مشروعيَّةُ التَّثويب في الأذان

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

السؤال:

ما هو دليلُكم على عدم مشروعيَّة التثويب في أذان الصبح رغم انَّه وقع في عهد النبيِّ (ص) وقد أقرَّه؟

 

الجواب:

المقصودُ مِن التثويب

هو قول: (الصلاةُ خيرٌ مِن النوم) في الأذان بعد قول: (حيَّ على الفلاح) ومنشأُ التعبير عن ذلك بالتثويب هو انَّ حيَّ على الصلاة وحيَّ على الفلاح دعاءٌ إلى اقامةِ الصلاة وحثٌّ على أدائها، فإذا أنهى المؤذِّن ذلك ثم قال (الصلاة خير مِن النوم) فكأنَّه عاد إلى حثِّ الناس على إقامةِ الصلاة.

 

وحيث إنَّ العود إلى الشيء يُسمى تثويبًا لذلك سُمِّيَّ الاتيان بهذه الفقرة تثويبًا، لانَّ مَن أتى بها يكون قد عاد إلى الحثِّ على الصلاة بعد أنْ كان قد حثَّ على أدائها بالحيعلات.

 

فالتثويبُ مِن ثاب أي رجع وعاد، فيُقال ثاب اليه رُشدُه أي عاد إلى صوابِه وعقلِه، وثاب إلى بلده أي عاد إليها، ويُقال للأجر على العمل الصالح إنَّه ثواب، فكأنَّ العمل الصالح الصادر مِن العبد والذي خرج عنه قد عاد اليه ولكن في هيئةٍ أُخرى هي الأجر والمكافئة.

 

فمنشأُ إطلاقِ التثويب على قول المؤذِّن: (الصلاةُ خيرٌ مِن النوم) هو المناسبة اللُّغويَّة المذكورة.

 

اختلاف علماء العامَّة في شرعيَّة التثويب:

وقد وقع الخلافُ بين فقهاء المسلمين في مشروعيَّة التثويب، فذهب مشهورُ العامَّة إلى مشروعيَّتِه على اختلافٍ بينهم في بعض التفاصيل، وذهب الإماميَّة قاطبة إلى عدم مشروعيِّتِه في الأذان أي عدم جواز الإتيان به في الأذان بقصد الاستحباب والورود.

 

وعُمدةُ ما استند اليه الإماميَّة في دعواهم عدم المشروعيَّة هو خلوُّ الروايات المعتبرة الواردة في تَعداد فصول الأذان عن هذا الفصل بل إنَّ بعض الروايات صرَّحت بنفي أنَّه مِن فصول الأذان، هذا مضافًا إلى الإجماع القطعيِّ البالغ حدَّ التسالم بينهم على عدم مشروعيَّة التثويب وأنَّه مِن المُحدَثات.

 

وأمَّا ما عليه العامَّةُ فقد أفاد ابنُ رشد الحفيد في كتابه بداية المجتهد أنَّهم: "اختلفوا في قول المؤذِّن في صلاة الصبح (الصلاة خير مِن النوم)، هل يُقال فيها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنَّه يُقال فيها، وقال آخرون: إنَّه لا يقال لانَّه ليس من الأذان المسنون، وبه قال الشافعي، وسببُ اختلافِهم هل قيل ذلك في زمانِ النبيِّ (ص) أو إنَّما قيل في زمان عمر"(1).

 

ومعنى ذلك أنَّه لم يثبت عند المانعين للتثويب أنَّه من السُنَّة النبويَّة فما رُوي في ذلك عن النبيِّ (ص) لم يكن معتبرًا عندهم كما أنَّه يُستفاد مِن كلام ابن رُشد أنَّ ثمة مَن يروي أنَّ التثويب حدث في زمان عمر.

