فلسفةُ التوسُّل ودليلُ شرعيَّتِه

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد

المسألة:

ما هي فلسفةُ التوسُّل بأهلِ البيتِ (عليهم السلام)؟ وما هو ردُّكم على نفيِ شرعيَّته بقولِه تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾(1)؟

الجواب:

الغايةُ من تشريع التوسُّل:

إنَّ واحداً من الغاياتِ التي نشأَ عنها تشريعُ التوسُّل بالأنبياءِ والأولياءِ هو توثيقُ علاقة الحبِّ والولاءِ بين الناس وبينَهم، وإذا ما توثقتْ أواصرُ الحبِّ والولاءِ وشعُرَ الناسُ بالانجذابِ الروحي لأولياءِ اللهِ الصالحين كان ذلك باعثاً للإقتداءِ بهم والعملِ بهدْيِهم، وبذلك يكونُ التوسُّل واحداً من طُرقِ الهداية التي أرادها اللهُ عزَّ وجلَّ لعبادِه.

وأمّا كيف يكونُ التوسُّل مُفضياً لتوثيق العلاقةِ بين الناسِ وبين أوليائِه الصالحين فهو انَّ الإنسانَ بطبعِه إذا شعُرَ أنَّ أحداً كان سبباً في قضاءِ حوائجِه أو كان سبباً في خلاصِه من عذابٍ مرتقَبٍ أو بلاءٍ واقع فإنَّه ينجذبُ نحوه ويستشعرُ حبَّه والأنسَ بذكرِه وذكرِ محاسنِه ومكارمِ أخلاقِه وذلك ما يدعوه لتمثُّلِها والرغبةِ في الاتِّصافِ بها.

ولأنَّ الإنسانَ بطبعِه يكونُ أقدرَ على التفاعلِ بالمعاني عندما تكونُ ماثلةً أكثرَ من قدرتِه على التفاعلِ بها عندما تكونُ مجرَّدة لأنَّ الأمرَ كذلك كان من المناسبِ ربطُ الإنسان معنوياً بشخصيَّاتٍ تمثَّلت الكمالَ الإنساني وتوفَّرت على سجايا الخيرِ والصلاح، وبلغت مراتبَ ساميةً في العبوديَّة لله عزَّ وجل، فبتوثيقِ علاقةِ الإنسان بأمثالِ هؤلاء يتيسَّر له سلوكُ الطريق المُفضي للهدى والصلاح والتخلُّقُ بالفضيلةِ ومكارمِ الأخلاق.

لذلك قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾(2) وقال في مورد آخر ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾(3)، وإذا كان لتوثيقِ العلاقةِ بالصالحين هذا الأثرُ كان من المناسب اتِّخاذ الوسائل العقلائيَّة المُفضية لذلك، والتوسُّل واحدٌ من أهم تلك الوسائل، فذلك هو فلسفةُ التشريعِ الإلهيِّ للتوسُّل.

منشأٌ آخر لتشريعِ التوسُّل:

وثمةَ منشأٌ آخر لتشريع التوسُّل هو أنَّ في ذلك تكريماً للصالحين الذين بذلوا جهوداً مُضنيةً من أجل أنْ تكونَ كلمةُ الله هي العليا، فبعد أنْ هذّبوا أنفسَهم وسلكوا أصعبَ الطُرقِ وأحمزَها من أجلِ ترويضِها وتكميلِها حملوا أرواحَهم على أكفِّهم وبذلوا كلَّ ما كان تحت أيديهم وتحمَّلوا مرارةَ الظلمِ والقسوةِ التي كانت تُمارَس معهم مِن قِبل الجبابرةِ والظالمين، كلُّ ذلك كان من أجلِ اللهِ عزَّ وجل وفي سبيل هدايةِ خلقِه، لذلك استوجبوا تكريمَه لهم والثناءَ عليهم والتنويهَ بهم واعتبارَهم وسائط لعبادِه في قضاءِ الحوائج وصرفِ البلاءِ والعذابِ قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾(4).

