مشروعيَّة الشهادة بالولاية في الأذان (1)

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد

 

السؤال:

نودَّ أن نستوضح من فضيلتكم عن منشأ قول الشيعة بمشروعيَّة الشهادة لعليٍّ (ع) بالولاية في الأذان على خلاف ما عليه سائرُ الفرق الإسلاميَّة؟

 

الجواب:

أقول لكي يكونَ الجوابُ عن سؤالكم مستوفياً أرى من المناسب عرضَه في محاورَ أربعة:

المحور الأول: نستعرضُ فيه الموانع الشرعيَّة المحتملة للشهادةِ بالولاية في الأذان، وهي ثلاثة:

 

الاحتمال الأول: هو مضمون الشهادة.

الاحتمال الثاني: توقيفيَّة فصول الأذان.

الاحتمال الثالث: عدم صحَّةِ الكلام أثناء الأذان.

 

أمَّا الاحتمال الأول: فهو أنَّ مضمون الشهادة بالولاية لعليٍّ (ع) لو كان منافيًا للشريعة وكان على خلاف ما هو ثابت في العقيدة الإسلاميَّة لكان الإقرار بها والإجهار باعتقادِها محرَّمًا، أمَّا إذا لم تكن كذلك وكان مضمونها صحيحاً فلا مانع حينئذٍ شرعاً من الإعلان عن الاعتقاد بمضمونِها في الأذان من هذه الجهة.

 

إذن لا بدَّ من البحث عن صحَّة مضمون الشهادة لعليٍّ بالولاية وعدم صحَّته، وهذا يستدعي استعراضَ ما يقولُه الشيعة في الأذان بعد الشهادة للنبيِّ (ص) بالرسالة، فهم تارةً يقولون : "أشهد أن عليَّاً أميرُ المؤمنين"، وتارة يقولون: "أشهد أنَّ عليَّاً حجَّةُ الله" وتارةً أُخرى يقولون: "أشهد أنَّ عليَّاً وليُّ الله" وتارة يجمعون بين المضامين الثلاثةِ في أذانٍ واحد.

 

أمَّا بالنسبة للمضمون الأول، وهو الشهادة لعليٍّ (ع) بأُمرةِ المؤمنين فلا أعتقدُ أنَّ أحدًا من المسلمين يشكُّ في صوابيَّتِه ومطابقتِه للواقع ومناسبته لمقتضى الدليل القطعيِّ الثابت عن الشريعة.

وأمَّا بالنسبة للمضمون الثاني: وهو الشهادةُ لعليٍّ بأنَّه حجَّةُ الله فهو كذلك ليس موردًا للخلاف بين المسلمين إذ أنَّ الحجَّة بمعنى الدليل، فحجَّةُ الله تعالى هو مَن يدلَّ على الله عزَّ وجل ويُعرِّف الناس بآياته وبراهينِه وأحكامه وتعاليمِه، ولذلك صحَّ إطلاقُ وصفِ الحجَّة على كلِّ عالم مِن علماء الشريعة إذا تصدَّى للتعليم والتذكير والوعظ والإرشاد، ولا ريب أنَّ عليَّ بن أبي طالب (ع) هو من أكثر العلماء لياقةً بهذا الوصف.

 

على أنَّه وردت رواياتٌ عديدة من طرق السُنَّة وصفت عليَّاً (ع) بأنَّه حجَّةُ الله عزَّ وجل.

 

منها: ما أخرجَه الديلمي أنَّ رسول الله (ص) قال: "أنا وعليٌّ حجَّةُ الله على عبادِه"(1).

ومنها: ما ورد في الرياض النضرة للمحبِّ الطبري عن أنس بن مالك قال: كنتُ عند النبيِّ (ص) فرأى عليَّاً مقبلاً، فقال: يا أنس، قلتُ: لبيّك، قال: "هذا المقبل حجَّتي على أُمَّتي يومَ القيامة"(2).

ومنها: ما رواه الخطيبُ البغدادي بسندِه عن أنس بن مالك، قال: كنتُ عند النبيِّ (ص) فرأى عليَّاً مقبلاً فقال: "أنا وهذا حجَّةٌ على أُمَّتي يومَ القيامة"(3).

