المباهلة .. مستندها ودلالتها

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّه الْوَاحِدِ الأَحَدِ الصَّمَدِ الْمُتَفَرِّدِ، الَّذِي لَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ، ولَا مِنْ شَيْءٍ خَلَقَ مَا كَانَ، قُدْرَةٌ بَانَ بِهَا مِنَ الأَشْيَاءِ، وبَانَتِ الأَشْيَاءُ مِنْه، فَلَيْسَتْ لَه صِفَةٌ تُنَالُ، ولَا حَدٌّ تُضْرَبُ لَه فِيه الأَمْثَالُ، كَلَّ دُونَ صِفَاتِه تَحْبِيرُ اللُّغَاتِ، وضَلَّ هُنَاكَ تَصَارِيفُ الصِّفَاتِ، وحَارَ فِي مَلَكُوتِه عَمِيقَاتُ مَذَاهِبِ التَّفْكِيرِ وانْقَطَعَ دُونَ الرُّسُوخِ فِي عِلْمِه جَوَامِعُ التَّفْسِيرِ، وأشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وحده لا شريك له وأشهدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه (ص).

أوصيكم بتقوى اللهِ والعملِ بما أنتم عنه مسؤولون، فأنتم به رهن، وأنتم إليه صائرون فإنَّ الله عز وجل يقول: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾(1) وقال: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾(2) وقال: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ / عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(3) فاعلموا عباد الله أن الله سائلُكم عن الصغيرِ من أعمالكم والكبيرِ فإنْ يعذب فنحنُ الظالمون وإنْ يغفر ويرحم فهو أرحم الراحمين.

قال اللهُ تعالى في محكمِ كتابه المجيد: -بسم الله الرحمن الرحيم-: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾(4).

الحديث حول آية المباهلة يقعُ في محاور:

المحور الأول: نستعرضُ فيه بنحو الإيجاز هذا الحدثَ الذي اتفق المؤرخونَ والمفسرونَ من الفريقين، وأربابُ الحديثِ والدرايةِ من الفريقين- على ثبوته وتحقُّقه في أيام رسول الله (ص).

وحاصلُ ما وقع أنَّ وفداً مِن نصارى نجران وفدوا إلى مدينةِ الرسول (ص)، وقصدوا النبيِّ الكريم (ص) ليُحاجُّوه في دينِه وفي دعوتِه، فسألوه فيما سألوه: ما تقولُ في عيسى بنِ مريم؟ فأفاد (ص): إنَّه عبدٌ من عباد الله، وخلقٌ من خلقه تعالى، يأكُلُ كما يأكلُ الناس، ويشربُ كما يشرب الناس. فقالوا له: إنَّ عيسى وُلد من غير أب، ومقتضى ذلك أنَّه ابنُ الله. فنزلت الآيةُ الكريمة: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ / الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ﴾(5) فبُهِتوا! فهم يؤمنون بأنَّ آدم قد خُلق دون أَبٍ ودون أُمّ، فإذا كانت البنوَّة لله -عز وجل- تثبتُ لمَن جاء من غيرِ أب، فأولى بها آدم؛ لأنَّ آدمَ جاء من غير أبٍ، بل ومن غير أُمٍ أيضاً، وهم يعتقدون ويعترفون بذلك، ولهذا بُهِتوا. إلَّا أنَّهم لم يُسلِّموا لرسول الله (ص)، وأصرُّوا على عنادهم بعد حوارٍ ومناظرة، فقال لهم الرسول (ص): تعالَوا لنتباهل، فيبتهل كلٌّ منَّا إلى الله تعالى بأنْ يجعلَ لعنتَه وعذابَه الفوريَّ -حتى تكون لذلك دلالة- على الكاذب مِنَّا. فإنْ كنتُ أنا الكاذب نزل العذابُ عليَّ وعلى مَن معي، وإنْ كنتم أنتم الكاذبين فإنَّ العذاب الفوريَّ ينزلُ عليكم. فقالوا: أنصفتنا. فكانت تلك هي أجواء نزولِ الآيةِ المباركة: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾(6). فطلبوا أن يُمهلَهم إلى غدِ ذلك اليوم، فأمهلَهم رسولُ الله (ص).. ذهبوا للتشاور ثم عادوا في اليوم الآخر، وقد كانوا قد تعاقدوا فيما بينهم: إنْ كان محمَّدٌ (ص) قد جاءكم بقومه ليباهلكم بهم فباهلوه -عقدوا العزم على ذلك-، وإنْ جاءَ بخاصَّته وأهل بيتِه فالمرءُ لا يُعرِّضُ أهلَه وخاصَّته للهلاك إلَّا وهو على يقينٍ مِن أمرِه، فإنَّما يُحارِبُ الإنسانُ عن أهلِه، ويحاربُ عن أبنائه وأولادِه، ويدفعُ عنهم، فإذا قد جاءَ بهم ليكونوا في مَعَرضِ الهلاك فذاك يُعبِّرُ عن وثوقِه بسلامتهم، وأنَّهم لن يُصابوا بأذىً، وهو ما يكشفُ عن اطمئنانِه ويقينِه وقطعِه بأنَّه على الحقِّ ونحن على الضلال.

