كراهةُ الأكل من طعامِ أهل المُصيبة؟

المسألة:

هناك ظاهرةٌ وهي أنَّ أهلَ الميِّت يعملون وليمةً في آخر يومٍ للتعزية (الفاتحة) وقد سمعنا أنَّها ظاهرة غير محبَّذة، فهل هذا صحيح؟

 

الجواب:

السُنَّة هي أنْ يصنعَ الناسُ خصوصاً الجيران لأهلِ الميِّت طعاماً ثلاثة أيام ويبعثوه لهم كما نصَّت على ذلك عددٌ من الروايات الواردةِ عن أهلِ البيت عليهم السلام:

 

منها: ما رواه الكليني بسندٍ معتبرٍ عن حفص بن البُختري وهشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال: "لما قُتل جعفرُ بن أبي طالب أمرَ رسولُ الله (ص) فاطمةَ (ع) أنْ تتَّخذ طعاماً لأسماءِ بنت عميس ثلاثةَ أيام، وتأتيها ونساءَها وتُقيم عندها (ثلاثة أيام) فجرتْ بذلك السُنَّة أن يُصنَعَ لأهل المُصيبة طعاماً ثلاثا"(1).

 

ومنها: ما رواه البرقي في المحاسن بسندٍ معتبر عن زرارة، عن أبي جعفر (ع) قال: "يُصنع للميِّت الطعام للمأتم ثلاثةَ أيام بيومِ ماتَ فيه"(2).

 

ومنها: ما رواه الكليني بسندٍ معتبرٍ عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: "ينبغي لجيرانِ صاحب المُصيبة أنْ يُطعموا الطعامَ عنه ثلاثةَ أيام"(3).

 

فمفادُ هذه الروايات هو استحبابُ أنْ يتصدَّى جيرانُ أهلِ المصيبة -بل وغيرهم بمقتضى إطلاق معتبرة زرارة- إلى تهيئةِ الطعام لأهل المُصيبة، وأمَّا أنْ يعمل أهلُ المصيبة وليمةً يدعون عليها الناس فقد ذكر العلامةُ في المنتهى أنَّ ذلك لا يُستحب، ويظهرُ من عبارة الشهيد الأول في الذكرى دعوى الإجماع على الكراهة، وأفاد ابنُ فهد الحلِّي أنَّ الفقهاء نصُّوا في كتبِهم على كراهةِ الأكل عند أهل المصيبة، لأنَّ ذلك من سُنن الجاهليَّة، ولاشتغال أهلِ المُصيبة بميتِّهم، وأفاد المحقِّق النراقي في المُستند أنَّه صرَّح جماعةٌ من الفقهاء بكراهةِ الأكل عند أهلِ المأتم.

 

وكيف كان فتحصيل الإجماع على الكراهة غير مُتاحٍ، والمنقولُ من الإجماع لو قيل بحجيَّته فإنَّه لا يكونُ حجَّة في مثل المقام لمدركيَّتِه أو لاحتمال مدركيَّتِه، فإنَّ من المحتمَل قويَّاً أنَّ مستند المُجمعين هو مرسلةُ الصدوق (رحمه الله) الآتية أو الوجه الآخر الذي سنذكرُه إنْ شاء الله تعالى، إذن لابدَّ من ملاحظة ما يُمكن الاستنادُ إليه في البناء على الكراهةِ، وهما وجهان:

 

الوجه الأول: مارواه الصدوق في الفقيه مرسلاً قال: قال الصادق (ع): الأكلُ عند أهلِ المصيبة من عملِ أهل الجاهليَّة، والسُنَّة البعثُ إليهم بالطعام كما أمرَ به النبيُّ (ص) في آل جعفر بن أبي طالب لمَّا جاء نَعيُه ".

 

فالروايةُ صريحةٌ في كراهة الأكل عند أهلِ المصيبة، حيثُ إنَّ ذلك هو مقتضى وصف الفعل بأنَّه من عمل أهل الجاهليَّة، نعم هي ليست صريحةً في توجُّه الخطاب لأهل الميِّت بكراهةِ أن يصنعوا طعاماً للناس، إلا أنَّه حيثُ لا يتمُّ صدور الأكل من الناس عند أهل المصيبة إلا بأن يُهيئ أهلُ المصيبة الطعام لهم ويدعونَهم إلى تناولِه لذلك قد يُقال بظهور الروايةِ في كراهة تصدِّي أهل المصيبة لتهيئةِ الطعام والدعوةِ إليه، فإنَّ طبيعة هذا الفعل -أعني الأكل عند أهل المصيبة- الموصوف بأنَّه من عمل أهل الجاهليَّة هو التقوُّم بالطرفين، وهم الناسُ وأهلُ المصيبة، لذلك فالكراهة كما هي متوجِّهةٌ لفعل الأكل من الناس كذلك هي متوجِّهةٌ لتهيئة الطعام من أهل المصيبة للناس.