 

ويبقى الكلامُ في المضمونِ الثالث وهو الشهادةُ لعليٍّ (ع) بالولاية، فإذا كانت الولاية بمعنى النُصرةِ والحبِّ وأنَّ عليَّاً ناصرُ دينِ الله تعالى وانَّه حبيبُ اللهِ فلا أعتقد أنَّ أحدًا يتوقَّف في صوابيَّة هذا المضمون، فهو في طليعة مَن نصَرَ دينَ الله عزَّ وجلَّ وجاهدَ في سبيلِه، وهو مَن قال فيه رسولُ الله (ص) في غزوة خيبر "لأُعطينَّ الرايةَ غدًا رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَه ويُحبُّه اللهُ ورسولُه يفتحُ اللهُ على يديه.."(4).

 

وهو من أجلى مصاديق مَن قال اللهُ تعالى فيهم: ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ﴾(5).

ومَن قال الله تعالى فيهم: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾(6).

وهو مِن أجدر الناس بجزاء هذه الآية: ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾(7).

 

وأمَّا لو كانت الولايةُ بمعنى ولايةِ الأمر على الأُمة بعد رسول الله (ص) فيكونُ المراد من الشهادة بأنَّ عليَّاً وليُّ الله هو أنَّه وليٌّ من عند الله تعالى على الأمَّة وأولى الناس بالأمر بعد رسول الله (ص) فإنَّ هذا المضمون صحيحٌ ومطابِق لما هو مقتضى الأدلَّة القطعيَّة الثابتة عن الله تعالى وعن رسولِه (ص)، نعم هذا المضمون ليس مقبولاً عند أبناء السنَّة إلا أنَّ ذلك لا يكونُ مانعًا شرعاً من الإجهار به عند الشيعة، ذلك لأنَّهم معتقدونَ بصوابيَّته ويكفيهم في ذلك آيةُ الولاية(8) وحديثُ الغدير(9) المتواتر وما ثبت عن النبيِّ (ص) أنَّه قال: "إنَّ عليًا مني وأنا منه وهو وليُّ كلِّ مؤمن بعدي وأنَّه أولى الناس بكم بعدي"، فقد استفاضت الروايات من طرق السنَّة بنقل هذا المضمون وما هو قريب منه، فقد رواها الترمذي في صحيحه(10) وأحمد بن حنبل في مسنده(11) والنسائي في الخصائص(12) والهيثمي في مجمع الزوائد(13) وأورده المناوي في كنوز الحقائق(14) وأخرجه الديلمي(15) وابن أبي شيبة(16) وأبو حاتم(17) وأورده المتَّقي الهندي في كنز العمال(18) كما ذكره أبو داوود الطيالسي في مسنده(19) والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد(20) وابن الأثير في أسد الغابة(21) وأبو القاسم الدمشقي في الموافقات(22) وفي الأربعين الطوال(23)، وذكره ابنُ حجر في الإصابة(24) والمحبُّ الطبري في الرياض النضرة(25) وغيرهم من نقَلة الأخبار، هذا وقد أفاد المحبُّ الطبري في الرياض النضرة أنَّ حديث عمران بن وهيب "إنَّ عليًا منِّي وأنا منه، وهو وليُّ كلِّ مؤمنٍ بعدي" قويُّ السند والمتن وكذلك حديث بريدة "لا تقع في عليٍّ فإنَّه مني وأنا منه وهو وليُّكم بعدي"(26).

 

وثمّة رواياتٌ كثيرة وردت من طُرق السنَّة يمكن التمسُّك بها لإثبات صوابيَّة هذا المضمون إلا أنَّه لسنا بصدد هذا البحث.

 

وبناءً على ما تقدَّم يثبت أنَّ المضمون ليس هو المانع -لو كان ثمة مانع شرعًا- من الشهادة بالولايةِ لعليٍّ في الأذان، وذلك لأنَّ هذا المضمون صحيحٌ ومطابِقٌ لما هو مقتضى الأدلَّة القطعيَّة الثابتة عن الله تعالى وعن رسوله (ص) ولا أقل أنَّه ليس مانعًا بنظر الإماميَّة بعد اعتقادهم بصوابيَّتِه، ولا ينبغي أن يكون مانعاً عند أبناء السُنَّة، وذلك لأنَّ عليَّاً إذا لم يكن وليَّاً بنظرِهم بالمعنى الثالث فهو وليٌّ بالمعنى الأول والثاني وهو كذلك حجَّة الله وأميرُ المؤمنين.