 

المُؤيِّدات على أنَّ التثويبَ من المُستحدَثات:

وقد وردتْ بعضُ النصوص المُؤيِّدة لذلك:

منها: ما ورد في كتاب الموطأ لمالك قال: إنَّه بلغه أنَّ المؤذِّن جاء إلى عمر بن الخطاب يُؤذِّنه لصلاة الصبح فوجدَه نائمًا فقال: الصلاةُ خيرٌ من النوم، فأمره عمرُ أنْ يجعلها في نداء الصُبح ثم قال: وحدَّثني يحيى عن مالك عن عمِّه أبي سهيل بن مالك عن أبيه انَّه قال: "ما أعرفُ شيئًا ممَّا أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة"(2).

 

ومنها: ما أورده ابنُ ابي شيبة في المصنَّف بسنده قال: "جاء المؤذِّن عمر لصلاة الصبح فقال: الصلاةُ خيرٌ مِن النوم فأُعجب به عمر، وقال للمؤذِّن: أقرَّها في أذانك"(3).

ومنها: ما أوردَه ابنُ أبي شيبة في المصنَّف بسنده عن ابن عون عن محمد قال: "ليس مِن السُنَّة أنْ يقولَ في صلاة الفجر الصلاة خيرٌ مِن النوم"(4).

 

ومنها: ما أوردَه ابنُ أبي شيبة أيضًا في المصنَّف بسنده عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: "ما ابتدعوا بدعةً أحبُّ إليَّ مِن التثويب في الصلاة يعني العشاء والفجر"(5).

وأورد ذلك ابنُ أبي شيبة بسندٍ عن طاووس: إنَّ أول مَن ثوَّب في الفجر بلال على عهد أبي بكر كان إذا قال: "حيَّ على الفلاح قال: الصلاةُ خيرٌ مِن النوم مرَّتين"(6).

 

ومنها: ما أورده عبدُ الرزاق الصنعاني في المصنَّف عن ابن جُريج قال: أخبرني ابنُ مسلم أنَّ رجلا سأل طاووسًا جالسًا مع القوم فقال: يا أبا عبدالرحمن متى قيل: الصلاة خيرٌ مِن النوم؟ فقال: أما إنَّها لم تُقَل على عهد رسول الله (ص) ولكنَّ بلالاً سمعها في زمان أبي بكر بعد وفاة رسول الله (ص) يقولُها رجلٌ غيرُ مؤذِّن فأخذها منه فأذَّن بها، فلم يمكث أبو بكر إلا قليلاً حتى إذا كان عمر قال: لو نهينا بلالاً عن هذا الذي أحدث، وكأنَّه نسيه فأذَّن به الناسُ حتى اليوم(7).

 

ومنها: ما أورده الصنعاني أيضاً عن ابن جُريج قال: "سألتُ عطاء: متى قيل: الصلاةُ خيرٌ مِن النوم؟ قال: لا أدري"(8).

 

ومنها: ما أورده الصنعاني في المصنَّف عن ابن جُريج قال: "أخبرَني عمرُ بن حفص أنَّ سعدًا أول مَن قال: الصلاةُ خيرٌ مِن النوم في خلافة عمر .. فقال: بدعة ثم تركه وإنَّ بلالاً لم يُؤذِّنْ لِعُمر"(9).

 

ومنها: ما أورده ابنُ ابي شيبة في المصنَّف بسنده عن عمران بن أبي الجعد عن الأسود بن يزيد أنَّه سمع مُؤذنًا يقول في الفجر: الصلاةُ خيرٌ من النوم فقال: لا يزيدون في الأذان ما ليسَ مِنه(10).

 

وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وذهبتْ العترة والشافعيُّ في أحد قوليه إلى أنَّ التثويبَ بدعةٌ قال في البحر: أحدَثَه عمر فقال ابنُه: هذه بدعة، وعن عليٍّ (ع) حين سمعَه: لا تزيدوا في الأذان ما ليس منه، ثم قال: بعد ذكر حديث ابي محذورة وبلال: قلنا: لو كان لَمَا أنكره عليٌّ وابنُ عمر وطاووس، سلَّمنا فأمر به اشعاراً في حال لا شرعًا جمعًا بين الآثار. انتهى(11).

