الإمام الرضا وفتنة الواقفة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين، وخاتم النبيين، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.

أبارك لكم ذكرى مولد أبي الحسن الرضا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وبهذه المناسبة الجليلة عند الله، وعند رسوله وعند أولياء الله، والمؤمنين من عباده.

نظرة إجمالية لفتنة الواقفة:

بهذه المناسبة أودُّ أن أتحدث معكم حول فتنةٍ وقعت في الوسط الشيعيّ بعد استشهاد الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه أفضل الصلاة والسلام، في بداية تصدِّي الإمام الرضا(ع) للإمامة، هذه الفتنة هي الفتنة التي يُعبَّر عنها بفتنة الواقفية، وهي فتنةٌ تعاظمت في بداية ظهورها، وكادت أن تُحدِث شرخا بيِّناً وكبيراً في النسيج الاجتماعي الشيعي، وأن تُحدِث هزةً في معتقدات أتباع أهل البيت (ع) في مختلف مواطن سكناهم، في العراق، وفي الحجاز، وفي إيران، وفي مصر واليمن، وفي الكثير من الحواضر الاسلامية التي يقطنها الشيعة.

حاصل ما وقع بعد استشهاد الامام الكاظم (ع)، هو أنَّ جماعة ممن كان لهم وزن ثقيل في الوسط الشيعي قد ادَّعوا أنَّ الامام الكاظم(ع) لم يمت، وأنَّه حيٌّ، وسيبقى حيَّاً حتى يخرج ويملأ الأرض -شرقها وغربها- عدلا، ويقضي على الظلم، ويتولَّى شؤون المسلمين، وأنَّ كلّ مَن ادَّعى الإمامة بعد الامام الكاظم فهو كذَّاب وليس مُحقَّاً. هؤلاء كان منهم وكلاء للإمام الكاظم (ع) أو هكذا كانوا يزعمون ، فعليُّ بن أبي حمزة البطائني، وزياد الكندي، وعثمان بن عيسى الرواسي، وآخرون كانت لهم وجاهة في الوسط الشيعي، وكانوا قد صحبوا الكاظم (ع)، وأخذوا عنه العلم، لذلك استحكمت شُبهتهم عند الكثير من عوامِّ الشيعة.

سبب الفتنة:

عندما نبحث عن دوافع هذه الفتنة التي وقعت، فإننا سنجد أنَّ الباعث لظهور هذه الفتنة هو أنَّ هؤلاء الرجال كانوا وكلاء للإمام الكاظم (ع) بحسب زعمهم، وكانت تحت أيديهم أموال طائلة من الحقوق والأخماس والمظالم والزكوات، ولأنّ الإمام الكاظم (ع) كان سجيناً، وقد استمر سجنه لما يقرب أو يزيد على أربع سنوات، فكانت الناس ترجع في الأقطار الإسلامية إلى أمثال هؤلاء، الذين هم وكلاء وفي ذات الوقت كانوا علماء، ومن المعلوم أنَّه عندما يُستشهد الإمام، ويلي الأمر إمامٌ بعده، يكون اللازم عليهم أن يُسلِّموا الأموال إلى الإمام الذي يليه، ولكن عزَّ عليهم أن يدفعوا كلَّ هذه الاموال التي كانت تحت أيديهم، فمثلاً علي بن ابي حمزة البطائني كان تحت يده ما يقارب الثلاثين ألف دينار، وكان تحت يد زياد القندي سبعون ألف دينار(1)، وكان تحت يدي عثمان بن عيسى الرواسي مال كثير وستُّ جواريَ 2)، وآخرون كانت بأيديهم أموال كانت تُجمع للإمام (ع) من شتى الأقطار الاسلامية. يقول الكِشِّي (قده) -وهو أحد علماء الرجال-: (إنَّ مبدأ ظهور الوقف، هو أنَّ حيَّان بن السراج -وكان معه آخر-، كانوا وكلاء للإمام في العراق، وكانت تأتيهم أموال، قرابة الثلاثين ألف دينار، فاشتروا بها الدُّور، وعقدوا العقود، وتزوّجوا بها، ثم لمَّا أن سمعوا بموت الإمام الكاظم (ع) في السجن، أنكروا موته، وقالوا إنَّه لم يمت، فكان ذلك مبدأ ظهور الوقف)(3).