 

توقيفيَّة فصول الأذان:

وأمَّا الاحتمال الثاني: وهو أنَّ المانع من الشهادة لعليٍّ بالولاية في الأذان هو توقيفيَّة فصول الأذان، أي أنَّه لما كان الأذان من الأفعال العباديَّة التي لا يصحُّ تلقِّيها من غير الكتاب والسُنَّة، وأنَّه لمَّا كانت فصول الأذان التي ثبت ورودُها عن السُنَّة الشريفة محدَّدة وليس منها الشهادة بالولاية فحينئذٍ يكون تجاوزُها إلى غيرها أو إضافة شيءٍ عليها من التشريع المحرَّم، فتوقيفيَّة الأذان -أي لزوم الوقوف على خصوص ما ثبت عن السنَّة- تقتضي عدم مشروعيَّة إضافة الشهادة بالولاية نظرًا لعدم ثبوت جزئيَّتها للأذان.

 

فإذن التوقيفيَّةُ هي المانعُ شرعاً من إضافة الشهادةِ بالولاية للأذان.

 

والجواب عن دعوى مانعيَّة التوقيفيَّة من إضافة الشهادة بالولاية في الأذان هو أنَّ التوقيفية تكونُ مانعًا لو كان الإتيان بالشهادة لعليٍّ بالولاية في الأذان بقصد الجزئيَّة وبقصد أنَّها فصلٌ من فصول الأذان، أما لو جيء بها بقصد الاستحباب المُطلق فإنَّ ذلك لا يكونُ من التشريع ولا تكون التوقيفيَّة مانعًا منه، فكما أنَّ الصلاةَ على النبيِّ (ص) بعد الشهادةِ له بالرسالة بقصد الاستحباب المُطلق ليست من التشريع، وكما أنَّ الثناءَ على الله تعالى بعد التكبير أو بعد الشهادة له بالتوحيد لا تكونُ من التشريع إذا قُصد منه الاستحباب المُطلق فكذلك الشهادةُ بالولاية لعليٍّ (ع).

 

وبتعبيرٍ آخر: لمَّا ثبت استحبابُ الإقرار لعليٍّ بالشهادة في كلِّ موردٍ وعلى أيِّ حال فإنَّ الإتيان بذلك في الأذان بقصد الأمر الاستحبابي الثابت في كلِّ مورد ليس من التشريع ولا ينافي التوقيفيَّة، إذ أنَّ التوقيفية في المقام تقتضي عدم جواز الإتيان بما ليس بجزءٍ بقصد أنَّه جزء من المأمور به، والمُفترض أنَّ الإتيان بالشهادة لم يكن بقصد الجزئيَّة للأذان وإنَّما هو بقصد استحبابِها الثابت في كلِّ مورد وعلى أيِّ حال، فكما يصحُّ للمؤذِّن أنْ يصلِّي على النبيِّ (ص) بعد الشهادة له بالرسالة إذا لم يكن يقصد بالصلاة عليه أنَّها مِن أجزاء وفصول الأذان وإنَّما قصد امتثال الاستحباب المُطلق الثابتِ للصلاة عليه في كلِّ موردٍ فكذلك الحال بالنسبةِ للشهادة بالولاية.

 

بل إنّه لو لم يثبت الاستحباب المُطلق للشهادة بالولاية فإنَّ توقيفيَّة الأذان لا تقتضي المنع عن الشهادة بالولاية إذا لم يقصد بها المؤذن أنَّها من أجزاء وفصول الأذان، وذلك لِما ذكرناه من أنَّ التوقيفيَّة لا تقتضي أكثر من المنع عن إضافة شيءٍ للمأمور به بقصد أنَّه من المأمور به، أما أنْ يتخلَّل امتثال المأمور به قولٌ أو فعل من غير المأمور به ويكون بغير قصد انَّه من المأمور به فذلك لا ينافي التوقيفية، عينًا كما لو كان المكلَّف يقرأ سورةً من القرآن وفي أثناء قراءته لها يأتي بفقرة من غير السورة دون أن يكون قاصدًا أنَّها من أجزاء السورة كما لو مرَّ على آية فيها ذكر النار فقال: "نستجير بالله من النار" فإنَّ هذه الفقرة أو غيرها حتى لو لم تكن مستحبَّة في نفسها إلا أن التلفُّظ بها أثناء التلاوة للسورة غير ضائرٍ بصحَّة امتثال التلاوة للسورة، ولا تقتضي توقيفيَّةُ السورة المنع من التلفُّظ بهذه الفقرة أو غيرها، نعم قد يُقال إنَّ الشهادة بالولاية كلام من غير جنس الأذان فلا يصح التلفُّظ به أثناء الأذان إلا أن ذلك لو تمَّ فهو مانع آخر غير توقيفيَّة الأذان، وسوف نبحثُه في المانع الثالث إنْ شاء الله تعالى وسيتَّضح هناك إنَّ الكلام بغير جنس الأذان في أثنائه لا يضرُّ بصحَّة الأذان، وأنَّه لاشيء يقتضي تحريمَه.

