قبضُ اليدين في الصلاة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّد

 

السؤال:

إنَّ من الأمور التي يَطعن بها البعضُ على الشيعة هو أنَّهم إذا قاموا للصلاة لا يضعون اليدَ اليُمنى على اليُسرى كما يفعلُ أكثرُ المسلمين، ويقولون إنَّ الشيعة يتعمَّدون في ذلك مخالفة السُنَّة النبويَّة، فبماذا تُجيبون على ذلك؟

 

الجواب:

لم يثبت عندنا أنَّ وضع اليدِ اليُمنى على اليُسرى -المعبَّر عنه بالتكفير- أثناء الصلاة من السُنَّة النبويَّة بل الثابتُ عندنا أنَّه ليس من السُنَّة وأنَّ النبيَّ الكريم (ص) لم يكن يفعلُ ذلك أثناءَ الصلاة.

 

على أنَّه لو ثبت أنَّ الفعل المذكور من السُنَّة فلا ريبَ أنَّه ليس من السُننِ الواجبة بإجماع المسلمين قاطبة -سنَّةً وشيعة- فإنَّه لم يذهبْ أحدٌ مِن الفِرق الإسلاميَّة إلى أنَّ هذا الفعل من الأفعال الواجبة في الصلاة، وغايةُ ما ذهبَ إليه بعضُهم هو الاستحباب، وهل يسوغُ الطعن على أحدٍ لمُجرَّد مخالفتِه لِما هو مُستحب!!

 

ثم إنَّ الحكم باستحباب وضعِ اليد اليُمنى على اليسرى ليس مورداً لاتِّفاق علماء السنة، فمنهم مَن ذهب إلى كراهتِه كما هو رأي الموالك تبعاً لإمامِهم مالك، ومنهم مَن ذهب إلى أنَّه ليس من المندوبات وإنَّما هو جائز لمن أطال في صلاته كما هو مذهبُ الليث بن سعد والأوزاعي(1).

 

فإذا كان ثمةَ من طعْنٍ فينبغي أنْ لا يختص به الشيعة، ولكي تتوثِّق ممَّا ذكرناه من أن الاستحباب ليس مورداً لاتِّفاق فقهاءِ السُنَّة وأنَّ بعضَهم يذهبُ إلى عدم الاستحباب والبعضَ الآخر يذهبُ إلى الكراهة ننقلُ لكم ما أفادَه ابنُ رشد القرطبي الأندلسي في كتابه بداية المجتهد، قال:

 

(المسألة الخامسة) اختلف العلماءُ في وضع اليدين إحداهما على الأُخرى في الصلاة، فكره ذلك مالكٌ في الفرض وأجازَه في النفل، ورأى قومٌ أنَّ هذا الفعل من سُنن الصلاة، وهم الجمهور.

 

والسببُ في اختلافهم أنَّه قد جاءت آثارٌ ثابتة نَقلتْ فيها صفةَ صلاتِه(ص) ولم يُنقل فيها انَّه كان يضعُ يدَه اليمنى على اليد اليُسرى، وثبت أيضاً أنَّ الناس كانوا يُؤمرون بذلك.

 

وورد ذلك أيضاً -من صفة صلاته (ص)- في حديث أبي حميد، فرأى قومٌ أن الآثار التي أثبتتْ ذلك اقتضتْ زيادةً على الآثار التي لم تُنقل فيها هذه الزيادة وانَّ الزيادة يجبُ أن يُصار إليها.

 

ورأى قومٌ أنَّ الأَوجب هو المصيرُ إلى الآثار التي ليس فيها هذه الزيادة، لأنَّها أكثر، ولكون هذه ليست مناسبةً لأفعال الصلاة، وإنَّما هي من باب الاستعانة، ولذلك أجازها مالكٌ في النفل ولم يجزْها في الفرض .."(2).

 

هذا وقد نُسب القولُ بعدمِ كوْنِ التكفير من السُنَّة إلى جمعٍ من الصحابة والتابعين، وهم عبدُ الله بن الزبير وسعيدُ بنُ المسيَّب وسعيدُ بن جُبير وعطاءٌ وابنُ جريج والنُخعي والحسنُ البصري وابنُ سيرين(3).

