النبيُّ (ص) يضحكُ ولا يقهقهُ مُطلقاً

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

هل من الصحيح أنَّ النبيَّ (ص) وأهلَ البيت (عليهم السلام) لم يكونوا يضحكون؟ وإنَّما كانوا يكتفون بالتبسُّم فحسب؟

 

الجواب:

الأرجحُ أنَّ النبيَّ الكريم (ص) وأهلَ بيتِه (ع) وإنْ كانوا دائمي البُشْر والتبسُّم إلا أنَّهم لم يكونوا يُقهقهونَ في ضحكِهم، فالضحكُ له مراتب وأعلى مراتبِه القهقهة، وللقهقهةِ مراتب أيضاً، والتبسُّمُ بمُختلفِ مراتبِه من الضحك كما قال تعالى: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا﴾(1) وكذلك ورد عن أميرِ المؤمنين (ع) أنَّه قال: "خيرُ الضحكِ التبسُّم"(2) فعدَّ (ع) التبسُّمَ من الضحِك، وأفاد أنَّه خيرُ مراتبِه.

 

والذي يُؤيِّد ما ادَّعيناه من أنَّ الرسولَ الكريم (ص) وأهلَ بيته (ع) لم يكونوا يُقهقهونَ في ضحكِهم، الذي يُؤيِّدُ ذلك -مضافاً إلى مُنافاةِ القهقهةِ للوَقار الذي كان أهلُ البيت (ع) في أعلى درجاته- عددٌ مستفيضٌ من الروايات يُمكن تصنيفُها إلى طائفتين:

 

الطائفة الأولى: هي التي ذمَّت القهقهةَ وأفادتْ أنَّ ضحِك المؤمنِ هو التبسُّم، وهي عدةُ روايات، وفيها ما هو معتبرٌ سنداً:

 

منها: معتبرة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "الْقَهْقَهَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ"(3).

 

فإذا كانت القهقهةُ من الشيطان فكيفَ يسوغُ القبولُ بصدورِها عمَّن عصمَهم الله تعالى عن مُطلق ما يُوحي به الشيطان؟! على أنَّ الرواية ظاهرةٌ في التصدِّي للوعظ بعدم القهقهة، فلا يصحُّ القبولُ بوقوع النبيِّ الكريم (ص) وأهلِ بيته (ع) في خلافِ ما يعظون بتجنُّبه.

 

ومنها: معتبرةُ جرَّاح المدائني قال: قال أبو عبد الله (ع): "إذا أصبحتَ صائماً فليصمْ سمعُك وبصرُك من الحرام وجارحتُك وجميعُ أعضائك من القبيح، ودع عنك الهذي وأذى الخادم، وليكنْ عليك وقارُ الصيام، والزمْ ما استطعت من الصمت والسكوت إلاّ عن ذكر الله، ولا تجعلْ يوم صومِك كيوم فِطرك، وإيّاك والمباشرةَ والقُبَل والقهقهةَ بالضحك فإنَّ اللهَ مقَت ذلك"(4).

 

فالواضحُ من الرواية أنَّ القهقهةَ بالضحك ممقوتٌ عند الله تعالى بناءً على أنَّ فقرة: "فإنّ اللهَ مقَت ذلك" وصفٌ للقهقهة بالضحكِ خاصَّة، وأمَّا بناءً على أنَّ الفقرة المذكورة وصفٌ للمباشرة والقُبَل والقهقهة فالروايةُ لا تكون ظاهرةً في مرجوحيَّة القهقهة لغير الصائم، وذلك لوقوع الأمر بالتنزُّهِ عنها في سِياق ما يُحرَز عدم مرجوحيِّته لغير الصائم. فبناءً عليه يكون المُراد من ذيل الرواية هو أنَّ اللهَ تعالى مَقَت للصائم هذه الخصالَ الثلاث.

 

ومنها: معتبرة خالد بن طهمان، عن أبي جعفر (ع): "إذا قهقهتَ فقل حين تفرغ: اللهمَّ لا تمقتني"(5).

 

وهذه الرواية ظاهرةٌ في أنَّ الضحك بنحو القهقهة ممقوتٌ، ولذلك يحسُنُ بالمؤمن إذا اتَّفق له ذلك أنْ يسألَ اللهَ تعالى أنْ لا يمقتَه.

 

ومنها: ما رواه أبو علي محمد بن همَّام في التمحيص قال: رُوي أنَّ رسول الله (ص) قال: "لا يُكمِل المؤمنُ ايمانَه حتى يحتوي على مائة وثلاث خصال: ".. من صفات المؤمن أنْ يكون جوَّال الفكر جوهري الذكر -إلى أن قال:- "ضحكُه تبسُّماً"(6).

