استحباب المضمضة والاستنشاق في الوضوء

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

هل المضمضةُ والاستنشاقُ من المستحبَّات الثابتة في الوضوء أو أنَّه لم يثبت استحبابُهما فيُؤتى بهما برجاءِ المطلوبيَّة؟

 

الجواب:

المضمضةُ والاستنشاقُ من سُنن الوضوءِ الثابتة ظاهراً، فقد ادَّعى صاحبُ الجواهر (رحمه الله) الاجماعَ على ذلك وأفاد انَّه لم يجد مُخالفاً في ذلك من المتقدِّمين والمتأخِّرين عدا ما يُنسبُ لابن أبي عقيل (رحمه الله) حيثُ نفى أنَّهما من فرائض الوضوء أو سُننه(1).

 

وقد استُدلَّ على استحبابِ المضمضمةِ والاستنشاق في الوضوء برواياتٍ مستفيضةٍ وفيها ما هو معتبرٌ سنداً منها:

 

1- صحيحة أبي بصير، قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام)، عنهما؟، فقال: هما من الوضوء فإنْ نسيتهما فلا تُعد"(2).

 

فهذه الصحيحة ظاهرةُ الدِّلالة في استحبابِ المضمضة والاستنشاق حيثُ عدَّهما الإمامُ (ع) من الوضوء، ولأنَّهما ليسا من فرائضِ الوضوء جزماً فيكونُ ذلك قرينةً على ارادة أنَّهما من سُنَنِه.

 

2- موثَّقة مالك بن أعين، قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عمَّن توضأ ونسيَ المضمضةَ والاستنشاق، ثم ذكر بعد ما دخَلَ في صلاتِه؟ قال: لا بأس"(3).

 

ومنشأُ دلالةِ الرواية على الاستحباب هو ظهورُها في المفروغيَّة عن أنَّهما من الوضوء وظهورُها في اقرار الامام (ع) بالمفروغيَّة، ونفيُ البأس عن تركهما في ظرف النسيان ظاهرٌ في أنَّهما ليسا من فرائض الوضوء بل هما من سُنَنِه، وعلى أيِّ تقديرٍ فالعلمُ بأنَّهما ليسا من فرائضِه كافٍ في تعيُّن كونِهما من سُننِه بعد ظهور الروايةِ في المفروغيَّة عن أنَّهما من الوضوء.

 

3- صحيح أبي بصير (الخصال) بإسناده، عن عليٍّ (عليه السلام) -في حديث الأربعمائة- قال: "والمضمضةُ والاستنشاقُ سُنَّةٌ وطَهورٌ للفم والأنف، والسَعوط مصحِّحةٌ للرأس، وتنقيةٌ للبدن وسايرِ أوجاعِ الرأس"(4).

 

4- صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "المضمضةُ والاستنشاقُ ممَّا سنَّ رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله"(5).

 

هذه الصحيحةُ والتي سبقتها صريحتان في أنَّ المضمضةَ والاستنشاق من السُنِّة ولكن لا دلالة فيهما على أنَّهما من سُنن الوضوء، فلعلَّ المرادَ منهما افادة استحباب المضمضة والاستنشاق مُطلقاً في الوضوء والغسل وسائر الأحوال، وهكذا هو الشأن في موثَّقة السكوني: عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله قال: ليُبالِغْ أحدُكم في المضمضةِ والاستنشاقِ، فإنَّه غفرانٌ لكم ومنفرةٌ للشيطان"(6).

 

فإنَّها وإنْ كانت ظاهرة في استحبابِ المضمضة والاستنشاق بمقتضى وصفهما بالغفران إلا أنَّها ليست ظاهرةً في أنَّهما من سُننِ الوضوء، فلعلَّ المراد افادة استحبابِهما مطلقاً في حال الوضوء وغيرِه من الأحوال.