 

والمتحصِّل ممَّا ذكرناه انَّنا وإنْ كنَّا نسلِّم بتوقيفيَّة الأذان إلاَّ أنَّ ذلك لا يشكِّل مانعاً من الشهادةِ في أثنائه بالولاية لعليٍّ (ع) باعتبار أنَّنا لا نقصدُ من ذلك أنَّها من أجزاء وفصول الأذان، فالشهادةُ بالولاية والصلاةُ على النبيِّ (ص) يُؤتَى بهما أثناء الأذان ولا يُقصد منهما الجزئيَّة له.

 

وحتَّى يتوثَّق السائل الكريم من صحَّة ما ادَّعيناه مِن أنَّ الشهادة بالولاية ليست مِن أجزاء الأذان بنظر الإماميَّة ولا يصحُّ قصد جزئيَّتِها له بنظرهم.

 

ننقل بعضَ الأقوالِ الصادرة عن أساطين المذهب:

1- قال الفقيه النراقي في كتابه مُستند الشيعة (المسألة الأولى): "لا خلافَ بين الشيعة في أنَّ الأذان ثمان فقرات: التكبير ثمَّ الشهادة بالتوحيد ثمَّ الشهادة بالرسالة ثمَّ قول حيَّ على الصلاة ثمَّ حيَّ على الفلاح ثمَّ حيَّ على خير العمل ثمَّ التكبير ثمَّ التهليل، والإقامة تسع بزيادة قد قامت الصلاة قبل التكبير والتهليل الأخيرتين، وعلى ذلك تواترت الأخبار وتطابقت كلمات علمائنا الأخيار مدَّعياً كثير منهم عليه الإجماع"(27).

 

2- قال الشيخ أبو جعفر الطوسي في كتابه الخلاف: "الأذان عندنا ثمانية عشر كلمة، وفي أصحابنا مَن قال عشرون كلمة، التكبير في أوِّله أربع مرَّات والشهادتان مرَّتين مرَّتين، حيَّ على الصلاة مرَّتين، حيَّ على الفلاح مرَّتين، حيَّ على خير العمل مرَّتين، الله أكبر مرَّتين، لا إله إلا الله مرَّتين، ومَن قال عشرون كلمة قال التكبير في آخره أربع مرات"(28).

 

ولا منافاة بين كلام النراقي وكلام الشيخ الطوسي، فمعقدُ الإجماع الذي أفاده الشيخ النراقي هو في عدد فقرات الأذان وما عدَّده الشيخ الطوسي من فقراتٍ للأذان ثمان فقرات وأفاد أنَّ ذلك هو الأذان عندنا، ومخالفة بعض الشيعة إنمَّا هو في عدد التكبيرات الأخيرة، فالمشهور شهرة عظيمة أنَّهما اثنتان إلاَّ أنَّ بعضهم أفاد أنَّها أربع، فهذا هو مورد الخلاف، وأما اشتمال الأذان على غير هذه الفقرات والفصول فهو ليس واردًا أصلاً.

 

3- قال المحقِّق الحلِّي في الشرايع: "والأذان على الأشهر ثمانية عشرة فصلاً: التكبير أربع والشهادة بالتوحيد ثمَّ بالرسالة ثمَّ يقول حيَّ على الصلاة ثمَّ حيَّ على الفلاح ثمَّ حيَّ على خير العمل والتكبير بعـده ثمَّ التهليل، كلُّ فصل مرَّتان"(29).