جاءوا في اليوم التالي، فخرجَ إليهم رسولُ الله (ص) آخذاً بيد أميرَ المؤمنين عليَّ بن أبي طالب، والحسنُ والحسينُ بين يديه يمشيان وفاطمةُ -صلوات الله عليهم- تمشي خلفه، فذُعِروا بعد أنْ سألوا عن هويَّة مَن كان معه، ذُعروا لأنَّهم وجدوا ما كانوا يخشون، فالنبيُّ (ص) سُيباهلُ بأخصِّ خاصَّته.

خرج الرسولُ (ص) وهو يقول: اللهمَّ إنَّ هؤلاء أهلُ بيتي بعد أنْ جلَّلهم بمَرطٍ أو كساء. ثم -قال لعليٍّ وفاطمةَ والحسنِ والحسين: إذا دعوتُ فأمِّنوا- ثم جثا رسولُ الله (ص) على ركبتيه. فقالوا: جثا كما جثا الأنبياء! هنا طلبَ الرسولُ (ص) منهم أن يبدءوا المباهلة، إلَّا أنَّهم اعتذروا وقبِلوا بالصُلحِ وقالوا: نرى وجوهاً لو أقسمتْ على اللهِ أنْ يُزيلَ الجبالَ لأزالها، فقال رسولُ الله (ص) لو لاعنوا لمُسِخوا قردًةً وخنازير، ولامتلأ الوادي عليهم ناراً، ولاستؤصلَ أهلُ نجران عن آخرِهم. إلا أنَّهم لم يُباهلوا. هذا هو حاصلُ ما ذكره الرواةُ والمؤرِّخون والمفسِّرون من الفريقين.

المحور الثاني: سند المباهلة

وثمةَ مَن لم يسعه التستُّرُ على طويَّته فسعى بمجهودِه الضعيفِ أن يتنكَّرَ لوقوع هذه المنقبة الجليلة؛ لما لها من دلالاتٍ واضحة وجليَّة على أفضليَّةِ أهل البيت(ع) على سائر الأمَّة. ولذلك لا بأس أنْ نشيرَ إلى سندِ هذه الرواية:

فسندُ هذه الواقعةِ يتَّضحُ من ملاحظةِ ما أوردته كتبُ العامَّة -الكتبُ المعتمدةُ والمعوَّلُ عليها- كصحيح مسلم الذي هو من أصحَّ الكتب بعد الكتاب المجيد -بنظرهم-:

يذكرُ مسلمٌ في صحيحه أنَّ معاوية لماَّ أنْ ذهب للمدينة المنورة بعد عام الجماعة، لقي سعدَ بن أبي وقاص -وهو من مشاهيرِ الصحابة-، فقال له: يا سعدُ، لماذا لا تسُبُّ عليَّاً؟ -الكثير منهم قَبِلَ أن يسُبَّ عليَّاً، أنتَ لماذا لا تسبُّ علياً؟- قال: أما أنِّي إذا تذكُّرتُ ثلاثاً قالها رسولُ الله (ص) لعليٍّ والتي لو كانت لي واحدةٌ منها، لكان أحبَّ إليَّ من حُمْر النعم، أما أنِّي إذا تذكرتُها فلنْ أسبَّ عليَّاً. قال: وما هُنَّ يا سعد؟ قال: أما الأولى: فعندما عبَّأَنا رسولُ الله (ص) إلى تبوك، وخلَّف عليَّاً على المدينة، خرج عليٌّ (ع) إلى الرسول (ص) وهو في طريقه إلى تبوك مُستعبِراً، حزيناً، وقال: يا رسول الله، تّخلِّفني مع الصغار والنساء؟! قال (ص) يا عليُّ، أما ترضى أنْ تكون منِّي بمنزلة هارونَ من موسى، إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي؟ فهذه قالها في عليٍّ ولم يقلْها في غيره.

قال: وما الثانية؟ قال: وأمَّا الثانية: فحينما استعصى علينا فتحُ حصنِ خيبر، وتقهقر الرجال، بعد أنْ عجزوا عن فتحِه، قال رسولُ الله (ص): (لأُعطينَّ الرَّايةَ غداً رجلاً يُحبُّ اللهَ ورسولَه، ويُحبُّه اللهُ ورسولُه، كرَّارٌ غيرُ فرَّار، يفتحُ اللهُ على يديه).

فتطاولتْ أعناقُنا؛ كلٌّ منا يطمحُ بأنْ يكون هو ذلك الرجل، فما أنْ أصبحنا حتى تدافعنا لنُري رسولَ الله (ص) وجوهَنا -لعلَّه يختارُ واحداً منَّا- فقال: (ص): أين عليٌّ ؟ فقيل: إنَّ بعينيه رمَد -فهو لا يصلُح لحملِ الراية- فالمصابُ بالرمَد لا يُبصر. قال: احملوه. حملوا إليه عليَّاً، وجيْءَ به، فوضعَ رسول الله (ص) مِن ريقه في عيني عليٍّ (ع) فأبصر. ثم سلَّمه الراية، فما عاد إلَّا وقد فتحَ الله على يديه حصنَ خيبر.

وأمَّا الثالثةُ: يا معاوية، فعند ما جاء وفدُ نصارى نجران وطلب منهم رسولُ الله (ص) المباهلة، قال تعالى: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾، فكان أبناؤه الحسنَ والحسين، وكانت نساؤه فاطمة، وكانت نفسُه عليَّاً -علي هو نفس رسول الله- إذا تذكرتُ واحدةً من هذه الثلاث فلنْ أسُبَّ عليَّاً(7).

هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وأحمدُ في مسنده، وروى حديثَ المباهلة الطبريُّ في تفسيره، وأورده الحاكمُ النيسابوري في المستدرك على الصحيحين وقال: حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين: البخاري مسلم-، وفي كتاب معرفةِ علومِ الحديثِ للحاكم النيسابوري قال: " وقد تواترتِ الاخبار في التفاسير عن عبد الله بن عباس وغيره أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ يوم المباهلة بيد علي وحسن وحسين وجعلوا فاطمة وراءهم ثم قال هؤلاء أبناءنا وأنفسنا ونساؤنا فهلموا أنفسكم وأبناءكم ونساءكم ثم نبتهل فنجعل لعنةَ الله على الكاذبين"، وورد حديثُ المباهلة في سنن الترمذي، وسنن البيهقي، وشواهد التنزيل والإصابة للذهبي وأورده في سير أعلام النبلاء، وأورده السيوطي في الدرِّ المنثور وغيرهم، حتى عدُّوا ستين طريقاً عن الصحابة والتابعين: فقد رواها مثل عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس وجابر بن عبدالله الأنصاري والبراء بن عازب هذا من الصحابة.

وأما من التابعين فكثير: كمجاهد، والشعبي، والسدي، وغيرهم من علمائهم ومحدِّثيهم، رووا هذا الحديث في كتبهم، وصحَّحوه، واعتمدوه. هذا ما يرتبط بسند الحديث. وسنتحدثُ بإيجاز عن دلالته.