أجمع علماؤنا السابقون منهم واللاحقون على أنَّ المصدر الأساسيّ لظهور هذه الفتنة هم بعض وكلاء الإمام الكاظم (ع)، وقد أثاروا هذه الشبهة من أجل الاستحواذ على الأموال التي كانت بأيديهم -وكانت أموالاً كثيرة-، وتأكَّد أنَّ هذا هو الباعث الأصلي للشبهة التي أثاروها من اقرار بعضهم قبيل موته، فمثلاً: قال ابن السرّاج -قبيل موته- لورثته: إنَّ تحت يدي أموالاً - قرابة العشرة آلاف دينار- وهي ليست لي، هي حقوق، وأخماس، وزكوات، ومظالم، أُعطيتُها لأني وكيلٌ عن الإمام الماضي -الامام الكاظم (ع)-، فسوَّلتُ لي نفسي، فاستحوذتُ عليها، ولا أُريد أن أُصلى في جهنَّم، فارحموني يرحمكم الله، ادفعوها لأبي الحسن الرِّضا فإنَّه الإمام). هذا الشخص لأنه شعر بقرب الأجل لذلك تحرك ضميره، ولكن مجموعة من أبنائه كانوا فسقة، فلم يُسلِّموا الأموال، إلا أنَّهم اعترفوا أنَّ مُورِّثهم قد قال لهم ذلك، وحيث لم تكن هناك وثيقة تُثبت أنَّ الأموال للإمام الرضا (ع)، فمن السهل عليهم أن يستولوا عليها. هذا واحد من المؤشرات.

وهناك موقف آخر يوثِّقه علماء التأريخ، وعلماء الرجال، يونس بن عبد الرحمن -أحد علماء الطائفة، ومن أكابرهم المعروفين بالورع والتقوى- هذا الرجل عندما أظهر عليُّ بن أبي حمزة البطائني شبهة الوقف، وأنَّ الإمام لم يمت، وعندما أظهر زياد القندي شُبهة الوقف، وادّعى أنَّ الإمام لم يمت، تصدَّى يونس لفضحهم والإنكار عليهم، وأخذ يتحدَّث في الأوساط الشيعية، ويُؤكِّد ويُثبت كذبهم، وأنَّ الإمامة للرضا (ع)، وأنَّ الكاظم (ع) قد مضى إلى ربِّه. لذلك سعوا من أجل استمالته، فقالوا له: يا يونس، ما دفعك إلى ما فعلت؟ نُعطيك عشرة آلاف دينار وتسكت؟!! فغضب فقال: رَوينا أنا وأنتم، روينا عن الصادقين أنهم قالوا: إذا ظهرت البِدَع، فعلى العالم أن يُظهر علمه، فإن لم يفعل سلب نور الإيمان(4). لا أدعُ جهادكم. فأظهَروا العداوةَ له، هذا مؤشِّرٌ آخر، يُعبِّر عن الدافع الحقيقي للشبهة التي أثاروها وروَّجوا لها، وثمة مؤشِّرات أخرى -لعلنا نشير إليها إن شاء الله-.

لماذا راجت مثل هذه الشبهة في الوسط الشيعي؟

تعلمون أنَّ الظرف الذي عاشه أكثر أئمة أهل البيت (ع)، وعلى الخصوص الإمام الصادق (ع) في نهاية إمامته حينها كانت الدولة العباسية قد أحكمت قبضتها على عموم الحاضرة الإسلامية على يد أبي جعفر المنصور الدوانيقي، وبعده هارون الرشيد الذي بلغت في عهده الدولة العباسية ذروتها في الاستحكام، في هذا الظرف العصيب كان الشيعة يعيشون أسوء الظروف، فكانت السجون منهم ملأى، وكانوا يخشون على أنفسهم من أن يُنسبوا إلى الأئمة، فكان يُقال لأحدهم زنديق، ولا يقال أنَّه جعفري، شيعي! في هذا الظرف كان أهل البيت (ع) يستعملون التقَّية، ويتكتَّمون على الكثير مما يرتبط بشأنهم، وقد أثَّر ذلك على الوسط الشيعيّ، وعلى مستوى وعيه، ونضوجه، واستيعابه لقضيَّة الإمامة وبعض ملابساتها وتفاصيلها.

