إنشاد الشعر في المساجد والجمعة وشهر رمضان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

المسألة:

النصوص التي وردت تنهى عن إنشاد الشعر في ليالي الجمع وفي الليالي وإنْ كان حقا كيف يمكن اتباعها بينما إحياء الشعائر بالأشعار الدينية والرثاء والمدائح للرسول (ص) وأهل بيته (ع) لا يتم إلا ليلاً وأحيانا يُصادف ليالي جمعة؟

 

الجواب:

الحكمُ بكراهةِ إنشاد الشعر في شهر رمضان وفي ليالي الجمع وأيامها وفي المساجد لا يشملُ الشعر المتضمِّن للمدحِ والرثاءِ للرسول (ص) وأهلِ بيته (ع) كما لا يشمل الشعر المتضمِّن للحكمةِ والوعظِ والتذكيرِ بالله جلَّ وعلا أو البيان لأصول العقيدةِ وما أشبه ذلك، وقد نسب صاحبُ الحدائِق القولَ بعدم شمول الكراهة لإنشاد الشعر المتضمِّنِ لهذه المعاني إلى الأصحاب.

 

والذي يدلُّ على ذلك هو الروايات المستفيضةُ الآمرةُ بنظمِ الشعرِ وإنشاده في رثاء الحسينِ وأهل البيت (ع) ومدحِهم، وهي صريحة في أنَّ ذلك يُعدُّ من أعظم القرباتِ والطاعاتِ لله جلَّ وعلا.

 

فمن ذلك صحيحة محمد بن أبي عمير عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: قال أبو عبد الله (ع): "مَن قال فينا بيتَ شعرٍ بنى اللهُ تعالى له بيتاً في الجنة"(1).

 

ومنه: موثقة عبيد بن زرارة، عن أبيه قال: دخل الكميتُ بن زيد على أبي جعفر (ع) وأنا عنده فأنشده .. إلى انْ قال للكميت: "لا تزال مُؤيَّداً بروح القدس ما دمتَ تقول فينا"(2).

 

ومنه: رواية علي بن سالم، عن أبيه، عن أبي عبد الله (ع) قال: "ما قال فينا قائلٌ بيتَ شعرٍ حتى يُؤيَّد بروح القدس"(3).

 

فمثل هذه الروايات وهي كثيرة تكون قرينةً بيِّنة على أنَّ المراد الجدِّي من النهي الوارد في بعض الروايات عن إنشاد الشعر في المساجد وليالي وأيام الجمعة وشهر رمضان هو الشعر الذي يكون نظمُه وإنشادُه مباحاً بالمعنى الأخص وليس هو الشعر الذي يكون نظمُه وإنشادُه من الطاعات والقربات، وليس أقل من أنَّ الروايات المستفيضة الآمرة بنظم الشعر وإنشاده في أهل البيت (ع) صالحةٌ للمنع من انعقاد الظهور الجدِّي في إرادة الإطلاق من النهي الوارد في بعض الروايات.

 

وُيمكن تأييد نفي الكراهة عن إنشاد الشعر المتضمِّن للمعاني المذكورة بعددٍ من النصوص:

منها: ما رواه الفضل بن الحسن الطبرسي في كتاب (الآداب الدينية) عن خلف بن حماد قال: قلتُ للرضا (ع): "إنَّ أصحابنا يروون عن آبائك (ع): إن الشعر ليلة الجمعة ويوم الجمعة وفي شهر رمضان وفي الليل مكروه، وقد هممتُ أنْ أرثي أبا الحسن (ع) وهذا شهر رمضان، فقال لي: ارثِ أبا الحسن في ليلة الجمعة، وفي شهر رمضان وفي الليل، وفي سائر الأيام، فإنَّ الله يُكافئك على ذلك"(4).

 

فهذه الرواية ليست ظاهرة في نفي الكراهة عن إنشاد الشعر في أهل البيت (ع) وحسب بل هي صريحةٌ في استحباب ذلك كما هو مفاد قوله (ع): "فإنَّ الله يُكافئك على ذلك" والواضح من الرواية أنَّها ناظرة لروايات النهي عن إنشاد الشعر في الجمعة وشهر رمضان فيكون ذلك قرينةً بيِّنة على أنَّ النهي الوارد في تلك الروايات لا يشمل الشعر المتضمِّن للمدح والرثاء لأهلِ البيت (ع) بل ومطلق ما يُقرِّب من الدين.

