تشريع الخمس
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد (ص)، وعلى آله الأخيار الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك ومعرفتك.
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ﴾.
صدق الله مولانا العلي العظيم
الآية المباركة اشتملت على مجموعة محاور، نتحدث عنها تباعاً إنْ شاء الله تعالى.
المحور الأول: حول تشريع الخمس:
حيث إنّ الآيةَ المباركة تُثبتُ وبكلِّ وضوح أنَّ الخمس فريضةٌ من فرائضِ الله -عزَّ وجل- التي جعلها على عباده، ولم يختلف في ذلك أحد من المسلمين، فكلُّ المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم اتَّفقوا على أنَّ الخُمس أصلٌ قرآني، وأنَّ الخمس فريضة من الله -عزَّ وجل- فرضها على عباده كما فرض الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، فلا فرق بين الخمس وبين هذه الفرائض من حيث إنَّ كلَّ المكلفين مسئولون عن امتثال هذه الفريضة.
نعم، وقع الخلاف بينهم في بعض تفاصيل هذه الفريضة، فاختلفوا في المورد الذي يجب فيه الخمس، فمشهور علماء السُنَّة قالوا إنَّ هذه الآية وإنْ كانت تُشرّعُ الخمس وتُثبتُ أنَّ الخمس فريضةٌ إلهيَّة، إلا أنَّ مورد وجوب الخمس هو غنائم دار الحرب ليس أكثر، فالمسلمون عندما يدخلون حرباً مع المشركين ويغنمون بعد انتصارهم بعضَ الغنائم فإنَّه يجب قبل تقسيم الغنائم بين المقاتلين والمجاهدين يجبُ إخراج خمس هذه الغنيمة، وتُعطى لرسول الله (ص) أو للإمام ليصرفها حسب الأسهم المبيَّنة في الآية المباركة.
فالموردُ الذي يجب فيه الخمس عند مشهور السُنَّة هو غنائم دار الحرب، أما نحن الاماميَّة فنقولُ -تبعاً لأهلِ البيت (ع)- بأنَّ الخمس لا يختصُّ مورده بغنيمة الحرب، بل إنّ غنيمة الحرب واحدٌ من الموارد التي يجب فيها الخمس، ونستدلُّ على ذلك بإطلاق الآية المباركة، فإنَّ مقتضى إطلاقها وعمومها هو عدم اختصاص وجوب الخمس بغنائم الحرب وذلك لقرائن ثلاث:
القرينة الأولى: هو نفسُ التعبير بمادة "غَنِم" الوراد في قولِه تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ فهذه المادَّة بحسب مدلولِها اللغوي تعني مطلق الفائدة، ومطلق الربح، فكلُّ فائدةٍ أفادها الناس، وكلُّ ربحٍ حصل عليه الناس فهو غنيمة، فحين يُقال غَنِم زيدٌ شيئاً فإنَّ معنى ذلك هو أنَّه استفاده وربحه وحين يُقال غَنِمتُ الشيء فإنَّ مدلول ذلك هو أنِّي ربحتُه وظفرتُ به واستفدته، هذا هو المدلول اللغويُّ كما تُصرِّح بذلك كلُّ معاجم اللغة دون استثناء، فلا مبرِّر لصرف هذا اللفظ إلى خصوص غنيمة الحرببعد أنْ كان المدلول اللغوي، مقتضياً للسعةِ والإستيعابِ لمطلق الفائدة، فكلُّ ربحٍ وكلُّ فائدةٍ وكلُّ زيادة في المال يكتسبها الإنسان فهي من الغُنم وهي من الغَنيمة، فلا موجب لتخصيص مفاد مادَّة غنم الواردة في الآية المباركة بغنيمة الحرب، بل إنَّ مقتضى السعة اللغويَّة لمادَّة غنم هو استظهار إرادة مطلق الربح والفائدة. هذا أولاً.
القرينة الثانية: المقتضية لاستظهار العموم هو نفس متعَّلق الغنيمة حيث عبَّرت عنه الآية بالشيء: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ فالتعبير بقوله: ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ ظاهر في سعة مورد الخمس، فيكون مدلول الآية بحسب المتفاهم العرفي هو أنَّ كلَّ شيءٍ ربحتموه حَقيراً كان أو خَطيراً فإنَّ لله خمسه، هذا هو مفاد الآية بمقتضى التعبير عن مورد ما يجب فيه الخمس بالشيء، فالشيء يُطلق على الكثير ويُطلق على القليل، فكما أنّ الأموال الكثيرة والخطيرة يُقال لها شيء، فكذلك يُقال للحقير منشيء، فلو أنّ أحداً ربح درهماً فإنُّله -عرفا- أن يقول غنمتُ شيئاً، وربحت شيئاً، فالتعبير بـ (ما غنمتم من شيءٍ) يؤكد ما نستظهره نحن الإمامية من أنّ الخمس لا يختص بغنيمة الحرب.
القرينة الثالثة: عموم الخطاب الوارد في الآية فالخطاب فيها موجّه لعموم المسلمين وليس موجَّهاً لخصوص المجاهدين والمقاتلين، فمفاد هذا الخطاب كمفاد قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾، فهل هذا الخطاب مختص بجماعةٍ من المسلمين، أو هو خطاب لعموم المسلمين؟ وكذلك قوله تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ فكما أنَّ مثل هذا الخطابات لا تختصُّ بجماعة دون أخرى فكذلك هو الخطاب في قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ لا يختصُّ بالمقاتلين بل هو موجه لعموم المسلمين فلتكن هذه قرينة ثالثة على ظهور الآية في الإطلاق والإستيعاب لمطلق ما يغنمه المسلم.
