كراهةُ المشي على القبور؟

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

هل يكرهُ المشيُ على القبور؟ وإذا كان مكروهاً فكيف يمكن التحرُّز عنه حين الدخول بجنازة إلى مثل مقابرنا المكتظة بالقبور وعدم وجود ممرَّات غالباً بينها؟

 

الجواب:

استُدلَّ على كراهة المشي على القبور بعددٍ من الوجوه:

الوجه الأول: هو ما رُويَ عن النبيِّ (ص) انَّه قال: "لأنْ أطأَ على جمرةٍ أو سيفٍ أحبُّ إليَّ مِن أنْ أطأَ على قبرِ مسلم"(1).

 

وكذلك ما رُويَ عنه (ص) أنَّه قال: "لأنْ أمشي على جمرةٍ أو سيف، او أخصف نعلي برجلي، أحبُّ اليَّ من أنْ أمشي على قبرِ مسلم"(2).

 

والروايتان من حيثُ الدلالة ظاهرتان بل صريحتان في مبغوضيَّة المشي على قبر مسلمٍ إلا أنَّهما من حيث السند ضعيفتان، وذلك لعدم ورودهِما من طُرقنا، لذلك لا يصحُّ الاحتجاجُ بهما على إثبات حكمٍ شرعي، ودعوى اِنجبار ضعفِهما بفتوى المشهور بمضمونِهما لا تصحُّ، وذلك لأنَّه لو كان الاِنجبار ينشأُ عن احتمال وقوف القدماء على طرقٍ معتبرة للرواية الواصلة لنا بطريقٍ ضعيف فإنَّ هذا الاحتمال منتفٍ عن الروايتين لعدم ورود الروايتين من طرقنا، واحتمال وجود روايةٍ وردت في طُرقنا متَّحدةِ المضمون مع الروايتين لا يُجدي لجبر ضعفِ سندَي الروايتين، لأنَّهما حينئذٍ لن يكونا مستندَ المشهور كما أنَّ الرواية المحتملة لا تنجبرُ لعدم احراز وجودِها، اذ أنَّ الذي ينجبرُ ضعفُ سندِه بعمل المشهور هو الرواية الضعيفة المحرَزة الوجود وليس المحتملة الوجود.

 

هذا مضافاً إلى عدم احراز استناد المشهور في الفتوى بالكراهة إلى الروايتين، وذلك لعدم تصدِّي الجميع لبيان مستندِ الفتوى، فمِن المحتملِ استنادُ بعضِهم إلى الوجوهِ الأُخرى التي سنذكرُها كما أنَّ مَن ذكر الروايتين في سياق الحكم بالكراهة قد يكون غرضُه التأيييد وليس الاستدلال أو نشأ استدلالُه بالروايتين عن البناء على التسامح في أدلة السُنن.

 

هذا كلُّه بناءً على التسليم بأنَّ الحكم بكراهة المشي على القبور قد أفتى به مشهورُ القدماء.

 

قد يُقال إنَّ ثمة روايةً وردت من طُرقنا مفادُها قريبٌ من مفاد الروايتين، وهذه الرواية نقلَها صاحبُ البحار عن كتاب العلل لمحمَّدِ بنِ عليِّ بن ابراهيم عن رسول الله (ص) قال: "من وطأ قبراً فكانَّما وطأ جمراً"(3) فهذه الرواية وإنْ كانت ضعيفةَ السند إلا أنَّها وردت في طُرقنا فيُمكن الإدِّعاء بانجبارِها بعمل المشهور.

 

والجواب عن ذلك أنَّه لم نجد أحدًا مِن القدماء بل ولا أكثر المتأخرين ممَّن تصدَّى للاستدلال على الحكم بالكراهة مَن أورد هذه الرواية رغم أنَّ إيرادها ولو للتأييد أولى من الاستدلال بالروايتين، وذلك ما يُقوِّي احتمال أنَّها واردة من غير طُرقنا أيضاً على أنَّه يكفي للبناءِ على عدم اِنجبار ضعفِ سندِها عدمُ اِحرازِ استناد المشهور إليها.

 

الوجه الثاني: ما استدلَّ به الشيخُ الطوسي (رحمه الله) في الخلاف على ذلك بما رُوي عن النبيِّ (ص) قال: "لإنْ يجلس احدُكم على جمرٍ فيحرقُ ثيابَه فتصلُ النار الي بدنِه أحبُّ اليَّ من أنْ يجلس على قبرٍ"(4).

 

وكذلك استُدلَّ برواية عليِّ بن أسباط عن عليِّ بن جعفر قال: سألتُ أبا الحسن موسى (ع) عن البناء على القبر والجلوس عليه هل يصلح؟ قال: لا يصلحُ البناءُ عليه، ولا الجلوسُ، ولا تجصيصُه ولا تطيينُه"(5).

 

ورواية يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله (ع) قال: نهى رسولُ الله (ص) أنْ يُصلَّى على قبرٍ، أو يُقعدَ عليه، أو يُبنى عليه"(6).

 

فالروايةُ التي استدلَّ بها الشيخ الطوسي وإنْ لم ترد من طُرقنا إلا أنَّ روايتي عليِّ بن أسباط ويونس بن ظبيان واردتان في طُرقنا، وروايةُ ابن أسباط معتبرةٌ سنداً.

 

إلا أنَّه أورد مثلُ صاحبِ المدارك على الاستدلال بمثل هذه الروايات أنَّها مقتضية لكراهة القعود على القبر، وليس المشي عليه، لذلك لا تكونُ مثلُ هذه الروايات صالحةً للاستدلال بها على كراهةِ المشي على القبر.