 

ومنها: ما رواه الصدوق بسندٍ صحيح عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال: "بينا رسول الله (ص) ذات يوم بفناء الكعبة يوم افتتح مكة إذ أقبل إليه وفدٌ فسلَّموا عليه، فقال رسولُ الله (ص): من القوم؟ قالوا: وفد بكر بن وائل فقال: وهل عندكم علم من خبر قسِّ بن ساعدة الأيادي؟ قالوا بلى يا رسول الله (ص) قال: فما فعل؟ قالوا: مات، فقال رسولُ الله (ص): الحمد لله ربِّ الموت وربِّ الحياة، كلُّ نفسٍ ذائقة الموت، كأنِّي أنظر إلى قسِّ بن ساعدة الأيادي وهو بسوق عكاظ على جملٍ له أحمر وهو يخطبُ الناس ويقول: .. ألا إنَّه مَن عاش مات، ومَن مات فات، ومن فات فليس بآت يحلف قس يميناً غير كاذبة إنِّ لله ديناً هو خير من الدين الذي أنتم عليه، ثم ساق الحديث إلى أنْ قال: ثم قال رسول الله (ص) رحم الله قسَّاًّ يُحشر يوم القيامة أمةً واحدة، قال: هل فيكم أحدٌ يحسن من شعره شيئا؟ فقال بعضُهم سمعته يقول:

 

في الأولين الذاهبين من القرون لنا بصائر

لمَّا رأيتُ موارداً للموتِ ليس لها مصادر

ورأيتُ قومي نحوها تمضي الأصاغرُ والأكابر

لا يرجع الماضي إليَّ ولا من الباقين غابر

أيقنتُ أنِّي لا محالة حيثُ صار القوم صائر .. الحديث(5)

 

فهذه الرواية صريحة في أنَّ الرسول (ص) استنشدَ وفد بكرِ بن وائل بعض ما نظمَه شاعرُهم في الحِكمة والوعظ، وكان ذلك بفناءِ الكعبة الشريفة.

 

ومنها: ما رواه الشيخ المفيد في الأمالي بسنده قال: جاء أعرابي إلى النبيِّ (ص) قال: فقال: والله يا رسول الله لقد أتيناك وما لنا بعيرٌ يئط، ولا غنم يغط، ثم أنشأ يقول:

 

أتيناك يا خير البرية كلها ** لترحمنا مما لقينا من الأزل

 

إلى أن قال: فقال رسول الله (ص) لأصحابه: إنَّ هذا الأعرابي يشكو قلَّة المطر وقحطاً شديداً، ثم قام يجرُّ رداءه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه .. ورفع يديه إلى السماء وقال: "اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، مريئاً، مريعاً، غدقاً، طبقاً، عاجلاً غير رائث نافعاً غير ضائر، تملأ به الضرع، وتنبت به الزرع، وتُحيى به الأرض بعد موتها" فما ردَّ يديه إلى نحره حتى أحدق السحاب بالمدينة كالإكليل والتقت السماء بأردافها .. إلى أنْ قال: فضحك رسول الله (ص) وقال: لله درُّ أبي طالب لو كان حيَّاً لقرَّت عيناه، مَن ينشدنا قوله؟ .. فقام عليُّ بن أبي طالب (ع) فقال: كأنَّك أردتَ يا رسول الله قوله:

 

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ** ربيع اليتامى عصمةٌ للأرامل

يلوذُ به الهلاَّك من آل هاشمٍ ** فهم عنده في نعمةٍ وفواضل

كذبتم وبيتِ الله نبزي محمداً ** ولما نماصع دونه ونقاتل

ونسلمه حتى نُصرَّع حوله ** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

 

فقال رسول الله (ص): أجل، فقام رجل من بني كنانة

 

فقال:

لك الحمد والحمد ممَّن شكر ** سُقينا بوجه النبيِّ المطر

دعا الله خالقه دعوةً ** وأشخص منه إليه البصر

ولم يكُ إلا كقلب الرداء ** وأسرع حتى أتانا المطر

دفاق العزائل وجْمُ البعاق ** أغاث به الله عليا مضر

فكان كما قاله عمُّه ** أبو طالب ذا رواء غزر

به الله يسقي صيوب الغمام ** فهذا العيان وذاك الخبر

 

فقال رسول الله (ص): بوأك الله يا كناني بكلِّ بيتٍ قلته بيتاً في الجنة"(6).

 

هذه الرواية أفادت أنَّ الرسول (ص) استنشد شعر أبي طالب (رضوان الله عليه) وأنشد شعره الإمام علي (ع) ثم قام رجلٌ من كنانة فأنشد في الثناء على النبي (ص) شعراً فشكر له النبي (ص) ذلك فأفاد أنَّ له بكلِّ بيتٍ من شعره بيتاً في الجنَّة، وكلُّ ذلك وقع كما هو ظاهر الرواية في المسجد النبوي الشريف.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج14 / ص597.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج14 / ص598.

3- وسائل الشيعة (الإسلامية) -الحر العاملي- ج10 / ص467.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج14 / ص599.

5- كمال الدين وتمام النعمة -الشيخ الصدوق- ص167.

6- الأمالي -الشيخ المفيد- ص305.