 

وعلى أيِّ تقدير فهذه المُعتبرات الثلاث لا تنفي الاستحبابَ الخاص للمضمضةِ والاستنشاق في الوضوء الثابتِ بمقتضى مثل صحيحة أبي بصير فإمَّا أنْ تكون صالحةً لتأييد استحبابمها الخاص أو تكون داَّلة على الاستحباب المطلق.

 

نعم ثمة طائفتان من الروايات يُمكن دعوى دلالتِهما على نفي استحباب المضمضة والاستنشاق في الوضوء:

 

الطائفة الأولى: نفتْ اعتبار المضمضةِ والاستنشاق من الوضوء، وعلَّل بعضُها ذلك بأنَّهما من الجوف.

 

فمن ذلك صحيحة حكم بن حكيم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألتُه عن المضمضة والاستنشاق، أمِن الوضوء هي؟ قال: لا"(7).

 

ومنها: صحيحة حمَّاد، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألتُه عن المضمضة والاستنشاق؟ قال: ليس عليك مضمضةٌ ولا استنشاق، لأنَّهما من الجوف"(8).

 

وهذه الطائفة لا تصلحُ لنفي الاستحباب عنهما لأنَّها إنَّما تنفي اعتبار المضمضة والاستنشاق من فرائض الوضوء، وذلك بقرينة الجمع بينها وبين ما دلَّ على أنَّهما من سُنن الوضوء، ولعلَّ قوله (ع) في صحيحة حمَّاد عن أبي بصير: "ليس عليك مضمضة .." صالحٌ لتأييد هذا الجمع، فإنَّ قولَه "ليس عليك" ظاهرٌ في نفي الوجوب خصوصاً عند الالتفات إلى فتوى بعض العامَّة بأنَّهما من فرائض الوضوء، كما أنَّ في التعليل بأنَّهما من الجوف وليسا من ظاهر البدن اشعارٌ بإرادة نفي الوجوب في مقابل ما عليه دعوى العامَّة أو بعضِهم من الوجوب، فكأنَّ الإمامَ (ع) كان بصدد تفنيد فتوى العامَّة بالوجوب، وذلك ببيان أنَّهما ليسا من الظاهر بل هما من شؤون الجوف.

 

ويُؤِّيد هذا الجمع أيضاً ما ورد في رواية قرب الاسناد بسنده عن عليِّ بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام)، أنَّه سأله عن المضمضة والاستنشاق، قال: "ليس بواجبٍ وإنْ تركهما لم يُعد لهما صلاة" أو "وإنْ تركتَهما فلا تعد لهما"(9).

 

وأما الطائفة الثانية: فنفت أنْ تكون المضمضة والاستنشاق من فرائض الوضوء أو من سُننِه وهي موثَّقة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "ليس المضمضة والاستنشاق فريضةً ولا سُنَّة، إنَّما عليك أنْ تغسل ما ظهر"(10).

 

وقد أفاد الشيخُ الطوسي في توجيه الرواية بقوله: "فالوجهُ في هذا الخبر أنَّهما ليسا من السُنَّة التي لا يجوز تركها"(11).

 

وعلَّق صاحبُ الوسائل على ما أفاده الشيخ (رحمه الله) بقوله: "مرادُه بالسُنَّة ما عُلم وجوبُه بالسنَّة وهو معنىً مستعمَلٌ فيه لفظ السنَّة في الأحاديث"(12).

 

فمفاد الموثَّقه بناءً على توجيه الشيخ الطوسي هو أنَّ المضمضة والاستنشاق ليسا من فرائض الوضوء الثابتة في الكتاب كما هو الشأن في الغسلتين والمسحتين، ولم يتصدَّ النبيُّ (ص) لبيان وجوبِهما، فنفيُ كونِهما من السُنَّة معناه نفيُ جعل الوجوب لهما بواسطة السنَّة وليس هو نفي استحبابِهما. فالسُنَّة قد تُستعمل ويُراد منها الواجبات التي لم يتصدَّ القرانُ لبيانها وإنَّما تمَّ بيانُها بواسطة النبيِّ الكريم (ص) وقد تُستعمل ويُراد منها المستحبَّات التي تصدَّى النبيُّ (ص) لبيانها، والموثَّقة إنَّما تنفي أنْ يكون النبيُّ (ص) قد أفاد بأنَّ المضمضة والاستنشاق من الواجبات، فهذا هو معنى قوله ليسا فريضةً ولا سنَّة أي أنَّ وجوبهما لم يثبت بكتابٍ ولا سُنَّة خلافًا لما يدَّعيه بعضُ العامَّة من أنَّ النبيَّ (ص) قد بيَّن أنَّهما من واجباتِ الوضوء.

 

فإذا تمَّ هذا التوجيه للموثَّقة فحينئذٍ لا تكون منافيةً لما دلَّ على استحباب المضمضةِ والاستنشاقِ في الوضوء.إلا أنَّه لا يتمُّ ظاهراً، فإنَّ ارادة هذا المعنى وإنَّ كان مُحتَملاً لكنَّه ليس ظاهراً بل المُستَظهَر من معنى السُنَّة في مقابل الفريضة هو الاستحباب، فنفي السُنَّة يعني ظاهراً نفي الاستحباب إلا أنْ تقومَ قرينةٌ على إرادة المعنى الذي أفاده الشيخ (رحمه الله) وهو لم يُبرِز قرينةً على ما أفاده.

 

نعم لا يبعد أن يكون منشأ حمله نفي السنَّة على نفي الوجوب هو صراحة مثل صحيحة أبي بصير في الاستحباب فتكون قرينة منفصلة على أنَّ المراد من نفي السنَّة في الموثَّقة هو نفي الوجوب وكذلك فإنَّ وضوح الحكم باستحباب المضمضة والاستنشاق في الوضوء قد يكون قرينةً أخرى على أنَّ المراد من نفي السنَّة هو نفي الوجوب.

 

إلا أنَّ الظاهر أنَّ كلا القرينتين لا تصلحان لاستظهار إرادة نفي الوجوب من نفي السنَّة في الموثقة لكنَّهما صالحتان لاضفاء الاجمال على المراد من الموثَّقة، وبذلك يسقط هذا المقدار منها عن الحجيَّة، إذ لا يُمكن مقاومة الروايات المتظافرة بروايةٍ لا نُحرزُ ما هو المرادُ منها.

 

ومع البناء على ظهورها في نفي الاستحباب واستحكام التعارض بينها وبين ما دلَّ على الاستحباب فإنَّ الترجيح سيكونُ في طرف الروايات الدالَّة على الاستحباب إما للاطمئنان بصدورها لتظافرِها وشهرةِ العمل بها شهرةً عظيمة فتكونُ من السنَّة القطعيَّة، وإما لسقوط موثقة زرارة ابتداءً عن الحجيَّة نظراً لاعراض المشهور عنها.

 

وبذلك يثبتُ أنَّ المضمضة والاستنشاق من مستحبَّات الوضوء.

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- جواهر الكلام -الشيخ الجواهري- ج2 / ص 335.

2- الاستبصار -الشيخ الطوسي- ج1 / ص67، تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج1 / ص78، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص431.

3- الاستبصار -الشيخ الطوسي- ج1 / ص66، تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج1 / ص78، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص431.

4- الخصال -الشّيخ الصّدوق- ص661.

5- الاستبصار -الشيخ الطوسي- ج1 / ص67، تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج1 / ص79، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص430.

6- ثواب الأعمال -الشّيخ الصّدوق- ص19، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص433.

7- الكافي -الشيخ الكليني- ج3 / ص23، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص432.

8- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص432.

9- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص433.

10- الاستبصار -الشيخ الطوسي- ج1 / ص67، وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص431.

11- الاستبصار -الشيخ الطوسي- ج1 / ص67.

12- وسائل الشيعة -الحر العاملي- ج1 / ص431.