مثل هذه الأجواء تكون أرضاً خصبة لنشوء الشُّبهات، واستحكامها في نفوس السّوقة والعامَّة من الناس، فلذلك يمكن أنْ تروجَ الشبهة بسهولة في مثل هذه الظروف العصيبة. والإمام الكاظم (ع) -الذي يُنتظر منه أن يكون مرجعاً عندما تطرأ أيُّ شبهة- كان يقبع في قعر السجون. والذين يمكن أن يكونوا موئلاً ومرجعا يلجأ الناس إليهم عندما تعلقُ في أذهانهم شُبهة، قد غرَّت عدداً منهم الدنيا! فلمَن يلجأ الناس؟! والذي زاد الأمر سوءً هو أنَّ الشبهة قد صدرت من رجالٍ كانوا من ذوي الوزن الثقيل ومن أصحاب التمّيُّز الاجتماعي والعلمي، فذلك هو ما ساهم في استحكام الشبهة ورواجها فمثل ابن ابي حمزة البطائني، وعثمان بن عيسى الرواسيّ، أمثال هؤلاء كانوا من رجال الامام الكاظم (ع)، وكان بعضهم من رجال الامام الصادق (ع)، فبطبيعة الحال، تستحكمُ الشبهة عند عوامّ الناس، رغم وضوح فسادها ومنافاتها لما قامت عليه الأدلة القطعية.

كيف عالج الإمام الرضا (ع) هذه الفتنة؟

لقد عولجت هذه الفتنة عبر عددٍ من الوسائل، منها:

تصدي مجموعة من أكابر علماء الشيعة لدرء هذه الفتنة -كيونس بن عبد الرحمن، وآخرين- فقد ساهموا الى حدٍّ كبير، ومن خلال مناظراتهم ومحاوراتهم، ساهموا في معالجة هذه الفتنة، فكانت تُعقد لهم مناظرات مع رؤوس الوقف، وكانت لهم مواعظ، وإرشادات، وبيانات مع الناس.

والامام الرضا (ع) قد تصدَّى أيضاً لمثل هذا الدَّور، إلا أنَّه ونظراً لكونه المدَّعى عليه من قِبل رؤوس الوقف لذلك كان المناسب أنْ يتصدَّى العلماء من أصحاب الكاظم (ع) لمعالجة هذه الفتنة. ولهذا نحا الإمام الرضا (ع) منحىً آخر في معالجة هذه الفتنة، فكان يُظهِر لهم من خلال الكرامات والإخبار عن المُغيَّبات صحَّة دعواه، فكانوا يجدون لدعائه إجابةً سريعة، وكانوا يجدون لإخباراته عن الغيب تحقُّقاً كفلق الصُّبح وكانت تظهرُ على يده الكرامات الباهرة، فإذا رجع الشيعة نقلوا ما شاهدوه، وقالوا هذا مثلُ أبيه، مستجاب الدعوة ويُخبرُ عن ظهر الغيب فتُصدِّقُ الوقائع خبره، فكانت هذه المواقف والكرامات التي أخذت تنتشر وتذيع في الوسط الشيعي قد ساهمت في انحسار هذه الفتنة.

وهناك أمر آخر، ساهم أيضاً في انحسار هذه الفتنة، وهو أنَّ هذه الشُبهة لم تكن في نفسها مقتضية للاستمرار، فهي لا تحمل في نفسها مقوِّمات البقاء والاستحكام؛ لأنَّ مثيريها لم يجدوا لها ما يدعمها من مُبرِّرات عقلائَّية، أو شرعيَّة، أو نصوص، أو ما إلى ذلك.

مناظرة رؤوس الوقف:

ويمكن الوقوف على ذلك من ملاحظة المناظرات التي عقدها الإمام (ع) مع رؤوس الوقف كعليّ ابن ابي حمزة البطاني، وابن السرَّاج، وابن المكاري، وعثمان بن عيسى الرواسيّ، وغيرهم، وهي مناظرات عديدة، ننقل نموذجاً، منها: فقد روي أن جماعة منهم "دخلوا عليه، فقالوا له: أين الكاظم؟ فقال (ع): قد مضى. لطول المناظرة نأخذ فقرةً منها قالوا: ومَن بعده؟، قال (ع): أنا بعده بالنصّ، وبالدليل الذي تطلبونه. قالوا: إنّ الإمام مات في بغداد، وأنت في الحجاز، وقد روينا عن آبائك أنَّ الإمام لا يلي أمره إلَّا إمام. وأين أنت، وأين هو؟! قال (ع): ألا تقولون بإمامة الحسين الشهيد؟ قالوا: بلى، الحسين إمام. قال (ع): ومن وليَ أمره؟، قالوا: الإمام السجاد. قال: كيف يلي أمره، وقد كان أسيراً بيد عُبيد الله بن زياد في الكوفة، وكان الحسين في كربلاء؟ قالوا: إنَّ الله -عزّ وجلّ- هيَّأ له أن يتخلَّص من الحبس بقدرته، ثم ذهب إلى كربلاء، وَوليَ أمر أبيه. قال (ع): إذا كان ذلك قد وقع للسجَّاد، وقد كان أسيراً، وعليه العيون، فلم يشعروا به إلَّا وقد ذهب إلى كربلاء، وولي شأن أبيه الحسين (ع)، لماذا تُنكرون عليّ أن أذهب إلى بغداد، وألي أمر أبي، ولستُ أسيراً، ولا مراقباً، أليست هذه مكابرة؟! (5) فكانت تلك المناظرات والكرامات من العوامل ومن الوسائل التي اتَّخذها الإمام(ع)؛ من أجلمحاصرة هذهالفتنة، والقضاء عليها.

ومن الوسائل التي اعتمدها الإمام (ع) لمعالجة هذه الفتنة هو أنَّه أمر الشيعة بمقاطعهم، وعدم الجلوس معهم، ومما يعبَّر عن ذلك ما ورد في إحدى الروايات أنَّ الإمام الرضا (ع) كان قد دخل عليه محمد بن عاصم، وكان من أقطاب الشيعة، فقال له الإمام: (بلغني أنَّك تُجالس الواقفة. فقلتُ: نعم، جُعلتُ فداك، أجالسهم وأنا مخالفٌ لهم. فقال لا تجالسهم، فإنَّ الله -عز وجل- يقول: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ﴾(6). فكانت هذه الوسيلة تستهدف عزلهم عن المجتمع؛ حتى يقِلَّ تأثيرُهم، ولعلَّ بعضهم يرجع، وقد رجع الكثيرُ منهم طبعاً.

أهل البيت (ع) تصدّوا لهذه الفتنة قبل حدوثها:

فتنة الواقفة رغم أنها أحدثت هزةَّ قويَّة في الوسط الشيعيّ، إلَّا أنّها انحسرت؛ بمجهود الإمام الرضا (ع)، وبمجهود جماعةٍ من أكابر وعظماء علماء الشيعة المعاصرين للإمام الرضا (ع)، ومن المُلفت للمتأمل هو تصدِّي أهل البيت (ع) قبل الإمام الرضا (ع)- لمعالجة هذه الفتنة قبل نشوئها.

فمن ذلك ما نلاحظه من تصدِّي الإمام الصادق (ع) لبيان أمرٍ قد لا يكون مفهوماً في زمانه، حيثُ قال (ع): قال رسول الله (ص): "سيُدفن بضعةٌ منِّي في خراسان، لا يزورها مؤمنٌ إلا أوجب اللهُ عزَّ وجل له الجنَّة وحرَّم جسده على النار"(7). فهذا تأكيد غريب على زيارة الإمام الرضا (ع)، وثمة رواية أخرى يرويها الصدوق بسنده عن الحسين بن زيد قال: "سمعتُ أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع) يقول: يخرج رجل من ولد ابني موسى اسمه اسم أمير المؤمنين (ع) إلى أرض طوس وهي بخراسان يقتل فيها بالسم فيُدفن فيها غريبا ، من زاره عارفا بحقه أعطاه الله عز وجل أجر من أنفق من قبل الفتح وقاتل"(8).

مثل هذه التأكيدات قد لا تكون الغاية منها مُدرَكه قبل فتنة الوقف إلا أنَّ الغاية منها قد تبينت بعد فتنة الوقف وأنَّ الإمام الصادق (ع) أراد من هذا البيان الاستباقي التفنيد للدعوى التي سيثيرها الواقفة لغرض التشكيك في إمامة الإمام الرضا (ع) على أنَّ للنصوص الكثيرة عن الإمام الصادق والكاظم والمصرِّحة بإمامة الإمام الرضا (ع) كان لها الدور الأبلغ في سقوط دعوى الواقفة.