 

هذه الرواية ظاهرة في أنَّ الاِقتصار على التبسُّم في مقام الضحك من كمال الإيمان.

 

ومنها: ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن عَبْدِ اللَّه بْنِ يُونُسَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَه هَمَّامٌ وكَانَ عَابِداً نَاسِكاً مُجْتَهِداً إلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لَنَا صِفَةَ الْمُؤْمِنِ كَأَنَّنَا نَنْظُرُ إِلَيْه فَقَالَ: "يَا هَمَّامُ الْمُؤْمِنُ هُوَ الْكَيِّسُ الْفَطِنُ بِشْرُه فِي وَجْهِه وحُزْنُه فِي قَلْبِه أَوْسَعُ شَيْءٍ صَدْراً .. إِنْ ضَحِكَ لَمْ يَخْرَقْ وإِنْ غَضِبَ لَمْ يَنْزَقْ، ضِحْكُه تَبَسُّمٌ.."(7).

 

ومنها: ما رواه الكلينيُّ عن عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "ضَحِكُ الْمُؤْمِنِ تَبَسُّمٌ"(8).

 

ومنها: ما وردَ في خطبة أمير المؤمنين (ع) في صفات المتقين: ".. إنْ صمتَ لم يغمُّه صمتُه، وإنْ ضحِك لم يعلُ صوتُه .."(9).

 

فهذه الروايات الأربع وإنْ كانت بصدد البيان لسجايا المؤمنين والمتَّقين وأنَّ من سجاياهم الاقتصار على التبسُّم في مقام الضحك، فهي وإنْ كانت متصدِّية لذلك لكنَّها في ذات الوقت ظاهرةٌ في الحضِّ على التمثُّل بهذه السجيَّة والتنزُّه عن الضحك بغير التبسُّم، وهي ظاهرة أيضاً في أنَّ الفاقد لواحدةٍ من السجايا المذكورة فاقد لخلَّةٍ من خلال المتَّقين ومن خِلال الكمال.

 

وإذا كانت هذه الروايات ظاهرةٌ في أنَّ غالب أحوال المؤمنين والمتَّقين هو عدم القهقهةِ والاقتصار على التبسُّم في مقام الضحك فالمتعيَّن هو أنَّ مُطلق أحوال المعصومين (ع) الواعظين بالنهي عن القهقهة هو الاقتصارُ على التبسُّم. لأنَّهم في أعلى مراتب المتَّقين، ولأنَّ صدور القهقهة عنهم ولو في حالاتٍ محدودة يُصبحُ مستوحَشاً بعد وعظِهم المتكرِّر والمستفيض بعدمِ القهقهة، وقد يصدُّ عن التمثُّل بوعظِهم.

 

الطائفة الثانية: الرواياتُ التي نصَّت على أنَّ ضحكَ الرسولِ (ص) كان بنحو التبسُّم:

منها: ما رواهُ الحسن بن محمد الطوسي في مجالسِه بسنده عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه أبى عبد الله (ع) عن آبائه، عن عليٍّ (ع) قال: "كان ضحكُ النبيِّ (ص) التبسُّم، فاجتاز ذات يوم بفيئةِ من الأنصار، وإذا هم يتحدَّثون ويضحكون ملء أفواهِهم، فقال: "مه يا هؤلاءِ، مَن غرَّه منكم أملُه وقصرَ به في الخير عملُه فليطَّلعِ القبور، وليعتبرْ بالنشور، واذكروا الموتَ فإنَّه هادمُ اللَّذات"(10).

 

فهذه الرواية ظاهرةٌ في أنَّ الرسول (ص) لم يكن يضحكُ إلا بنحو التبسُّم، إذ لو كان النبيُّ (ص) يُقهقهُ في ضحكِه ولو في بعض الحالات لكان المُناسب أنْ يُقال كان أكثر ضحكِه التبسُّم، إذ أنَّ الإطلاق مع افتراض صدورِ القهقهة من النبيِّ الكريم (ص) ولو في بعض الحالات منافٍ للواقع، والذي يؤكِّد إرادة التوصيف لمُطلق حالاتِه هو اشتمال الرواية على ذمِّ النبيِّ الكريم (ص) للقهقهةِ والزجرِ عنها.

 

هذا وقد روت العامَّةُ بسندٍ صحيح عن عبد الله بن الحارث قال: "ما كان ضحكُ رسولِ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) إلا تبسُّماً".