حقيقةُ التوسل:

المرادُ من التوسُّل هو اتِّخاذُ الوسائل المُفضية للقربِ من الله تعالى، فكلُّ عملٍ أو قولٍ ينتهي بالإنسان إلى القُرب من اللهِ تعالى فذلك الفعلُ أو القول وسيلةٌ من وسائل الوصولِ لله جلَّ وعلا، لذلك كان الدعاءُ وسيلةً وكان الاستغفارُ وسيلةً وكذلك العملُ الصالح ومطلقُ أعمال البرِّ والخير وهكذا الصلاةُ والطوافُ والسعيُ والرميُ كلُّها من وسائل القُرب الإلهيِّ.

فعندما يُصلِّي الإنسانُ لقضاءِ حاجتِه ثم يسألُ اللهَ حاجتَه فهذا معناهُ التوسُّل بالصلاة ليكونَ قريباً من الله فتُقضي حاجتُه، وهكذا عندما نذكرُ أسماءَ أهل البيت مثلاً بين يدي اللهِ عز وجل ونسألُ اللهَ بهم أنْ يَقضيَ حوائجَنا فذلك معناه اتِّخاذ أهلِ البيت (ع) وسيلةً للتقرُّب مِن الله لنكونَ أهلاً لاستجابةِ اللهِ عزَّ وجلَّ لدعائنا.

وليس ذلك من الشِرك، إذ أنَّ الشرك يعني العبوديَّة لغير الله عزَّ وجل أو توهُّم أنَّ الذي ينفعُ ويضرُّ هو غيرُ الله عزَّ وجل، وهذا ما كان عليه عربُ الجاهليَّة.

أما المسلمون ومنهم الشيعة فهم إنَّما يعبدونَ الله وحده ويعتقدونَ أنَّه الذي ينفعُ ويضرُّ وليس من أحدٍ غيره ينفعُ ويضرُّ، غايتُه أنَّهم يتقرَّبون إليه تعالى بوسائل القُرب التي شرَّعها لهم مثل الصلاةِ والصيامِ والعملِ الصالح والإقرارِ بنبوَّة النبيِّ (ص) وإمامة المعصومين من أهل بيتِه (ع) والإقرار باجتبائِه لهم واصطفائِه لهم على سائر خلقِه، ومن البيِّن أنَّ الإقرارَ بما جاء به اللهُ يوجبُ القربَ من الله عزَّ وجل فيكونُ ذلك مقتضياً لاستجابةِ الدعاء.

وبذلك يتبيَّن أنَّ قولَه تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾(5) معناه توسَّلوا إليَّ بالدعاء فانِّي استجيبُ لكم، فإنَّ الدعاءَ واحدٌ من وسائل القُرب لله تعالى وليس هو الوسيلةَ الوحيدة، إذ أنَّ الآية المباركة ليست في مقام الحصر، ولذلك ورد في آيةٍ أُخرى الأمر باتِّخاذ الوسيلة المُفضية للقُربِ إلى الله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ وهي دليلٌ بإطلاقِها على عدم اختصاص الوسيلة بالدعاء.

الروايات الدالَّة على مشروعيَّة التوسُّل:

وردت رواياتٌ كثيرةٌ من طُرق الشيعة والسُنَّة تدلُّ على مشروعيَّة التوسُّل وهي بمجموعها تفوق حدَّ التواتر بل إنَّ الواردَ من طُرق السنَّة وحده قد يبلغُ حدَّ التواتر أو يزيد، ونحنُ هنا سوف نذكرُ بعضَ هذه الروايات التي وردتْ من طُرق السُنَّة لأنها أبلغُ في الحجَّة عليهم.