 

دليلُ الامامَّية على عدم مشروعيَّة التكفيرِ في الصلاة:

عمدةُ ما يستندُ إليه الاماميَّة في القول بعدم مشروعيَّة التكفير في الصلاة هو ما ورد مُستفيضاً عن أهل البيت (ع) بأسانيد صحيحةٍ ومعتبرة.

 

فلأنَّ أهلَ البيت (ع) هم ثاني الثقلين اللّذَين أمرَ رسولُ الله (ص) بالتمسُّك بهما، وأنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وأنَّ من تمسَّك بهما أمِنَ من الضلال كما أفاد ذلك رسولُ الله (ص) في مواطن متعددة نقلَها الفريقان بطرقٍ كثيرة تفوقُ حدَّ التواتر(4)، ولأنَّ أهلَ البيت هم سفينةُ النجاة التي مَن ركبها نجا ومن تخلَّف عنها غرق وهوى كما نقل ذلك الفريقان بأسناد معتبرةٍ عن رسولِ الله (ص)(5).

 

لأنَّ الأمرَ كان كذلك، ولأنَّه قد ورد عنهم (ع) النهيُ عن التكفير في الصلاة لذلك التزم الإماميَّة بما ثبت عن أهلِ البيت (ع) امتثالاً لقولِ رسولِ الله (ص) بلزوم اعتماد ما يثبتُ عنهم (ع).

 

وحتى يكونَ ما ذكرناه موثَّقاً ننقلُ لكم بعضَ ما ورد عن أهل البيت (ع) في هذا الشأن:

1- صحيحة زرارة عن أبي جعفر (ع) "ولا تكفِّر فإنَّما يصنعُ ذلك المجوس"(6).

 

2- صحيحة محمد بن مسلم عن أحدِهما (ع) قال: قلتُ له الرجل يضعُ يدَه في الصلاة وحكى اليُمنى على اليُسرى، فقال (ع): "ذلك التكفير، لا تفعلْ"(7).

 

3- صحيحة عليِّ بن جعفر قال: قال أخي الإمام موسى بن جعفر (ع) قال: عليُّ بن الحسين (ع): "وضعُ الرجلِ إحدى يديه على الأُخرى في الصلاة عملٌ، وليس في الصلاة عَمَل"(8).

 

4- روى الشيخ الصدوق في الخصال بإسناده عن عليِّ بن أبي طالب (ع) قال: "لا يجمعُ المسلمُ يديه في صلاتِه وهو قائم بين يدي الله عزَّ وجل يتشبَّه بأهل الكفر، يعني المجوس"(9).

 

وثمَّة رواياتٌ أُخرى أعرضنا عن نقلِها خشيةَ الإطالة، وفيما ذكرناه كفاية لإثبات أنَّ التكفير ليس من السُنَّة، وأنَّ مَن جاء به بقصد الخصوصيَّة والاستحباب وأنَّها من السنَّة فقد شرَّع ونَسب إلى الدينِ ما ليس منه.

 

هذا أولاً، وثانياً: يُمكن أنْ ننقضَ على القائلين بأنَّ التكفير من السُنَّة أنَّه لو كان كذلك لشاع وذاع بين المسلمين ولما خفيَ على الصغار منهم فضلاً عن الكبار ولعرفَهُ القاصي والداني نظراً لكونِه من أفعال الصلاة التي كان يُقيمها رسولُ الله (ص) فيهم خمسَ مرات في اليوم طيلة عقدين من الزمن أو يزيد في حضره وسفره، وهو ليس من قبيل الأقوال أو الحركات غير الظاهرة حتى يُتعقَّل خفاؤها عن البعض، كما أنَّ الدعوى هي استمرار الرسول (ص) على هذا الفعل كلَّما قام إلى الصلاة، وحينئذٍ كيف خفي ذلك عن أكثر الصحابة، فلم يتصدَّ لنقل ذلك إلا القليل منهم رغم أنَّهم تصدَّوا لحكاية صلاة النبيِّ (ص) فنقلوا كلَّ ما كان يقولُه رسولُ الله (ص) ويفعلُه في الصلاة من فروضٍ ومندوبات، أفكانَ من المناسب إغفال ذكر هذا الفعل رغم شدَّةِ ظهوره ودعوى استمرار النبيِّ (ص) عليه إلا أنْ يكونوا قد تعمَّدوا إغفالَه، وذلك ما ينافي الوثاقة المُفترضَة، على أنَّه ليس ثمةَ من داعٍ يقتضي إغفالَه نظراً لعدم كونِه من الشئون الاعتقاديَّة أو السياسيَّة.

 

وبذلك يثبتُ أنَّ خلوَّ أكثر الروايات -كما أفاد ابنُ رشد القرطبي- الحاكية لصلاة رسول (ص) عن الإشارةِ إلى التكفير مع الالتفات إلى ما ذكرناه يسلبُ الوثوق بصدقِ ما ادَّعاه البعض من أن التكفير سُنَّة.

 

ونرى من المُناسب في المقام أنْ ننقل لكم واحدةً من الروايات الحاكية لصلاةِ رسول الله (ص) ليتأكَّد لكم صوابيَّة ما ذكرناه.

 

روى الترمذيُّ في سُننه قال: حدَّثنا محمد بن بشَّار ومحمد بن المُثنى قالا: أخبرنا يحيى بن سعيد القطَّان، أخبرنا عبد الحميد بن جعفر، أخبرنا محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي حميد الساعدي قال: سمعتُه وهو في عشرةٍ من أصحاب النبيِّ (ص) أحدُهم أبو قتادة بن ربعي يقول: أنا أُعلِّمكم بصلاةِ رسول الله (ص)، قالوا: ما كنتَ أقدمنا له صحبةً ولا أكثرنا له إتياناً، قال: بلى، قالوا: فاعرِضْ، فقال: كان رسولُ الله (ص) إذا قام إلى الصلاة اعتدلَ قائماً ورفعَ يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، فإذا أراد أنْ يركع رفعَ يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم قال: الله أكبر، وركع، ثم اعتدلَ، فلم يصوِّب رأسَه ولم يقنع، ووضع يديه على ركبتيه، ثم قال: سمع اللهُ لمَن حمده، ورفع يديه واستدلَّ، حتى يُرجع كلَّ عظمٍ في موضعِه معتدلاً، ثم هوى إلى الأرض ساجداً، ثم قال: اللهُ أكبر، ثم جافى عضُديه عن إبطيه، وفتحَ أصابع رِجليه، ثم ثنى رجلَه اليُسرى وقعد عليها ثم اعتدل حتى يُرجع كلَّ عظمٍ في موضعه مُعتدلاً ثم هوى ساجداً، ثم قال: اللهُ أكبر، ثم ثنى رجلَه وقعد واعتدل حتى يُرجع كلَّ عظمٍ في موضعِه، ثم نهضَ، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك، حتى إذا قام من السجدتين كبَّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما صنع حين افتتحَ الصلاة، ثم صنع كذلك حتى كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته أخَّر رجله اليُسرى وقعدَ على شقة متورِّكاً، ثم سلَّم.

 

قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن(10) ورواه البيهقيُّ في سُننه باختلافٍ يسير في المتن، وورد في ذيله "فقالوا جميعاً صدقَ، هكذا كان يُصلِّي رسولُ لله (ص)"(11).

 

هذا وقد احتجَّ فقهاءُ السنَّة بمضامين هذه الرواية في الكثير من فروع الصلاة، لاحظ ما أفاده السرخسي في المبسوط(12) وما أفاده الرافعي في كتابه فتح العزيز(13) وما أفاده الشافعي في كتاب الأم(14)، وما أفاده البهوتي في كتابه كشاف القناع(15) وغيرها من كُتب الفقه والحديث.

 

والرواية كما لاحظتم سِيقت لغرض الحكايةِ لصلاةِ الرسول (ص) وقد تصدَّت لبيان تفاصيل ما كان يفعلُه رسولُ الله (ص) في الصلاة من فروضٍ ومندوبات ولم تُشر ولو بنحو التلويح أنَّه كان يقبض إحدى يديه بالأُخرى، ولو كان قد فعل ذلك لذكره الراوي أو استدرك عليه العشرة من الصحابة الذين أكَّدوا صدقَ خبره.