راجع أرقام الأجزاء والصفحات في هامش مقالنا: (مناقشة في دلالة آية المباهلة)

المحور الثالث: دلالة المباهلة:

أفاد الزمخشري في بيان دلالة الحديث: أنَّ حديث المباهلة، وآية المباهلة، أقوى دليلٍ على أفضليَّة أصحابِ الكساء؛ ذلك لأنَّه لن يختارَ رسولُ الله (ص) لهذا الحدث الذي يحتاجُ إلى قربٍ شديدٍ من اللهِ عز وجل، إلَّا مَن هم صفوةُ هذه الأمة، لذلك استفاد الزمخشري -وهو من علماء العامة- أنّ هذا الحديث أقوى حديثٍ على أفضلية أصحابِ الكساء على غيرهم من أمة محمد (ص).

معنى ﴿وَأَنفُسَنَا﴾:

ونحن هنا سوف نقفُ على فقرةِ: ﴿وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ﴾. فالمعنيُّ من قوله: ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ هو عليُّ بن أبي طالب (ع). وذلك لأنَّه لم يختلف أحدٌ من علماء الفريقين أنَّ عليَّاً كان ضِمن من باهلَ بهم رسولُ الله (ص) نصارى نجران حتى قال الفخرُ الرازي إنَّ ذلك كالمتفقِ على صحَّتِه.

وليس المقصودُ من ذلك أنَّ نفس عليٍّ (ع) هي عينُ نفسِ رسول الله، وإنَّما المقصودُ من قوله تعالى: ﴿وأَنفُسَنَا﴾ أنَّ نفسَ عليٍّ مثلُ نفس رسول الله.. وذلك يقتضي الاستواءُ من تمامِ الوجوه، وهو يُعبِّرُ عن أنَّ عليَّاً أفضلُ من سائرِ الأنبياء، -كلِّ الأنبياء-؛ إذ أنَّ رسولَ الله (ص) أفضلُ من جميعِ الأنبياء على الإطلاق، فمَن هو كنفسِ رسول الله (ص) يكون أفضلَ من سائرِ الأنبياء على الإطلاق. والذي يُؤيدُ أنَّ عليَّاً (ع) كان يحملُ مَلَكَاتِ الأنبياء، وأنَّ نفسَه في قوِّةِ نفسِ رسول الله إلَّا النبوَّة هو ما ورد بأسانيدَ متعدِّدةٍ وألسنةٍ متقاربة في طرقِنا وطرقِ العامة عن النبيِّ الكريم (ص) أنَّه قال: "من أراد أن ينظرَ إلى آدمَ في علمه، وإلى نوحٍ في عبادته، وإلى إبراهيمَ في خلَّتِه وإلى موسى في هيبتِه، وإلى عيسى في زهده، فلينظرْ إلى عليِّ بن أبي طالب"(8) فعليٌ كان يحملُ كمالاتِ الأنبياء.

وأما دعوى بعضِهم أنَّ المقصود من ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ هو الرسول (ص)، فجوابُه مضافاً إلى عدم الخلاف في أنَّ عليَّاً كان ضِمنَ من باهلَ بهم الرسول (ص) ولم يكن عليَّاً ابناً للرسول (ص) ولا كان من النساء فيتعيَّن أنَّه المقصود من قوله تعالى: ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ فمضافاً إلى ذلك فإنَّ الآية كانت تُخاطبُ النبيَّ (ص) بأنْ يدعو الأصنافَ الثلاثة المذكورة في الآية والدعوةُ لا تكون إلا للغير فلا يصحُّ أنْ يدعوَ الانسان نفسه فيتعيَّن أنَّ المراد من قوله ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ هو عليُّ بن أبي طالب (ع) أو هو ضمنَ المعنيِّ من هذه الفقرة مع رسول الله (ص) هذا مضافاً إلى ما نصَّت عليه الروايات المتصدِّية لبيانِ الآيةِ المباركة.