 

ويُؤيِّد دعوى النافين لاِعتبار التثويب مِن السُنَّة في الأذان خلوُّ أذان عبدالله بن زيد الانصاري الذي كان مبدأً للأذان بعد رؤيته التي رآها في المنام وأقرَّه عليها رسولُ الله (ص) بحسب رواياتهم، خلوُّ أذانِه مِن التثويب في جميع الطرق المرويَّة والتي تصدَّت لبيان كيفيَّة أذانه، بل إنَّ العديد مِن الروايات الواردة مِن طرقِهم والمبيِّنة لأذان أبي محذورة لم تكن مشتملة على التثويب.

 

أدلَّة دعوى أنَّ التثويب من السُنَّة ومناقشتها:

فعمدة ما يستندُ اليه القائلون بأنَّ التثويب من السُنَّة النبويَّة هو طائفتان من الروايات.

الطائفة الاولى: هي التي ذكرت أنَّ التثويب قد زِيدَ في الأذان في عهدِ رسول الله (ص).

 

الرواية الاولى: ما رواه ابنُ ماجه في سُننِه قال: حدَّثنا محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي. ثنا أبي، عن عبد الرحمن ابن إسحاق، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أنَّ النبيَّ (ص) استشار الناسَ لِما يهمُّهم إلى الصلاة فذكروا البوقَ فكرهَه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس فكرهَه من أجل النصارى، فاُري النداء تلك الليلة رجلٌ من الانصار يُقالُ له عبدالله بن زيد وعمر بن الخطاب فطرق الانصاريُّ رسولَ الله (ص) ليلاً فأمرَ رسولُ الله (ص) بلالاً به فأذَّن.

 

قال الزهري: وزاد بلال في نداء صلاة الغداة: الصلاةُ خيرٌ مِن النوم فأقرَّها رسولُ الله (ص).

قال في الزوائد: في اسناده محمد بن خالد، ضعَّفه أحمد بن معين وابو زُرعة وغيرهم(12).

 

الرواية الثانية: ما وراه ابنُ ماجه في سُننه بسنده عن الزهري عن سعيد بن المسيَّب عن بلال أنَّه أتى النبيَّ (ص) يُؤذِّنه الفجر فقيل: هو نائم فقال: الصلاةُ خيرٌ مِن النوم مرَّتين فأُقرَّت في تأذينِ الفجر، فثبت الأمرُ على ذلك.

 

وعلَّق في الزوائد على الرواية: أنَّ اسناده ثقات إلا أنَّ فيه انقطاعًا لانَّ سعيد بن المسيَّب لم يسمع من بلال(13). فالروايةُ ضعيفةٌ بسبب الانقطاع والإرسال.

 

الرواية الثالثة: ما رواه البيهقي في السُنن الكبرى بسنده عن حفص بن عمر بن سعد أنَّ سعدًا كان يؤذن لرسول الله (ص) قال حفص فحدَّثني أهلي أنَّ بلالاً أتى رسولَ الله (ص) ليؤذنه بصلاة الفجر فقالوا: إنَّه نائم فنادى بأعلى صوتِه الصلاةُ خيرٌ مِن النوم فاُقرَّت في صلاة الفجر(14).

 

قال الزيلعي في كتابه نصب الراية: روى البيهقي في المعرفة عن الحاكم بسنده عن الزهري -وساق الرواية- وقال: هذا مرسلٌ حسن والطريق له صحيح، قال في الامام وأهل حفص غير مُسمَّين فهم مجهولون(15).

 

فالطريق إلى هذه الرواية وانْ كان صحيحًا بنظرِه الا أنَّ راويها قد أرسلَها عن أهلِه وهم مجهولون، فهي اذنْ ضعيفة لذلك.