 

وكذلك روى البخاريُّ في صحيحه بسنده عن عائشة قالتْ: ما رأيتُ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ضاحكاً حتى أرى منه لهواتِه إنَّما كان يتبسَّم"(11).

 

ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق بسندٍ معتبرٍ إلى إبراهيم بن العباس قال: "ما رأيتُ أبا الحسن الرضا (ع) جفا أحداً بكلمةٍ قط .. ولا رأيتُه يقهقهُ في ضحكِه قط بل كان ضحكُه التبسُّم .."(12).

 

والمفترض من الرواي الممدوح بالوثاقة أنَّه كان ملازماً للإمام (ع) زمناً يُؤهِّله للحديث عن سجاياه، إذ لا يصحُّ لمَن اتَّفق له رؤية الإمام (ع) لبرهةٍ يسيرةٍ من الزمن أنْ يكون توصيفُه لسجايا الإمام (ع) بهذا الإطلاق والبت، فإذا كان الراوي قد نفى نفياً قاطعاً انَّه رأى الإمام (ع) يُقهقهُ في ضحكِه وهو قد صادفَه في مختلفِ حالاتِه زمناً طويلاً فذلك يكشفُ عن عدم صدور القهقهةِ منه، إذ لو صدرت منه لاتَّفق لهذا الرواي مشاهدتَه عليها بما يمنعُه من النفي القطعي، واحتمالُ صدورِ الضحكِ منه في حالاتٍ لم يشاهدها الرواي مستبعدٌ غايته، لأنَّه إذا كان قد شاهده مرَّاتٍ كثيرة في الحالات المُوجبةِ للضحك عند عموم الناس فلم يجدْ في ضحكِه قهقهةً فذلك يكشفُ له -كما هو الشأنُ عند العقلاء- عن أنَّ التبسُّمَ وعدمَ القهقهة سجيةٌ راسخةٌ في نفسِه تُصحِّح له أنْ يصف الإمام (ع) بقوله: "ولا رأيتُه يقهقهُ في ضحكِه قط".

 

وبما ذكرنا يتَّضح أنَّ الروايات التي اشتملت على الإخبار عن أنَّ النبيَّ (ص) وأهل بيته (ع) قد ضحكوا في موردٍ من الموارد يتعيَّن حملُها على الضحك بنحو التبسُّم، لأنَّ التبسُّمَ نَحوٌ من الضحك كما هو مقتضى قولِه تعالى: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا﴾ وكما أفاد ذلك اللغويُّون وكما هو المتفاهمُ العرفي من مدلول لفظ الضحِك، فهو يصدق دون عنايةٍ على مطلق مراتبِ الضحِك بما في ذلك التبسُّم.

 

وأمَّا ما وردَ من غير طرقنا من أنَّ: "جُلَّ ضحِكِ النبيِّ الكريم (ص) هو التبسُّم" فهو لا يدلُّ على أنَّه (ص) كان يُقهقهُ في ضحكِه في بعض الحالات، فإنَّ إثبات التبسُّم لمعظمِ حالاتِ ضحكِ النبيِّ (ص) لا يُثبت صدورَ القهقهةِ منه في بعض الحالات، نعم هو لا ينفي صدورُ القهقهةِ ولكنَّه لا يُثبتها فالنصُّ إذن ساكتٌ عن الحالات القليلة ومتصدٍ لبيان معظم حالات ضحكِه (ص) ولعلَّ الواصف أراد أن يحتاط لنفسه وأنْ يكون في سعةٍ من جهة الحالات التي لم يقفْ عليها عياناً وسماعاً، لذلك فإنَّ مثل هذا المأثور لا يصلحُ لمعارضة ما دلَّ على النفي التامِّ لصدور القهقهة من النبيِّ الكريم (ص).

 

والحمد لله ربِّ العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- سورة النمل / 19.

2- غرر الحكم ص4964.

3- الكافي -الشيخ الكليني- ج2 / ص664.

4- بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج93 / ص292.

5- الكافي -الشيخ الكليني- ج2 / ص664.

6- مستدرك الوسائل -الميرزا النوري- ج11 / ص179.

7- الكافي -الشيخ الكليني- ج2 / ص227.

8- الكافي -الشيخ الكليني- ج2 / ص664.

9- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج2 / ص164.

10- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج12 / ص119.

11- سنن الترمذي -الترمذي- ج5 / ص262، صحيح البخاري ج6 / ص42.

12- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج1 / ص198.