 

وعلَّق السيد الفقيه العاملي في كتابه مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام بقوله: "هذا هو مذهب الأصحاب لا أعلم فيه مخالفًا، والمستند فيه ما رواه ابنُ بابويه والشيخُ عن أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي عن أبي عبد الله (ع) أنَّه حكى لهما الأذان فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، أشهد أنْ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمَّدًا رسول الله، أشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، حيَّ على خير العمل، حيَّ على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، لا إله إلاَّ الله، والإقامةُ كذلك ثمَّ ساق رواياتٍ أخرى ثمَّ قال: وأشار المصنَّف بقوله (على الأشهر) إلى ما رواه الشيخ بسنده إلى الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد عن عبد الله بن سنان، قال: سألتُ أبا عبد الله (ع) عن الأذان ثمَّ ذكر الرواية المشتملة على تكبيرتين في أوَّل الأذان ثم أفاد أنَ الشيخ الطوسي في الخلاف حكى عن البعض تربيع التكبير في آخر الأذان وهو شاذّ مردود بما تلوناه من الأخبار"(30).

 

أقول: الاختلاف إنما هو في عدد التكبيرات، وأمَّا عدد فصول الأذان وكذلك الإقامة فهو مورد إجماع وتسالم بين فقهاء الإماميَّة كما اتَّضح لك ممَّا نقلناه.

 

وبذلك تتبيَّن أجزاء وفصول الأذان عند الإماميَّة وأنَّه ليس منها الشهادة لعليٍّ بالولاية.

 

قال العلاَّمة: في المنتهى بعد أنْ نقل رواية الاحتجاج المروية عن الإمام الصادق (ع) والذي ورد فيها "فإذا قال أحدكم لا إله إلا الله محمَّد رسول الله فليقل عليٌّ أمير المؤمنين"، قال العلاَّمة في أبواب مناقبه (ع): "ولو قاله المؤذِّن أو المُقيم لا بقصد الجزئيَّة بل بقصد البركة لم يكن آثماً فإنَّ القوم جوَّزوا الكلام في أثنائهما مُطلقًا، وهذا مِن أشرف الأدعيَّة والأذكار"(31).

 

وقال السيِّد الخوئي (رحمه الله) في كتابه مستند الشيعة تعليقًا على ما أفاده السيِّد اليزدي صاحبُ العروة الوثقى: "وأمَّا الشهادةُ لعليٍّ بالولاية وإمرة المؤمنين فليس جزءً منهما، وقال السيِّد الخوئي فيما قال: "لا شبهة في رجحان الشهادةِ الثالثة في نفسِها بعد أن كانت من مُتمِّمات الرسالة ومُقوِّمات الإيمان، فهي إذن أمرٌ مرغوب فيه شرعاً وراجحٌ قطعًا في الأذان وغيره وإنْ كان الإتيانُ بها فيه بقصد الجزئيَّة بدعةُ باطلة وتشريعاً محرَّمًا حسبما عرفت"(32).

 

ويُمكن أنْ نؤيِّد ما ادَّعيناه مِن أنَّ توقيفيَّة الأذانِ لا تقتضي المنع عن الشهادةِ لعليَّ (ع) بالولاية بأمور:

 

الأوَّل: بما ذكره ابنُ قدامة الحنبلي في كتابه المُغني قال: "ويكرهُ التثويب في غيرِ الفجر سواءً ثوَّب في الأذان أو بعده لما رُوي عن بلال أنَّه قال: أَمرني رسولُ الله أنْ أثوِّب في الفجر ونهاني أنْ أثوِّب في العشاء"(33).

 

فرغم أنَّ التثويب "الصلاة خير من النوم" منهيٌّ عنه في العشاء، بحسب الرواية المذكورة أو غيرُ مأمورٍ به في غير الفجر كما هو مقتضى مدلول الرواية إلاَّ أنَّهم لم يُفتوا بمانعيَّته لصحَّة الأذان، وغايةُ ما أفتوا به هو الكراهة، وذلك يُعبِّر عن أنَّ توقيفيَّة الأذان لا تمنعُ مِن إضافة شيءٍ إليه بغير قصد الجزئيَّة.