 

الرواية الرابعة: ما رواه الطبراني في المعجم الكبير بسنده عن عبدالله بن محمد وعمر وعمَّار ابني حفص عن آبائهم عن أجدادِهم عن بلال أنَّه كان يُؤذن بالصبح فيقول: حيَّ على خير العمل فأمر رسول الله (ص) أنْ يجعل مكانَها الصلاةُ خيرٌ مِن النوم وترك حيَّ على خيرِ العمل(16).

 

قال الهيثمي معلِّقًا على هذه الرواية بأنَّ في سندها عبدالرحمن بن سعد، وقد ضعَّفه ابنُ معين(17).

 

الرواية الخامسة: ما رواه الطبراني في المعجم الاوسط عند عبدالرحمن بن قسيط عن أبي هريرة قال: جاء بلالٌ إلى النبيِّ (ص) يُؤذنه بصلاة الصبح فقال مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس فعاد اليه فرأى منه ثقلة فقال مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس فذهب فأذن فزاد في أذانه الصلاةُ خيرٌ مِن النوم، فقال له النبيُّ (ص) ما هذا الذي زدتَ في أذانِك قال: رأيتُ منكَ ثقلة فأحببتُ أنْ تنشط فقال اذهب فزدْه في أذانِك ومُر أبا بكر فليصلِّ بالناس(18).

 

وعلَّق الهيثمي على سند الرواية بأنَّ فيه عبدالرحمن بن قسيط ولم أجد مَن ذكره(19). فهو إذن مُهمل ومجهول الحال، ولعلَّه مُصحَّف عن عبدالرحمن بن سعد الذي ضعَّفه ابنُ معين.

 

وروى الطبراني أيضًا في المعجم الاوسط بسنده عن أبي هريرة انَّ بلالاً أتى النبيَّ (ص) عند الأذان في الصبح فوجدَه نائمًا فناداه الصلاةُ خيرٌ مِن النوم فلم يُنكرْه رسولُ الله (ص) واُدخله في الأذان فلا يُؤذن لصلاةٍ قبل وقتها غير صلاة الفجر(20).

 

قال الهيثمي: رواه الطبراني في الاوسط وقال تفرَّد به مروان بن ثوبان قلتُ: ولم أجد مَن ذكره(21). فالرواية بذلك تكون مُهملة لا اعتبار لها.

 

هذا وقد أورد الهيثمي رواية عن عائشة قريبة المضمون ممَّا رواه عن ابي هريرة وأفاد أنَّه رواه الطبراني في الاوسط بسنده عن عائشة وفيه صالح بن أبي الاخضر(22).

 

وصالح هذا وصفه ابنُ حجر في تلخيص الحبير بالضعيف(23) ووصفَه بذلك أيضًا في فتح الباري(24) ووصفه البخاري بالليِّن في التاريخ الكبير(25) ووصفه بذلك في كتاب الضعفاء الصغير(26) ووصفه النسائي في كتاب الضعفاء والمتروكين بالضعيف(27) وفي ضعفاء العقيلي أنَّه ليس بشيء(28).

 

هذا هو محصَّل الروايات مِن هذه الطائفةِ والتي أفادت أنَّ التثويب قد زِيد في أذان الفجر أو الصبح على عهدِ رسول الله (ص) فاقرَّهم النبيُّ (ص) على ذلك أو أمرَ هو بإضافتِها في الأذان لصلاة الفجر وهي جميعًا ضعيفةُ الاسناد، وأهملنا ذِكر بعضها لانَّها مثلها في الضعف أو هي أوهنُ منها لذلك لا يصحُّ الاحتجاج بشيءٍ منها، على انَّها ورغم كونِها تشير إلى واقعةٍ واحدة إلا أنَّ مفادها مضطرب اضطرابًا شديدًا.