 

وقد تُقرَّب استفادة توجُّه الكراهةِ إلى أهل المصيبة بتقريبٍ آخر وهو أنَّ الأكل عند أهلِ المصيبة لمَّا كان من عمل أهل الجاهليَّة فإنَّ العرفَ يفهم مِن هذا الخطاب أنَّ الظاهرة بمُجملها ممقوتةٌ في الشريعة، وذلك يقتضي عُرفاً أنَّ أهل المصيبة مخاطبون بقطع السبيل إلى وقوعها خارجاً، فهم مَن بيدهم ذلك، فإذا هيئوا الطعام للناس كانوا ممَّن يُساهم في الإبقاء على هذه الظاهرة الممقوتة شرعاً بحسب الرواية.

 

وعليه فالظاهر هو عدم قصور الرواية عن الدلالة على كراهة التصدِّي لتهيئة الطعام للناس من قِبل أهلِ المصيبة إلا أنَّها قاصرةٌ سنداً، نظراً لإرسالِها، فلا تصلحُ لإثبات الحكمِ الشرعي بالكراهة.

 

الوجه الثاني: هو أنَّ مقتضى ما ثبت مِن أنَّ السنَّة هو تصدِّي الجيران أو غيرِهم لتهيئة الطعام لأهل المصيبة رعايةً لاشتغالِهم بميِّتهم، مقتضى ذلك عُرفاً هو مرجوحيَّة الأكل عندهم وتصديِّهم لتهيئة الطعام للناس، ومنشأ الاقتضاء هو أنَّ أكل الناس للطعام عند أهل المصيبة وتصدِّي أهل المصيبة لتهيئته مناقضٌ لما حضَّت عليه السُنَّة وحبَّذت وقوعَه خارجاً، إذ أنَّه إذا تصدَّى أهلُ المصيبة لتهيئة الطعام للناس و استجاب الناسُ لدعوتِهم فحضروا وليمتَهم ضاعت السُنَّة التي أراد لها النبيُّ (ص) أنْ تسود بين المسلمين، وفعلُ ما تضيع معه السُنَّة مكروهٌ دون ريب.

 

والجواب: انَّ المقدار الثابت من السُنَّة هو أنْ يتصدَّى الجيرانُ أو غيرُهم لتهيئة الطعام لأهل المصيبة ثلاثة أيام مِن يوم مات الميِّت، وأما استجابة الناس لدعوة أهل الميِّت أو جيرانهم لحضور وليمةٍ أعدَّها غير أهل المصيبة كالجيران أو الأقرباء فلم يثبت انَّه مخالفٌ للسُنَّة، نعم ورد ما يقتضي كراهته في مرسلة الصدوق إلا أنَّها ونظراً لإرسالِها لا تصلحُ لإثبات حكم شرعي بل لا يبعد ظهورُ معتبرة أبي بصير في استحباب أنْ يتصدَّى الجيران لإطعام الناس الطعام باسم صاحب المصيبة نيابةً عنه، فإنَّ ذلك -ظاهراً -هو المراد من قوله (ع): "ينبغي لجيران صاحب المصيبة أن يُطعموا الطعام عنه ثلاثة أيام".

 

وعلى تقدير عدم ظهورها في أكثر من استحباب إطعام الجيران لأهلِ المصيبة، فإنَّ الروايات باستثناء المرسلة خالية عمَّا يقتضي مرجوحيَّة إطعام الطعام للناس عند أهلِ المصيبة إذا كان من إعداد غيرِهم حتى وإنْ كان بتكليفٍ من أصحاب المصيبة.

 

والمتحصَّل أنَّه لم تثبتْ كراهةُ الاستجابةِ لحضور وليمةٍ دعى إليها أهلُ المصيبة كما لم تثبتْ كراهة أنْ يدعو أهل المصيبةِ الناس إلى حضور وليمةٍ عندهم، نعم ليس في الدعوة إلى الطعام من قبل أهل المصيبة استحباب بعنوانِه، ولا في الحضور للوليمةِ من قبل الناس استحبابٌ بعنوانِه.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص217.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص236.

3- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص217.