 

ويمكن تأكيد ما ذكرناه من عدم الوثوق بصدق دعوى أنَّ التكفير من سُنن الصلاة أنَّ البخاري لم ينقل في صحيحه ما يُثبت ذلك إلا روايةً واحدة رغم أنَّ مقتضى طبع هذا الفعل لو كان من السُنَّة أنْ يكثُر نقلُه عن الصحابة، ولو كانت الرواية المنقولة في صحيح البخاري صريحةً أو ظاهرة في أنَّ التكفير من السُنَّة لهان الأمرُ إلا أنَّها ليست كذلك.

 

فقد روى البخاري في صحيحه بسنده عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان الناسُ يُؤمرون أنْ يضع الرجلُ اليد اليُمنى على ذراعه اليُسرى في الصلاة، قال أبو حازم: لا أعلمُه إلا يُنمي ذلك إلى النبيِّ (ص)، قال إسماعيل: يُنمِى ذلك، ولم يقُل يَنمي(16).

 

الملاحَظ على الرواية أنَّ الأمر بالتكفير نُسب إلى المجهول، والمناسب لذلك أحد احتمالين:

 

الاحتمال الأول: أنَّ الأمر بالتكفير لم يكن من الرسول (ص) بمعنى أن الراوي كان يعلم بالآمر أو الآمرين بالتكفير إلا أنَّه لم يرَ ضرورةً في ذكر أسمائهم إما لأنَّ ذكر أسمائِهم لا يُضيف إلى الفعل حجيَّةً بنظره أو لأنَّه ليس في مقام الاستدلال على أنَّ التكفير من السنَّة وإنَّما هو في مقام الحكاية والإخبار عن أنَّ التكفير أُمر به الناس، ولم يكن قد جاءت به السُنَّة النبويَّة.

 

الاحتمال الثاني: أنه لم يكن يعلم بأنَّ الرسول(ص) هو مَن أمر بالتكفير.

 

وأمَّا احتمال علمه بأنَّ الآمر هو الرسول (ص) فهو في غاية البُعد، إذ لا نتعقَّل مبرِّراً لنسبة الأمر إلى المجهول مع افتراض علم الراوي بانتساب الأمر إلى الرسول (ص).

 

فمع استبعاد الاحتمال الأخير يتعيَّن أحدُ الاحتمالين، الأول والثاني وكلاهما يُنتجان سقوطَ الرواية عن الحجيَّة، إذ لو كان الاحتمال الأول هو المتعيَّن واقعاً فإنَّ نتيجته أنَّ الذي صدر عنه الأمر بالتكفير في روايةِ سهل هو غير الرسول (ص)، وبذلك لا تكون الرواية دالَّة على أنَّ التكفير من السُنَّة، وأما لو كان الاحتمال الثاني هو المتعيَّن واقعاً فإنَّ معناه عدم الجزم من الراوي بأنَّ الأمر بالتكفير قد صدر عن الرسول (ص) وحينئذٍ كيف يسوغُ لنا الاستدلال بها على أنَّ التكفير من السُنَّة والحال انَّنا لم نحرِز منها تبعاً لعدم إحراز الراوي بأنَّ الأمرَ كان قد صَدَر عن الرسول (ص).

 

وأما ما أفاده أبو حازم راوي الحديث عن سهل فهو لا يُعبِّر عن أكثر من الظنِّ بأنَّ سهلاً ينسب الأمر إلى الرسول (ص)، وهو لا يُغني من الحق شيئاً، ولو قبلنا بأنَّ قوله: ((لا أعلمه إلا)) يُعبِّر عن العلم بنسبةِ الأمر إلى الرسول(ص) فهو اجتهادٌ من أبي حازم إذْ لم يُصرِّح سهلٌ بذلك، وكان ما نقلَه هو نسبة الأمر إلى المجهول هذا مُضافاً إلى أنه يُحتمل أن تكون القراءة (يُنمى) وليست (يَنمي) كما جزم بذلك شيخ البخاري إسماعيل بن اُويس، وبناءً على هذه القراءة يكون معنى قول أبي حازم انَّ سهلاً رفع الحديث إلى النبيِّ (ص) فتكون الرواية مرفوعة وليست مُسندة إلى النبيِّ (ص) فتسقط بذلك عن الحجيَّة.

 

أي أنَّه حتى لو تجاوزنا ما ذكرناه من أنَّ قول أبي حازم لا يعدو كونه اجتهاداً -غير مُلزِم لغيره- فإنَّ ما أدَّى إليه اجتهاد أبي حازم مردَّد بين إسناد سهل الأمرَ بالتكفير إلى الرسول (ص) وبين رفع ذلك إلى الرسول (ص).