 

أمَّا أنَّها تشيرُ إلى واقعةٍ واحدة فلانَّه من غير المعقول أنْ يتعدَّد الامر باضافتِها، فإذا كان النبيُّ (ص) قد أقرَّ بلالاً بإضافتِها في أذان الصبح أو أمره باضافتِها فحينئذٍ لا معنى للأمر مرةً أُخرى بإضافتِها والحال أنَّها قد اُضيفت خصوصاً انَّ المأمور بالاضافة أو الذي أُقرَّ له اضافتُها هو بلال في جميع الروايات.

 

فإذا كانت الواقعة متَّحدةً فالرواياتُ الحاكية عنها متكاذبة لانَّ مفاد بعضِها انَّ النبيَّ (ص) أمرَ بلالاً ابتداءً بإضافتِها مكان حيَّ على خيرِ العمل، ومفادُ بعضِها أنَّ بلالاً أضافها استحسانًا منه فلم يُنكرْه رسولُ الله (ص) ومفادُ البعضِ الآخر أنَّ النبيَّ (ص) سمعه وقد زادَها في أذانه فسألَه عن ذلك فقال له: رأيتُ منك ثقلةً فأحببتُ أنْ تنشط فقال اذهب فزدْه في أذانِك. وفرق بين عدم انكاره وبين أمرِه له بأنْ يزيدَها في الأذان، فالمفادان وإنْ لم يكن بينهما تكاذب إلا انَّ ذلك مِن الاضطراب في نقل الواقعة الواحدة المنتِج لسلب الوثوق.

 

هذا وقد أفاد بعضُ هذه الروايات أنَّ بلالاً أضاف هذه الزيادة قبل أنْ يأمرَه النبيُّ (ص) ثم أقرَّهُ عليها أو لم يُنكرْه أو أمرَه بالزيادة، وفي مقابل ذلك أفادتْ بعضُ هذه الروايات انَّه جاء بهذه الفقرة خارجَ الأذان فاستحسَنَها النبيُّ (ص) فأمرَه بإضافتِها في الأذان وهو مِن الاضطراب في نقل الواقعةِ الواحدة بل لا بدَّ مِن كون أحد المفادين منافياً للواقع.

 

هذا وقد ذكر السرخسي أنَّه حينما جاء بلالٌ إلى حجرة عائشة يُؤذِّن النبيَّ (ص) لم يستيقظ النبيُّ (ص) وإنَّما أخبرته عائشة بما فعل بلال وهو منافٍ لما رُوي مِن أنَّ النبيَّ (ص) أجابَه وأمرَه بأنْ يأمرَ أبا بكر بالصلاةِ، وكذلك هو منافٍ لِمَا ورد فيها مِن أنَّ النبيَّ (ص) استوقفه وسألَه عن منشأ الزيادة ثم استحسَنَ رأيَه وأقرَّه على الزيادة، وفي بعض الروايات أنَّ بلالاً لمَّا أنْ أذَّن وجدَ النبيَّ (ص) قد أغفى فقال: الصلاةُ خيرٌ مِن النوم فقال له: اجعلْه في أذانِك، وهذا معناه انَّ النبيَّ(ص) كان معه في المسجد وهو ما يُنافي الروايات الأخرى.

 

فهذه الطائفةُ مِن الروايات مُضافًا إلى ضعفِها السندي مضطربةُ المفاد رغم أنَّها تحكي عن واقعةٍ واحدة، لذلك لا يُمكن الوثوقُ بصدورِها، فلا يصحُّ الاحتجاجُ بها، على أنَّها مناقضة لما رُوي مِن أنَّ التثويب في أذان الفجر قد تمَّت إضافتُه في عهد عمر بن الخطاب.

 

وسنشيرُ فيما بعد إلى أنَّ هذه الروايات على فرض التسليم بصدقِها جدلاً فهي لا تقتضي مشروعيَّة التثويب إلا في أذان الفجر الأول الذي يُؤذَّن به قبل دخولِ الوقت.

