أنْ يضعن عن جسدهنَّ الجلباب والخمار وإنْ كان يحسن منهنَّ عدم وضعِ غير الجلباب.

وتقريبُ هذا الجمع أنَّ الطائفة الثانية صريحةٌ في جواز وضع الخمار بالإضافة إلى الجلباب، وأمَّا الطائفة الأولى فهي على أحسن تقدير ظاهرةٌ في اختصاص الجواز بوضع بالجلباب، وعندما يتعارض الكلام الصريح مع الظاهر فإنَّ الجمع العرفيَّ يقتضي تقديهم الصريح على الظاهر.

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّه يجوز للقواعد من النساء أنْ يضعن عن جسدهن الجلباب والخمار، وذلك يقتضي جواز كشف الشعر والذراع والعنق وشيءٍ من الصدر ممَّا يلي العنق، ولا يصح لهنَّ كشفُ مادون ذلك. كالبطن والأرداف والظهر ونحو ذلك ممَّا اعتِيد سترُه.

نعم لا يصحُّ للقواعد أنْ يكشفن ذلك إذا كنَّ مشتملات على الزينة كالحليِّ والأصباغ بل لا يصحُّ لهنَّ كشف الثياب المزيَّنة أي المشتملة على الزينة أو الثياب ذات الألوان الزاهية التي تُتَّخذ عادة للزينة أو يرى العرف أنَّها من الزينة، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ ورغم أنَّ وضع الجلباب والخمار جائزٌ للقواعد من النساء إلا أنَّ الأولى بهنَّ التعفُّف عن ذلك كما هو مقتضى قولِه تعالى: ﴿وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.

والحمد لله رب العالمين

الشيخ محمد صنقور

3 / ربيع الأول / 1426هـ


1- النور / 60.