قد تقول: إننا في مقابل هذه القرائن التي استظهرتُم منها وجوبَ الخمس لتمام الموارد، فإنَّ هناك قرينة أخرى تُقابل هذه القرائن، وتدلُّ على خلاف ما استظهرتم، وهو أنَّ الآية وقعت في سياق آياتٍ تتحدَّث عن القتال، وهذا يقتضي اختصاص وجوب الخمس بغنائم الحرب.
إلا أنَّ هذه الدعوى لا تتم لما ثبت في علم الأصول لدى الفريقين من أنَّ المورد لا يُخصِّص الوارد، فوقوعُ الآية في سياق الحديث عن القتال لا يصحِّحُ استظهار اختصاصها بالمورد المناسب للقتال بعد أنْ كان مقتضى المدلول اللغويِّ لمادة غنم هو الإطلاق، وبعد أنْ كان الخطاب موجَّهٌ لعموم المسلمين، فالسياق في مثل المقام لا يصلحُ قرينةً على دعوى اختصاص وجوب الخمس بغنائم الحرب، ولذلك أقرَّ عددٌ من أكابر علماء ومفسري السنَّة بأنَّ آية الخمس ظاهرةٌ في الإطلاق والعموم.
فممَّن صرَّح بذلك القرطبي في تفسيره المعروف بالجامع لأحكام القرآن: قال "الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي" ثم استشهد على ذلك بما وردفي كلمات العرب وأشعارهم ثم ادعى أن منشأ العدول عن العمل بظهور الآية في الإطلاق هو قيام الإجماع على اختصاص ما يجب فيه الخمس بغنائم الحرب
إذن فهو يقرُّ بأنَّ الآية ظاهرة في العموم وأنَّ الغنيمة تصدق على كلِّ ما ينالُه الإنسان بسعي غايته أنَّ المانع من العمل بعموم الآية بحسب دعواه هو الإجماع على اختصاص وجوب الخمس بغنيمة الحرب.
وجواب دعوى الإجماع هو: كيف يسوغُ لأحدٍ دعوى الإجماع رغم اشتهار انَّ الشيعة الإماميَّة متسالمون على عدم اختصاص وجوب الخمس بغنائم الحرب؟! ألا تكون مخالفتُهم لدعوى الإختصاص قادحةً لدعوى الإجماع؟! أليس الشيعة الإماميَّة من المسلمين حتى لا تكون مخالفتهم قادحة لدعوى الإجماع؟! وإذا تجاوزنا ذلك فماذا عن أهل بيت الرسول (ص) ألا تكون مخالفتهم لدعوى الإختصاص قادحة لدعوى الإجماع؟!، فإذا لك يكن السجاد والباقر والصادق والكاظم والرضا (ع) معصومين فهم من فقهاء هذه الأمة فلا ينعقد اجماعٌ للمسلمين على خلاف ما ثبت عنهم، وسوف نستعرض فيما بعد ما ثبت عنهم من التصريح بوجوب الخمس في كل ما أفاد الناس من قليل وكثير.
إذن فالآيةُ المباركة تدلُّ بإطلاقها على أنَّ مورد الخمس لا يختصُّ بغنيمة الحرب بل يشملُ مطلق ما أفاده الناسُ وغنموه في تجاراتهم وصنائعهم كما أوضحنا ذلك على سبيل الإختصار وليس ثمة ما يقتضى التخصيص للآية المباركة، هذا مضافاً إلى ما أفادته الروايات الكثيرة الواردة عن أهل البيت (ع) والتي يفوقُ مجموعها حدَّ التواتر الإجمالي كما سنشير إلى ذلك فيما بعدُ إن شاء الله تعالى.
فلو سلَّمنا جدلاً بأنَّ مفاد الآية مختصاً بغنيمة دار الحرب، فإنَّ ذلك لا يُنهي البحث ولا يُصحِّح البناء على عدم تشريع الخمس في غير هذا المورد، بعد أن نصَّت الروايات المعتبرة والمتواترة اجمالاً على وجوب الخمس في مطلق ما أفاده الناس واكتسبوه في تجاراتهم وصنائعهم، فإذا لم تكن الآية بحسب الفرض متصدِّية لبيان تشريع الخمس في غير غنائم الحرب، فإن الروايات الواردة عن أهل اليت (ع) قد تصدَّت لإفادة أنَّ الخمس واجبٌ في كلِّما يربحه الناس في مكاسبهم بعد استثناء المؤنة، والواضح أنَّ أهل البيت (ع) إنَّما يُبلِّغون الناس ما أخذوه عن جدِّهم النبيِّ الكريم (ص) الذي خلَّف الكتاب وعترته في أمته وأفاد أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض فقال: "إني مخلِّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبدا وإن العليم الخبير أنبأني أنما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض".
على أن عدم اختصاص الخمس بغنائم دار الحرب لا يختص أهل البيت (ع) بنقله عن الرسول (ص) بل نقل ذلك أيضاً غيرهم من الصحابة كما سنشير لذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور