إنزال الميِّت إلى قبره على ثلاث دفعات

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

المتعارفُ عندنا حين وصول الجنازة إلى القبر هو رفعُها ووضعُها ثلاث مرَّاتٍ قبل إدخال الميِّت إلى القبر، فهل ذلك من السنَّة؟

 

الجواب:

ورد في روايات أهل البيت (ع) ما يظهر منه استحباب وضعِ الميت قريباً من القبر المُعدِّ له على مسافة ذراعين أو ثلاثة وإمهالِه قليلاً قبل ايداعه القبر، ونهت عن المبادرةِ إلى مُواراته عند وصول جنازته إلى القبر، وأفادتْ أنَّ الوجه في ذلك هو أنْ يأخذَ الميِّت أُهبتَه للمُساءلة، فلا ينبغي مُفاجئته بالمواراة:

 

فممَّا ورَد في ذلك ما رواه الشيخُ في التهذيب بسندٍ معتبرٍ عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (ع) قال: "ينبغي أنْ يُوضع الميِّت دون القبر هُنيئة ثم وارِه"(1).

 

ومنها: ما رواه الشيخُ في التهذيب بسندٍ عن ابن سنان، عن محمَّد بن عطيَّة قال: "إذا أتيتَ بأخيك إلى القبرِ فلا تفدحْه به، ضعْه أسفل من القبر بذراعين أو ثلاثة حتى يأخذَ أُهبَتَه ثم ضعْه في لحْدِه"(2).

 

ومعنى قوله: "لا تفدحه" أي لا تُثقل عليه بالمبادرة والمعاجلة في مواراتِه، فهذا هو المناسب لمدلول الفدح في اللغة، فحين يُقال فدَحه الدَّين فمعنى ذلك انَّ الدَّين أثقله وشقَّ عليه أداؤه، ومنه الحديث المروي عن النبيِّ (ص): "وعلى المسلمين أنْ لا يتركوا في الإسلام مفدوحاً في فداءٍ أو عقل"(3). فالمفدوح استُعمل في الحديث وأُريد منه المُثقَل بالدين لفداءٍ لزمَه أو ديةٍ تعلَّقت بها عهدتُه، ويبهضُه الوفاءُ بها لمستحقِّها، ويُقال للشدائد والمصائب والنوازل أنَّها فوادح لأنَّها تبهض القِوى ويشقُّ على النفس تحمُّلها، وحيثُ إنَّ معاجلة الميِّت بالموارة تُوقعُه في المشقَّة لعدم تأهُّبِه واستعدادِه لهذا ناسب التعبير عن ذلك بالفدْح.

 

ومنها: ما رواه الشيخُ في التهذيب بسنده عن أيُّوب بن نوح، عن محمَّدِ بن سنان، عن محمَّدِ بن عجلان قال: سمعتُ صادقاً يصدقُ على الله -يعني أبا عبد الله (ع)- قال: "إذا جئتَ بالميِّت إلى قبرِه فلا تفدحْه بقبرِه، ولكن ضعْه دون قبرِه بذراعين أو ثلاثة أذرع، ودعْه حتى يتاهَّبَ للقبر، ولا تفدحْه به"(4).

 

ومنها: ما رواه الكليني بسنده عن يونُس بن عبد الرحمن قال: حديثٌ سمعتُه عن أبي الحسن موسى (ع) ما ذكرتُه وأنا في بيتٍ إلا ضاق عليَّ، يقول: "إذا أتيت بالميِّت إلى شفيرِ القبر فأمهلْه ساعةً، فإنَّه ياخذُ أُهبتَه للسؤال"(5).

 

والمراد من الساعة هي الفترة الزمنيَّة القصيرة، وذلك بقربنة ماورد في معتبرة عبدالله بن سنان: "يوضعُ الميِّت دون القبرِ هنيئة" فالهُنيئة تعبيرٌ عن الوقت القصير.

 

ومنها: ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن محمد بن عجلان قال: قال أبو عبد الله (ع): "لا تفدحْ ميتِّك بالقبر ولكن ضعْه أسفل منه بذراعين او ثلاثة، ودعْه حتى يأخذَ أُهبتَه"(6).

 

ومعنى أسفل من القبر أي دونَه وقبلَه ولكن ممَّا يلي الرجلين، وذلك في مقابل أعلى القبر أي الجهة المحاذية لموضع رأسِ الميِّت في القبر.

 

والمتحصَّل من مجموع الروايات المذكورة هو استحبابُ وضع الميِّت قريباً من شفير القبر قليلاً قبل إيداعه القبر، وليس فيها ما يقتضي استحباب رفعِه ووضعِه ثلاثاً، نعم روى الشيخُ الصدوق في العلل قال: وفي حديث اخر: "إذا أتيتَ بالميِّت القبر فلا تفدحْ به القبر، فانَّ للقبر أهوالاً عظيمة، وتعوَّذ من هول المطَّلع، ولكنْ ضعْه قُربَ شفيرِ القبر، واصبرْ عليه هُنيئة ثم قدَّمه قليلاً، واصبر عليه ليأخذَ أُهبتَه، ثم قدِّمه إلى شفيرِ القبر"(7).

 

ومقتضى مفاد الرواية هو إنزاله القبر على ثلاث دفعات، فالأولى حين يُؤتى به ويُوضع قريباً من القبر، والثانية حين يُرفع ثم يوضع في الموضع الأقرب لشفير القبر، فهذا وضع ثانٍ سبقه رفع، والثالثة حين يرفع ويُوضع على شفير القبر، فهذا رفعٌ ثانٍ ووضعٌ ثالث ثم يُرفع ثالثاً ويُوضع في القبر، فإذا كان الرفع والوضع بهذا المعنى فهو مستحبٌ بمقتضى هذه الرواية والتي أفتى بمضمونها مشهورُ الفقهاء، وبناءً على ذلك يكون مقتضى الجمع بينها وبين الروايات السابقة هو استحباب وضع الميِّت قريباً من القبر هُنيئة قبل مواراتِه واستحباب إيداعه القبر على دفعاتٍ ثلاثِ على نحوِ تعدُّد المطلوب بمعنى أنَّ كلاً من الفعلين مطلوبٌ، والاِلتزام بالثاني مضافاً للاولِ يكونُ أكمل.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص167.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص167-168.

3- لسان العرب -ابن منظور- ج2 / ص540.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص168.

5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص168.

6- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص168.

7- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج3 / ص168-169.