 

والمتحصَّل ممَّا بيَّناه أنَّه لم يصحْ بنظر البخاري من رواياتِ التكفير إلا هذه الرواية، وهي كما لاحظتم لا تصلحُ للاستدلال بها على أنَّ التكفير من السُنَّة.

 

وأمَّا مسلمٌ فلم ينقل لنا في صحيحِه ما يدلُّ على أنَّ التكفير سنَّةٌ إلا روايةً واحدة رغم أنَّ مقتضى طبيعة هذه المسألة أنْ يكثُرَ النقلُ فيها نظراً لكونِها من المسائل التي يعمُّ الابتلاء بها، ونظراً لكون تلقِّيها ميسوراً لا يحتاج إلى فقهٍ وحافظة.

 

ومع ذلك فالرواية التي لم يصح ظاهراً عند مسلم غيرُها لا تصلح لإثبات أنَّ التكفير من السنَّة، فقد روى بسنده عن وائل بن حُجر أنَّه رأى النبيَّ (ص) رفعَ يديه حين دخل في الصلاة كبَّر -وصف همَّام- حيالَ أذنيه ثم التحف بثوبِه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلمَّا أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب ثم رفعَهما ثم كبَّر فركع، فلمَّا قال: سمِعَاللهُ لمَن حمدَه رفعَ يديه، فلمَّا سجَدَ، سجَدَ بين كفَّيه(17).

 

والمُلاحَظ على هذه الرواية أنَّها -مُضافاً إلى احتمال أنَّ منشأ فعلِه هو الاستعانة بذلك على اتِّقاء البرد كما احتمل ذلك بعضُ علماء السنة(18)- أنَّها تحكي لنا فعلاً للنبيِّ (ص) وصدورُ الفعل عنه بمجرَّده غيرُ صالح للدِّلالة على أكثر من الجواز، نعم لو كان في الرواية ما يُعبِّر عن استمرار صدور الفعل عن النبيِّ (ص) لأمكن الاستدلال بها على الاستحباب إلا أنَّ الأمر ليس كذلك، حيث أنَّ الراوي لم يذكر لنا سوى أنَّه رأى النبيَّ (ص) قد وضع يمينَه على يسارِه في الصلاة، وذلك يصدقُ في رؤيته له مرَّة واحدة.

 

ولو قلتَ: إنَّ مجرَّد صدورِ هذا الفعل عن النبيِّ (ص) أثناءَ الصلاة كافٍ وحدَه لإثبات استحبابِه.

 

قلنا: إنَّه لو كان مجرَّد صدور الفعل أثناء الصلاة كافياً لإثبات الاستحباب؟ ولم يقل بذلك أحد للزم القول باستحباب الالتحاف بالثوب لأنَّ ذلك قد صدرَ عن النبيِّ (ص) أثناء الصلاة ولم نجدْ أحداً قد التزمَ بذلك.

 

نعم وردت هذه الرواية في غير صحيح مسلم بصورةٍ أخرى وهي من حيثُ المتن ظاهرةٌ في استمرار النبيِّ (ص) على هذا الفعل إلا أنَّ الشأن في السند حيثُ خُرِّجت بطريقين أحدهما أخرجَه النسائيُّ(19) والآخرُ أخرجه البيهقي(20) وكلاهما مشتمل على مَن لا يُعتمدُ قولُه ولا يعوَّل على نقله بحسب موازين علماءِ الجرح من أهل السنَّة، وهكذا الحال فيما بقي من الروايات -على قِلَّتها- فإنَّها جميعاً ضعيفةُ السند وبعضُها غيرُ تامِّ الدلالة.

 

والمتحصَّل ممَّا ذكرناه أنَّ التكفير أو ما يُعبَّر عنه بالقبض ليس من السُنَّة، وعلى أحسن التقادير تكونُ المسألة من المسائل الاجتهاديَّة التي قد يختلفُ فيها أهلُ مذهبٍ واحد، وحينئذٍ كيف يسوغُ الطعنُ على الشيعة لمجرَّد أنَّهم ذهبوا إلى عدم مشروعيَّة التكفير وانَّه ليس من سُنن الصلاة.