وثمَّة مُؤكِّداتٌ أخرى على ذلك، فإنَّ رسولَ الله (ص) أفاد في مواضعَ كثيرة بأنَّ عليَّاً (ع) هو نفسُه. ونذكرُ هنا بعضَ الروايات الواردة من طرق العامَّةِ وحسب، وأما من طرقنا فكثير:

-عليٌّ نفسي:

فمن ذلك ما أورده في كفاية الطالب وغيره أنَّ رجلاً جاء إلى رسول الله (ص) يسألُه عن بعض أصحابه وسماهم، فذكرهم النبيُّ بخيرٍ، فقال له: يا رسول الله وعلي؟ فقال الرسول (ص): إنما سألتني عن الناس ولم تسألني عن نفسي"(9)، فعلي نفس رسول الله بنصِّ هذا الحديث. وفي رواية أخرى قال السائل يا رسول الله فأين علي؟ فالتفتَ الرسول (ص) إلى أصحابه فقال: إنَّ هذا يسألني عن النفس"(10).

وفي رواية ثالثة: قال فتىً من الأنصار: فما بالُ علي؟ فقال له النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: هل رأيتَ أنَّ أحدا يُسئل عن نفسِه(11)؟!

-أنا وعلي من شجرةٍ واحدة:

وأخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين بسندٍ صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعليٍّ: يا علي الناسُ من شجرٍ شتى وانا وأنت من شجرةٍ واحدة " قال الحاكم هذا حديثٌ صحيحُ الاسناد(13).

وأورد النسائي في سننه وفي الخصائص والطبراني في المعجم الأوسط وغيرُهما عن جابر الأنصار وأبي ذر عن الرسول (ص) أنَّه قال: لينتهينَّ بني وُلَيْعة، أولأبعثنَّ إليهم رجلاً كنفسي يُمضي فيهم أمري. فتطاولتْ أعناقُ الرجال، مَن تراه يعني؟ فأشار رسولُ الله (ص) إلى عليٍّ (ع) وضربَ بيده على كتفيه(14). والرواية بهذا المعنى وردت بطرقٍ مستفيضة من طرقِ العامة وأورد الحاكمُ النيسابوري في المستدركِ على الصحيحين بسنده عن عبد الرحمن بن عوف اشتملت على وصف الرسول الله (ص) لعليٍّ بأنَّه كنفسه وعلَّق الحاكم النيسابوري على سندها بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

كلُّ هذه الروايات -وهي كثيرةٌ، ولم نذكرُ منها إلَّا القليل- تُعبِّرُ عن أنَّ الرسول (ص) كان يُكثرُ من التأكيدِ على أنَّ عليَّاً كان كنفسه، فإذا كان هو نفسُ رسول الله (ص) فمن يكونُ أولى، وأجدرَ، وأحقَّ بموقعِ رسول الله (ص) من عليِّ بن أبي طالب؟!

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ / وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(15)

خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور

25 من ذي الحجة 1436هـ - الموافق 9 أكتوبر 2015م

جامع الإمام الصادق (عليه السلام) - الدراز


1- سورة المدثر / 38.

2- سورة آل عمران / 28.

3- سورة الحجر / 92-93.

4- سورة آل عمران / 61.

5- سورة آل عمران / 59-60.

6- سورة آل عمران / 61.

7- صحيح مسلم -مسلم النيسابوري- ج 7 ص 120.

8- "من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في عبادته، وإلى إبراهيم في خلته، وإلى موسى في سطوته، وإلى عيسى في زهده، فلينظر إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإن فيه سبعين خصلة من خصال الأنبياء". مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول -العلامة المجلسي- ج 3 ص 12.

9- لا حظ نهج الإيمان لابن جبر ص 351 ، كتاب الشافي للشريف المرتضى ج2 ص 256 ،كفاية الطالب في مناقب عليِّ بن أبي طالب ص 155، مناقب ابن شهراشوب ج2 ص 85

10- كنز العمال -المتقي الهندي- ج 13 ص 143.

11- "ما ظننت أن أحدا يسأل عن نفسه" شواهد التنزيل لقواعد التفضيل -الحاكم الحسكاني- ج 2 ص 271.

13- المستدرك -الحاكم النيسابوري- ج 2 ص 241.

14- السنن الكبرى -النسائي- ج 5 ص 128، خصائص أمير المؤمنين (ع) -النسائي- ص 89،

15- سورة العصر.