 

الطائفة الثانية: الروايات التي وصفت أذان أبي محذورة اشتمل بعضُها على هذه الاضافة وخلا بعضُها مِن هذه الاضافة.

 

أمَّا ما اشتمل منها على هذه الاضافة فهو وإنْ كانت بعض طرقِه مُصحَّحه الا أنَّ مفاد الروايات ذاتِ الطُرق المُصحَّحة مختلفةٌ فبعضُها ورد فيه أنَّ النبيَّ (ص) قال لأبي محذورة فإنْ كان الصبحُ قلتَ الصلاة خير مِن النوم ..).

 

ومفادُ البعض الآخر انَّ أبا محذورة قال: (كنتُ أؤذن للنبيِّ (ص) فكنتُ أقول في أذان الفجر الأول حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح الصلاةُ خيرٌ مِن النوم ..). وهذه الرواية صريحة في أنَّ الإضافة إنَّما هي في الاذان الذي يُؤذَّن به في الفجر الكاذب قبل دخول الوقت والذي يكون لغرض الإيقاظ.

 

وعليه تكون هذه الرواية مُفسِّرة للروايات الأُخرى، إذ لو كان مقصودُ النبيِّ (ص) حينما علَّمه الأذان وأمرَه بالاضافة هو الأمر بالإضافة في أذانِ الوقت الشرعيِّ لصلاة الصبح لكان عليه أنْ يلتزم بذلك لا أنْ يكتفي بالأذان بها في أذان الفجر الأول، ولو كان ملتزمًا بها في الأذان الثاني الشرعي فأيُّ معنًى لانْ يُخبر بأنَّه ملتزمٌ بذلك في أذان الفجر الأول، إذ لا خصوصيَّة له لو كان المأمور به هو الإضافة في الأذانين.

 

هذا وقد أخرج ابو داود والنسائي والطحاوى وغيرهم كما أفاد الألباني أنَّ النبيَّ (ص) قال لأبي محذورة بعد أنْ علَّمه الأذان: "وإذا أذنت بالاول مِن الصبح فقل: الصلاةُ خيرٌ مِن النوم ..".

 

قال الألباني وهو مخرجٌ في صحيح أبي داود فاتَّفق حديثُه مع حديث ابن عمر، ولهذا قال الصنعاني في سُبل السلام عقب لفظ النسائي وفي هذا تقييد لما أطلقتْه الروايات، قال ابن رسلان وصحَّح هذه الرواية ابنُ خزيمة، قال: فشرعيَّة التثويب إنَّما هي في الأذان الأول للفجر لانَّه لإيقاظ النائم، وأمَّا الأذانُ الثاني فإنَّه إعلام بدخول الوقت .. ومثل ذلك في سُنن البيهقي الكبرى عن أبي محذورة أنَّه كان يثوِّب في الأذان الأول مِن الصبح بأمرِه (ص).

 

قال الألباني: قلتُ: وعلى هذا ليس الصلاة خير مِن النوم مِن ألفاظ الأذان المشروع للدعاء للصلاة والإخبار بدخول وقتها بل هو مِن الألفاظ التي شُرِّعت لايقاظ النائم كألفاظ التسبيح الاخير انتهى(29).

 

وبما ذكرناه يتَّضح أنَّه لا يصحُّ الاحتجاج بالروايات المُطلقة التي وصفت أذان أبي محذورة لانَّها مفسَّرة ومقيَّدة بالروايات المُصحَّحة الأُخرى والتي أفادت أن الأمرَ بالتثويب كان لأذانِ الفجر الأول وأنَّ النبيَّ (ص) إنَّما أمرَه بالتثويب في أذانِ الفجر الأول كما هو مقتضى مفهوم الشرط المستفاد من قوله (ص): "واذا أذنت بالأول مِن الصبح فقل الصلاةُ خيرٌ مِن النوم".