 

الثاني: ما ذكره ابنُ قدامة في المُغني: "ولا يستحبُّ أنْ يتكلَّم في أثناء الأذان وكرهَه طائفةٌ من أهل العلم، قال: الأوزاعي لم نعلم أحدًا يُقتدى به فعل ذلك، ورخَّص فيه الحسنُ وعطاءٌ وقتادة وسليمان بن صُرَد، فإن تكلَّم بكلام يسيرٍ جاز وإنْ طال بطل لأنَّه يقطعُ الموالاة. فلا يُعلم أنَّه أذان"(34).

 

تلاحظون أنَّ الأكثر أفتى بعدم استحباب الكلام أثناء الأذان وذهب البعض للكراهة وهو يُعبِّر عن عدم منافاة التوقيفيَّة للشهادة بالولاية، لأنَّها على أسوأ التقادير مِن الكلام غير المستحب.

 

ومحذور المنافاة للموالاة لا يتحقَّق بمثل الشهادة، لعدم كونِها من الكلام الطويل الماحي لصورة الأذان.

 

وقال: صاحب كتاب الفقه على المذاهب الأربعة: الحنابلة قالوا: ردّ السلام أثناء الأذان، وتشميت العاطس مباح وان كان لا يجب عليه الرد مطلقًا، ويجوز الكلامُ اليسير عندهم في أثناء الأذان لحاجةٍ غير شرعيَّة كأنْ يناديه إنسان فيجيبه"(35).

 

الثالث: ما حكاه صاحب كتاب السيرة الحلبيَّة عن أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة أنَّه قال: "لا أرى بأساً أن يقول المؤذن في أذانه السلام عليك أيُّها الأميرُ ورحمةُ الله وبركاته، يقصد خليفة الوقت أيَّاً كان، ولذا كان مؤذّن عمر بن عبد العزيز يفعلُه، ويُخاطب عمر بن عبد العزيز في الأذان الله أكبر، الله أكبر، اشهد أنْ لا إله إلا الله، السلام عليك أيُّها الأمير ورحمةُ الله وبركاتُه حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح حيَّ على الفلاح لا أرى باساً في هذا"(36).

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: تساؤلات في الفقه والعقيدة

الشيخ محمد صنقور


1- كنوز الحقائق لعبد الرؤوف المناوي: 43.

2- الرياض النضرة للمحب الطبري: ج2/193، وذكره المحب الطبري في كتابه ذخائر العقبى، وقال: أخرجه النقَّاش: 77.

3- تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي: ج2 / 88.

4- صحيح البخاري في الجهاد والسير في باب ما قيل في لواء النبي (ص)، ورواه في كتاب بدء الخلق في باب مناقب علي بن أبي طالب وباب غزوة خيبر، ورواه في باب من أسلم على يديه رجل.

ورواه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة في باب من فضائل علي بن أبي طالب ورواه في باب غزوة ذي قرد.

ورواه البيهقي في سننه: ج6 / 362، ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء: ج1 / 26.

ورواه أحمد بن حنبل في مسنده: ج5 / 322، ورواه النسائي في الخصائص: 6.

5- سورة الصف / 4.

6- سورة المائدة آية رقم 54. ورد أنها نزلت في علي راجع ما ذكره الرازي.

7- سورة آل عمران / 31.

8- آية الولاية هي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾. وقد وردت روايات كثيرة من طرق السنة أنها نزلت في الإمام علي بن أبي طالب # روى ذلك الواحدي في أسباب النزول: 148، وروى السيوطي في الدر المنثور في مقام تفسير الآية الشريفة بطرق كثيرة قال أخرجه الخطيب عن ابن عباس وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس، وقال أخرج ابن ابي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن سلمة بن كهيل، وقال أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد: ج7 / 17 عن عمَّار بن ياسر قال رواه الطبراني في الأوسط. ورواه المحبُّ الطبري: في الواحدي وابن الجوزي، ورواه في الرياض النضرة ج2- 227.

ورواه المتَّقي الهندي في كنز العمال عن ابن عباس: ج6 / 319 قال: أخرجه الخطيب في المتفق.

ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره: ج6 / 186 بسنده عن عتبة بن حكيم ورواه بسنده عن غالب بن عبيد الله.

وذكر ذلك الزمخشري في تفسير الآية المباركة ولذلك ذكره الفخر الرازي في التفسير الكبير في تفسير الآية وغيرهم كثر.