 

والحمد لله رب العالمين

 

من كتاب: تساؤلات في الفقه والعقيدة

الشيخ محمد صنقور

18 / صفر / 1427هـ


1- رسالة مختصرة في القبض -الدكتور عبد الحميد بن المبارك- ص5، المغني ج1 / ص196.

2- بداية المجتهد ونهاية المقتصد -ابن رشد القرطبي الأندلسي- ج1 / ص192-193.

3- المغني -ابن قدامة الحنبلي- / كتاب الصلاة ج1 / ص196، المجموع ج3 / ص311، الشرح الكبير ص549، عمدة القاري ج5 / ص279، المبسوط للسرخس ج1 / ص23.

4- حديث الثقلين حديث متواتر ذكر ابن حجر في الصواعق ص136، ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضع وعشرين صحابياً لا حاجة لنا ببسطها، وقال السمهودي كما أفاد المناوي في فيض الغدير: ج3 / ص14 وفي الباب ما يزيد عن عشرين من الصحابة، هذا وقد رواه مسلم في فضائل الصحابة في باب فضائل علب ابن أبي طالب عن يزيد بن حيان، ورواه بأسانيد أخرى عن زيد بن ارقم، ورواه الترمذي في صحيحه: ج2 / ص308 بأكثر من طريق، ورواه الحاكم النيسابوري في مستدرك الصحيحين بطرق متعددة ج3 / ص109 و ج3 / ص148، ورواه أحمد في مسنده ج4 / ص471، ج5 / ص181، ج4 / ص366، ورواه الطحاوي في مشكل الآثار ج4 / ص368، ورواه النسائي في الخصائص ص21، ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء: ج9 / ص64، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد: ج9 / ص163-164 ورواه ابن حجر في الصواعق المحرقة ص75، ورواه المتقي الهندي في كنز العمال ج / 48 وقال: أخرجه ابن أبي شيبة والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر، ورواه ابن الأثير الجزري في اسد الغابة: ج2 / ص12، ورواه السيوطي في الدر المنثور في ذيل آية المودة في سورة الشورى وقال أخرجه ابن الأنباري في المصاحف ورواه غير غير هؤلاء وهم كثير.

5- رواه الحاكم النيسابوري في مستدرك الصحيحين: ج2 / ص343 قال الحاكم هذ الحديث صحيح على شرط مسلم، ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء: ج4 / ص306، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد: ج9 / ص168 قال رواه البزار والطبراني، ورواه الحب الطبري في ذخائر العقبى ص20 وقال أخرجه الملا في سيره، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج12 / ص19، ورواه السيوطي في الدر المنثور في ذيل تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها) في سورة البقرة، ورواه المناوي في كنوز الحقائق ص132 قال: أخرجه الثعلبي، ورواه ابن حجر في الصواعق المحرقة ص75 وقال أخرجه الدار قطني، ورواه المتقي الهندي في كنز العمال ج1 / ص250، ج6 / ص216، 153 ورواه أحمد بن حنبل في الفضائل بترجمة الإمام الحسين (ع): 28 ج 55، ورواه ابن المغازلي الشافعي: 132/ج173، 176، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص178، المعجم الصغير للطبراني ج2 / ص22.

6- وسائل الشيعة باب 16 من أبواب قواطع الصلاة ج2.

7- وسائل الشيعة باب 16 من أبواب قواطع الصلاة ج1.

8- وسائل الشيعة باب 16 من أبواب قواطع الصلاة ج4.

9- وسائل الشيعة باب 16 من أبواب قواطع الصلاة ج7.

10- الترمذي ج1 / ص187-188.

11- سنن البيهقي ج2 / ص73، 101-102.

12- المبسوط للسرخسي ج1 / ص11-12.

13- فتح العزيز لعبد الكريم الأرفعي ج3 / ص480-481.

14- كتاب الأم للشافعي ج 7 / ص195.

15- كشف القناع للبهوتي ج 1 / ص421.

16- صحيح البخاري باب 87 / ج رقم 740.

17- صحيح مسلم باب 15 / ج رقم 401.

18- بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج1 / ص192-193.

19- سنن النسائي ج2 / ص97، باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة.

20- سنن البيهقي ج1 / ص28، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.