 

وبهذا يتَّضح أنَّ مثل هذه الرواية المُصحَّحة تصلُّح لتفسير وتقييد مِثل رواية أنس أنَّه قال: "مِن السنَّة أنْ يقولَ في الفجر: الصلاةُ خيرٌ مِن النوم"، فهذه الرواية وإنْ كانت ضعيفة السند لانَّها مرسلة إلا أنَّه لو قلنا جدلاً باعتبارها فإنَّها تكون مفسَّرة بأذان الفجر الأول بمقتضى الرواياتِ المصحَّحة التي أفادت ذلك(30).

 

وكذلك يتَّضح ممَّا ذكرناه عدم صحَّة الاحتجاج بما رُوي عن بلال أنَّ النبيَّ (ص) قال له: "لا تثوِّبن في شيءٍ مِن الصلاة إلا في صلاة الفجر"، فهذه الرواية مضافاً إلى ضعفِها السندي كما أفاد ذلك ابنُ حجر في تلخيص التحبير نظرًا لاشتمالها على أبي اسماعيل الملائي وهو ضعيف ونظرًا للاِنقطاع بين عبدالرحمن وبلال فإنَّه مضافًا إلى ضعفِها فإنَّها تكون مفسَّرة بأذان الفجر الأول، وعلى ذلك تُحمل أيضاً الرواياتُ مِن الطائفة الأولى التي بيَّنا ضعفَها سندًا واضطراب متونِها.

 

فهي لو كانت صالحةً جدلاً لإثبات شيءٍ فإنَّ ذلك لن يكونَ أكثر مِن مشروعيَّة التثويب لأذان الفجر الأول الذي يُؤذَّن به ليلاً في خارج الوقت لغرض إيقاظ النائم، ولعلَّ الرواياتِ التي أفادت أنَّ بلالاً كان يُؤذِّن بليل وأنَّ ابن أمِّ مكتوم يؤذِّن للصلاة مؤيِّد لذلك.

 

وهي روايات عديدة من طرقٍ بعضها مصحَّح بحسب ضوابطِهم.

منها: ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن عبدالله بن عمر قال: قال النبيُّ (ص): "إنَّ بلالاً يؤذِّن بليلٍ فكلُّوا واشربوا أو قال حتى تسمعوا أذانَ ابن أمِّ مكتوم وكان ابنُ أمِّ مكتوم رجلاً أعمى لا يؤذِّن حتى يقولَ له الناسُ أصبحت"(31).

 

وروى ذلك مسلم في صحيحه عن ابنِ عمر بتفاوتٍ يسير(32) وروى البخاريُّ مِن طريقٍ آخر عن سالم بن عبدالله عن أبيه انَّ رسول الله (ص) قال: " إنَّ بلالاً يؤذِّن بليل فكلُّوا واشربوا حتى ينادي ابنُ أمِّ مكتوم"(33).

 

ومنها: ما رواه ابنُ حبَّان في صحيحِه بسنده عن ابن مسعود عن النبيِّ (ص) قال: "إنَّ بلالاً يؤذِّنُ بليل لينبِّه نائمَكم ويرجع قائمَكم وليس الفجر أنْ يقول هكذا وأشار بالسبابتين ولكن الفجر أنْ يقول هكذا وأشار بكفِّه".

 

ورواياتٌ أُخرى عديدة وردت مِن طرقِهم أفادتْ أنَّ بلالاً كان يؤذِّن بليلٍ، فلتكن هذه مؤيِّدًا على أنَّ الإضافة التي أقرَّه النبيُّ (ص) عليها كانت في هذا الأذان بل انَّ بعض هذه الروايات ظاهرٌ في أنَّ الإقرار من النبيِّ (ص) كان لأذان الفجر الذي يُؤذَّن به قبل الوقت، وهي رواية أبي هريرة أنَّ بلالاً أتى النبيَّ (ص) فوجدَه نائمًا فناداه الصلاةُ خير مِن النوم فلم يُنكرْه رسولُ الله (ص) وأدخلَه في الأذان فلا يُؤذَّن لصلاةٍ قبل وقتِها غير صلاة الفجر(34).