توسُّل الضرير بالنبيِّ الكريم (ص):

أخرج الترمذيُّ في سننِه عن عثمان بن حنيف: "أنَّ رجلاً ضريرَ البصرِ أتى النبيَّ صلى الله عليه وآلهوسلَّم فقال: ادعُ اللهَ أنْ يعافيَني، قال: إنْ شئتَ دعوتُ، وإنْ شئتَ صبرتَ فهو خيرٌ لك، قال فادعُه، قال فأمرَه أنْ يتوضأ فيُحسن وضوءَه ويدعوه بهذا الدعاء: اللهمَّ إنِّي أسألُك وأتوجُّه إليك بنبيِّك محمَّدٍ نبيِّ الرحمة إنِّي توجهتُ بك إلى ربِّى في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهمَّ فشفِّعه فيَّ" ج5 / ص229.

وصف الترمذيُّ هذا الحديث بالصحيح، ووصفه الحاكمُ النيسابوري بالصحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم ج1 / ص313 وأوردَه ابنُ خزيمة في صحيحِه ج2 / ص225، وفي تُحفة الأحوذي للمباركفوري قال: وأخرجَه النسائيُّ وزاد في آخره: فرجع وقد كشفَ اللهُ عن بصرِه وأخرجَه أيضاً ابنُ ماجة وابنُ خزيمة في صحيحِه والحاكمُ وقال صحيح على شرط الشيخين وزادَ فيه "فدعا بهذا الدعاء فقامَ وقد أبصَر" وأخرجَه الطبراني وقال بعد ذكر طُرقِه: والحديث صحيح ج10 / ص25.

وقال ابنُ كثير في البداية والنهاية: قد رواه البيهقيُّ عن الحاكم .. فذكر نحوه، قال عثمان: "فو اللهِ ما تفرَّقنا ولا طالَ الحديث بنا حتى دخل الرجلُ كأنْ لم يكن به ضرٌّ قط"، ج6 / ص295(6).

والرواية كما تُلاحظون نصٌّ في المطلوب حيثُ إنَّ النبيَّ (ص) نفسَه قد تصدَّى لتعليم الأعمى كيفية التوسُّل إلى الله تعالى بنبيِّه (ص) لتُقضى حاجتَه ويرتفع عنه الضر.

توسُّل النبيِّ (ص) بحقِّه وحقِّ الأنبياء:

أخرجَ الطبراني في المعُجم الكبير والأوسط عن أنسِ بن مالك قال: لمَّا ماتتْ فاطمةُ بنتُ أسد بنُ هاشم أمُّ عليِّ بنِ أبي طالب دخلَ عليها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم فجلسَ عند رأسِها، فقال: رحمَكِ الله يا أمِّي، كنتِ أمِّي بعد أمِّي تَجوعينَ وتُشبعيني وتُعرين وتَكسيني وتمنعين نفسَك طيِّباً وتُطعميني تُريدينَ بذلك وجهَ اللهِ والدارَ الآخرة، ثم أمرَ أنْ تُغسَّل ثلاثاً، فلمَّا بلغَ الماءُ الذي فيه الكافورُ سكَبه رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بيدِه، ثم خلَعَ رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قميصَه فألبسَها إيَّاه وكفَّنها ببُردٍ فوقَه، ثم دعا رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أسامةَ بنَ زيد وأبا أيُّوب الأنصاريَّ وعمرَ بنَ الخطَّاب وغلاماً أسود يحفرونَ فحفروا قبرَها، فلمَّا بلغوا اللَّحد حفرَه رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بيدِه وأخرج ترابَه بيدِه، فلمَّا فرغَ دخلَ رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فاضَّجعَ فيه، ثم قال: اللهُ الذي يُحيي ويُميت وهو حيٌّ لا يموتُ أغفِرْ لأمِّي فاطمةَ بنتِ أسد ولقِّنْها حجَّتَها ووسِّع عليها مدخلها بحقِّ نبيِّك والأنبياءِ الذينَ من قَبلي فإنَّك أرحمُ الراحمين، وكبَّر عليها أربعاً وأدخلوها اللَّحد هو والعباسُ وأبو بكر"(7).

قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح وثَّقه ابنُ حبَّان والحاكم وفيه ضعف، وبقيةُ رجالِه رجالُ الصحيح ج9 / ص257.

والرواية صريحة في المطلوب فقد اشتملت على توسُّل النبيِّ (ص) نفسه بذاته الشريفه وبالأنبياء الذين قبله.

توسُّل عمر بعمِّ النبيِّ (ص):

أخرج البخاريُّ في صحيحِه عن أنس قال: إنَّ عمرَ بن الخطَّاب كان إذا قحَطوا استسقى بالعبَّاس بن عبد المطَّلب فقال اللهمَّ إنَّا كنا نتوسَّلُ إليك بنبيِّنا (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فتَسقينا وإنَّا نتوسلُ إليك بعمِّ نبيِّنا فاسْقِنا، قال: فيُسقون(8).

ودلالة هذا النصِّ على المطلوب بيِّنة، فعمرُ في محضرِ الصحابة والمسلمين يتوسَّلُ بعمِّ النبيِّ (ص) ويسألُ اللهَ تعالى بعمِّ نبيِّهم أنّْ يسقيَهم بعد الجدب فيُسقَون، ويُخبر في دعائه في محضر الصحابة والمسلمين انَّهم كانوا يتوسَّلون إلى الله تعالى بالنبيِّ (ص) فيَسقيهم جلَّ وعلا.

وثمّة رواياتٌ أخرى كثيرة يجدُها المتابع، وإذا ضممنا إليها ما ورد من طرقِ أهلِ البيت (ع) فإنَّ مجموعَها يبلغُ أو يفوقُ حدَّ التواتر.

والحمد لله رب العالمين

 

 

مقتبس من كتاب: تساؤلات في الفقه والعقيدة

الشيخ محمد صنقور


1- سورة غافر / 60.

2- سورة الأحزاب / 21.

3- سورة الممتحنة / 4.

4- سورة الأنفال / 33.

5- سورة غافر / 60.

6- رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ج58 / كتاب الدعوات الباب 119 / حديث رقم 3578، ورواه ابن ماجه وقال هذا حديث صحيح سنن ابن ماجه ج1 / ص441 / رقم الحديث 1385، ورواه الحاكم النيسابوري في مستدرك الصحيحين وقال: انه صحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم ج1 / ص313، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده ج3 / ص138 بثلاثة طرق عن عثمان بن حنيف، ورُوى في المعجم الكبير للطبراني وفي المعجم الصغير وأفاد أن الحديث صحيح ج1 / ص183-184.

7- رواه الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (260-360هـ). والاستدلال به مبني على تمامية الرواية سنداً و مضموناً، وإليك البحث فيهما معاً:

1- رواه الطبراني في المعجم الأوسط، ص356-357، وقال: لم يروه عن عاصم إلاّ سفيان الثوري، تفرّد به (روح بن صلاح).

2- ورواه أبو نعيم من طريق الطبراني في حلية الأولياء 3 / ص121.

3- رواه الحاكم في مستدركه ج3 / ص108، وهو لا يروي في هذا الكتاب إلاّ الصحيح على شرط الشيخين (البخاري و مسلم).

4- رواه ابن عبد البر في الاستيعاب. لاحظ هامش الإصابة ج4 / ص382.

5- نقله الذهبي في سير أعلام النبلاء ج2 / ص118 / برقم 17.

6- ورواه الحافظ نور الدين الهيثمي المتوفى سنة 708 هـ في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج 9 ص 256- 257. وقد جمع فيه زوائد مسند الإمام أحمد، وأبي يعلى الموصلي أبي بكر البزاز، ومعاجم الطبراني الثلاثة، وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح وثقَّه ابن حبان والحاكم، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح.

7- رواه المتقي الهندي في كنز العمال، ج 13، ص 636، برقم 37608.

8- صحيح البخاري، باب صلاة الاستسقاء ج2 ص32.