9- رواه الترمذي في صحيحه: ج2 / 298، ورواه ابن ماجه في صحيحه في باب فضائل أصحاب رسول الله (ص)، ورواه الحاكم النسيابوري في مستدرك الصحيحين بطرق متعددة وصف بعضها بالصحيحة على شرط الشيخين: ج3 / 109، 116، 371، 533، ورواه ابن حجر في الصواعق المحرقة: 25 وأفاد أنه عند الطبراني وغيره بسند صحيح.

ورواه ابن حجر في الإصابة بطرق متعددة ج2 القسم1 / 57، ج3 القسم 1/29، ج4 القسم1 / 14، 16، 143، 169، 182، ج7 القسم1/156.

ورواه أحمد بن حنبل بطرق عديدة راجع: ج4/368، 375، 372، ج1/119، 152، 181، 330، ج5/307،، 419.

ورواه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد بطرق متعددة ج7/17، ج9/105، 106، 107، 108 هذا وقد وثق رجال بعض الطرق.

ورواه ابن الأثير في أسد الغابة بطرق متعددة ج2/169 وقال أخرجه المارقطني والبغوي ورواه النسائي في الخصائص بطرق متعددة، 21، 22، 23، 25، 26.

ورواه أبو زميم في حلية الأولين، ج5/26، ورواه الخطيب البغدادي: ج/ 29، ج12 / 343ن ورواه السيوطي في الدر المنثور في ذيل تفسير قوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين م أنفسهم، ونقله الفخر الرازي في تفسيره في ذيل تفسير قوله تعالى يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك، ورواه المتقي الهندي في كنز العمال بطرق كثيرة ج1 / 48 / ج6 / 153، 154 / 390، 397، 398، 399، 403، 405، ورواه المناوي في فيض القدير ج6/218، ورواه غير من ذكرناه.

10- صحيح الترمذي: ج2 / 297 رواه بسنده عن عمران بن حصين.

11- مسند الإمام أحمد بن حنبل ج4 / 437، ج5 /356.

12- خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 24.

13- مجمع الزوائد للحافظ نور الدين الهيثمي. ج9 / 128.

14- كنوز الحقائق بعدد الرؤف المناوي: 186 قال: وأخرجه الديلمي.

15- ذكر ذلك المناوي في كنوز الحقائق: 186 والمتقي الهندي في كنز العمال: ج6 / 154.

16- ذكر ذلك المتقي الهندي في كنز العمال: ج6 / 154، 155.

17- ذكر ذلك المحب الطبري في الرياض النضرة:ج2 / 171 وقال: أخرجه الترمذي وأبو حاتم وخرجه أحمد.

18- كنز العمال للمتقي الهندي: ج6 / 401 وقال: أخرجه ابن مردويه.

19- مسند أبي داوود الطيالسي: ج11 / 360.

20- تاريخ بغداد: ج4 / 339 وذكره المتقي الهندي في كنز العمال: ج6 / 396وقال: أخرجه ابن الجوزي، وذكره في ج6 / 159 وقال أخرجه الخطيب الرافعي.

21- أسد الغابة لابن الأثير: ج5 / 94 في ترجمة وهب بن حمزة، وذكره المناوي في فيض القدير: 357 وقال: أخرجه الطبراني.

22- ذكر ذلك المحب الطبري في الرياض النضرة: ج2 / 203.

23- ذكر ذلك المحب الطبري في الرياض النضرة: ج2 / 203.

24- الإصابة لابن حجر: ج6 القسم1/325.

25- الرياض النضره للمحب الطبري: ج2/203: قال أخرجه بتمامه أحمد وقال أخرجه النسائي بعضه.

26- ذكر ذلك المحب الطبري في الرياض النضرة: ج1/152.

27- مستند الشيعة للشيخ النراقي: ج4/478.

28- كتاب الخلاف للشيخ الطوسي: ج1/278.

29- شرائع الإسلام للمحقق الحلِّي: ج1/75.

30- مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام: ج3/2 280.

31- المنتهى للعلامة الحلي.

32- مستند العروة الوثقى للسيد الخوئي: ج2/2 288.

33- المغني لابن قدامة الحنبلي: ج1/171.

34- المغني لابن قدامة الحنبلي: ج1/78.

35- الفقه على المذاهب الأربعة: ج1/29.

36- السيرة الحلبية.