 

والمُتحصَّل مما ذكرناه أنَّ روايات الإقرارِ والأمرِ بالاضافة ضعيفةُ السند لا حجيَّة لها على مشروعيَّة التثويب في أذان الفجر الصادق على أنَّها مفسَّرة بالأذان الذي يُؤذَّن به لإيقاظ النائم بمقتضى الجمع العرفي بينها وبين ما ورد من الأمرِ بالاضافة في صلاة الفجر الأول وبما ورد من أنَّ ابا محذورة كان يثوِّب في خصوص أذان الفجر الأول وبما ورد عن ابن عمر أنَّه قال: "كان في الأذان الأول بعد الفلاح الصلاةُ خير مِن النوم مرَّتين" كما رواه البيهقي(35) ووصف ابنُ حجر سنده بالحسن(36).

 

وأفاد الشوكاني في نيل الأوطار أنَّ اسناده حسن ثم قال: قال اليعمري وهذا اسناد صحيح(37).

 

فلم يقم دليل معتبَّر على مشروعيَّة التثويب في أذان الوقتِ من صلاةِ الصبح.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- بداية المجتهد ونهاية المقتصد -ابن رشد الحفيد- ج1 / ص88.

2- كتاب الموطأ -الإمام مالك- ج1 / ص72.

3- المصنف -ابن أبي شيبة الكوفي- ج1 / ص236.

4- المصنف -ابن أبي شيبة الكوفي- ج1 / ص236.

5- المصنف-ابن أبي شيبة الكوفي- ج1 / ص237.

6- المصنف -ابن أبي شيبة الكوفي- ج8 / ص354.

7- المصنف -عبد الرزاق الصنعاني- ج1 / ص474.

8- المصنف -عبد الرزاق الصنعاني- ج1 / ص474.

9- المصنف -عبد الرزاق الصنعاني- ج1 / ص474.

10- المصنف -ابن أبي شيبة الكوفي- ج1 / ص237.

11- نيل الأوطار -الشوكاني- ج2 / ص18.

12- سنن ابن ماجة -محمد بن يزيد القزويني- ج1 / ص233.

13- سنن ابن ماجة -محمد بن يزيد القزويني- ج1 / ص237.

14- السنن الكبرى-البيهقي- ج1 / ص422.

15- نصب الراية -الزيلعي- ج1 / ص372.

16- المعجم الكبير -الطبراني- ج1 / ص352.

17- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج1 / ص329.

18- المعجم الأوسط -الطبراني- ج7 ص290.

19- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج1 / ص330.

20- المعجم الأوسط -الطبراني- ج4 / ص267.

21- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج1 / ص330.

22- مجمع الزوائد -الهيثمي- ج1 / ص330.

23- تلخيص الحبير -ابن حجر- ج4 / ص517.

24- فتح الباري -ابن حجر- ج2 / ص311.

25- التاريخ الكبير -البخاري- ج4 / ص273.

26- الضعفاء الصغير -البخاري- ص61.

27- كتاب الضعفاء والمتروكين -النسائي- ص195.

28- ضعفاء العقيلي -العقيلي- ج2 / ص199.

29- تمام المنة -محمد ناصر الألباني- ص147.

30- التمهيد -ابن عبد البر- ج24 / ص30.

31- صحيح البخاري -البخاري- ج3 / ص152.

32- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج3 / ص129.

33- صحيح البخاري-البخاري- ج1 / ص153.

34- المعجم الأوسط -الطبراني- ج4 / ص267.

35- السنن الكبرى -البيهقي- ج1 / ص423.

36- تلخيص الحبير -ابن حجر- ج3 / ص169.

37- نيل الأوطار -الشوكاني- ج2 / ص18.