 

وقد يُجاب عن هذا الإيراد بأنَّ من المحتمَل أنَّ مقصود مَن استدلَّ بمثل هذه الروايات على كراهة المشي على القبر هو الاستدلال بفحواها وأنَّه إذا كان القعود على القبر مكروهاً ومنهياً عنه فكراهةُ وطئه بالأقدام والمشي عليه يكون أولى نظراً لكون المشي أظهر في الاستهانة والاستخفاف.

 

إلا أنَّ ذلك لا يتمُّ على إطلاقه، فقد لا يُعدُّ المشي على القبر استخفافاً أصلاً، وقد لا يكونُ أكثرَ استخفافاً من القعود عليه كما لو كان المشي عبوراً مع انحصار الطريق وكان القعود مكوثاً، على أنَّ من غير المحرَز أنَّ مِلاك الحكم بكراهة القعود على القبر هو الاستخفافُ والاستهانةُ بالقبرِ وصاحبِه.

 

الوجه الثالث: دعوى الاجماع المحكيَّةُ عن الشيخ الطوسي والعلامةِ الحلِّي في التذكرة، ونَسب المحقِّقُ في المُعتبر ذلك إلى قول العلماء، وأفاد صاحبُ المدارك أنَّه لم يجد مُخالفاً.

 

إلا أنَّ ما يرد على الاستدلال بمثل هذا الاِجماع أنَّه لو تمَّ فإنَّه ليس من الاجماعات التعبديَّة بل هو اجماع مَدركي أو محتملٌ للمدركيَّة وأنَّ مدركَه المحتمل هي الوجوه المذكورة في سياق الاستدلال على كراهةِ المشي على القبر.

 

الوجه الرابع: هو أنَّ المشي على القبر هتكٌ لحرمةِ صاحبه، وحرمة المؤمن ميتًا كحرمتِه حيَّاً كما ورد ذلك في مثل معتبرة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (ع) قال: ".. لأنَّ حرمته ميتاً كحرمتِه وهو حي"(7).

 

وتمامية هذا الوجه تبتني على القبول باستلزامِ المشي لهتك الميِّت، ولو تمَّت هذه الدعوى لكانت مقتضية لحرمة المشي على القبر لا كراهته، إذ لا ريب في حرمة هتك الميِّت المؤمن، إلا أنَّ الشأن في تمامية دعوى استلزام المشي للهتك، فإنَّها غير تامَّةٍ قطعاً، نعم قد يتَّفق صدقُ الهتك على المشي في حالاتٍ خاصَّة وحينئذٍ يتعيَّن الحكم بحرمته إلا أنَّ ذلك خارجٌ عن مورد البحث المتمحِّض في المشي باستقلاله بقطع النظر عمَّا قد يقترن به، ولعلَّه لذلك قُرِّب هذا الوجه بتقريبٍ آخر، وهو أنَّ المشي على القبر منافٍ للتعظيم والاِحترام لقبر المؤمن، وهذا الوجه وإنْ كان صحيحًا إلا أنَّه لا يقتضي كراهةَ المشي وإنَّما يقتضي رجحان التحرُّز عن المشي على القبر تعبيراً عن التقدير لصاحب القبر، وأين ذلك من الحكم بكراهة المشي على القبر والتي تعني المبغوضيَّة غير الملزِمة.

 

ولعلَّ ما يُؤيد عدم مبغوضيَّة المشي على القبر ما ورد في مرسلة الصدوق في الفقيه عن الكاظم (ع) قال: "إذا دخلتَ المقابرَ فطأ القبور، فمَن كان مؤمناً استروَح إلى ذلك ومَن كان منافقاً وجد ألمَه"(8).

 

فإنَّ الأمر بوطأ القبور وإنْ لم يكن ظاهراً في الاستحباب لاحتمال وروده لنفي توهُّم الحظر أو الكراهة إلا أنَّه مُشعرٌ بل ظاهرٌ في عدم المبغوضيَّة خصوصاً مع ملاحظة ما أفاده من ترتُّب الراحة للمؤمن من وطأ قبره.

 

وكيف كان فلم تثبتْ بشيءٍ من الوجوه كراهةُ المشي على القبور، ولو تنزَّلنا فأقوى الوجوه هي دعوى الاجماع، وهي دليلٌ لبِّيٌ لا إطلاقَ له، ولذلك يُقتصر فيه على القدر المتيقَّن من معقدِه، وهو ما لوكان المشي على القبور لغير حاجةٍ مقتضيةٍ لذلك، فمِن غير المُحرَز دخول المشي على القبور في معقد الاجماع إذا كان الغرض منه التوصُّل مثلاً إلى موضعٍ لدفن ميِّتٍ أو زيارة قبر مع افتراض أنَّ المشي على القبور هو الطريق المتعارَف أو الأيسر للتوصُّل لذلك الغرض الراجح فضلاً عمَّا لوكان الطريق إلى ذلك مستلزماً للمشي على القبور وأنَّ في التحرُّز عن المشي عليها كُلفةً ومشقَّة، نعم الأولى تجنُّب ذلك ما أمكن رعايةً لما هو الثابت من رجحان بذل العناية الزائدة في احترام قبورِ المؤمنين.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سنن ابن ماجة -محمد بن يزيد القزويني- ج1 / ص499.

2- سنن ابن ماجة -محمد بن يزيد القزويني- ج1 / ص499.

3- مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج2 / ص376.

4- الخلاف -الشيخ الطوسي- ج1 / ص708.

5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص210.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص106.

7- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج29 / ص327.

8- من لا يحضره الفقيه -الشيخ الصدوق- ج1 / ص181.