هدفنا من طرح هذا الموضوع:

فتنة الوقف قد انحسرت، وانتهت ولم يعد لها أثر، فلماذا نتعرَّض للحديث عن هذه الفتنة الآن؟

الهدف من تعرّضنا لهذا الموضوع هو أنّ هناك شُبهتين قد تَعلقان في الذهن فيما لو اطلع أحد الإخوة على تأريخ فتنة الوقف، وسنحاول أن نعالجهما بأقصى سرعة:

الشُّبهة الأولى:

هي أنَّه لماذا عيَّن الإمام الكاظم (ع) هؤلاء الوكلاء وهو يعلم واقعهم، وما سيؤول إليه أمرهم؟ أليس من المناسب أن يُعيِّن رجالاً يضمن ثباتهم على الحقّ؛ حتى لا يُساهم ذلك في إحداث مثل هذه الفتنة، ونشوء هذه الشُّبهة الخطيرة التي كادت أن تُفتِّت المجتمع الشيعي؟

الجواب:

ونجيب عن ذلك بجوابين موجزين، أحدهما نَقضي، والآخر حَلِّي:

أولاً: الجواب النقضي:

هو أنَّ النبي (ص) كان قد عيَّن رجالاً في وظائفَ ذاتِ شأنٍ عام فانحرفوا. فالوليد بن عقبة -مثلاً- بعثه النبيُّ (ص) إلى بني المصطلق؛ ليجبي من عندهم الزكوات. هذا الرجل ذهب، ثم رجع فكذب كذبةً كادت أن تودي بقبيلةٍ كاملة! قال: إني ذهبت إليهم فامتنعوا عن دفع الزكاة، وقالوا إنهم لا يؤمنون بك، ولا يُصدِّقونك، وإنهم ارتَّدوا بعد إسلامهم. فنزل قوله تعالى، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾(9).

المثال الآخر: هو خالد ابن الوليد بعثه النبي (ص) بعد فتح مكة إلى قومٍ، ولأنَّه كانت بين هذا الرجل وبينهم نوع من المخالطة والعلاقة، قال له أنت أنسب، اذهب لهم وادعهم للدين وإلى الاسلام، -ولعلّه كان يمتحنه في إخلاصه-. هذا الرجل ذهب في سريةٍ، وحين وصل ضيَّفوه وأكرموه وأكرموا مَن معه، ثمَّ عدا عليهم، فقتل رجالهم، وأخذ غنائمهم!! بدويّ متوحِّش، لم يستحكم الاسلام في نفسه. وحين وصل الخبر إلى النبي (ص) عن طريق بعض من كان مع خالد انزعج انزعاجاً شديداً، فبعث عليّاً (ع)، فدفع الدِّية لأهل القبيلة، ووبَّخ هذا الرجل توبيخاً شديداً، ولولا أنَّهم قبلوا بالدِّية لاقتصَّ منه النبي (ص)، لكنهم قَبلوا بالدِّية، فدفع إليهم الإمام الدِّية مُضاعفة.

فالجواب الذي تُجيبونه عن منشأ تعيين النبي (ص) لرجال انحرفوا يصلح جواباً للمقام. انَّ أيَّ جوابٍ تختارونه، فنحن نقبله جواباً عن منشأ تعيين الإمام الكاظم (ع) لأمثال هؤلاء ، هذا هو الجواب النقضيّ، وله شواهد كثيرة في سيرة النبي (ص).

ثانياً: الجواب الحَلِّي:

ويتضح الجواب بملاحظة نقطتين:

النقطة الأولى: إنَّ الإمام عندما عيَّنهم وكلاء -على فرض أنَّه عيَّنهم- لم يقل للناس أنهَّم معصومون، كان من الواضح جداً أنَّ العصمة لأشخاصٍ محدَّدين فهم الذين لا ينحرفون، أما غير المعصوم فله قابلية الانحراف وعدم الثبات، وهذا ينسحب على كلِّ أحدٍ، على العالم والجاهل، على الوجيه والوضيع ، فكلُّ من لم يكن معصوماً، يمكن أن يثبت، ويمكن أن ينحرف، فلماذا لا ينحرف هؤلاء؟! الإمام (ع) إنما عيَّنهم لأنَّهم كانوا على ظاهر الصَّلاح، ولعلهم كانوا كذلك، واقعاً، ثم انحرفوا بعد أن غرَّتهم الدنيا، وكم لذلك من مصاديق في التاريخ البشري، إنَّ الإنسان يبدأ مؤمنا تقيّاً، ثم يعرض له الانحراف، فهذا ما حصل لمثل علي بن ابي حمزة البطائنيّ، وغيره من رؤوس الوقف. فهم حينما عيَّنهم الإمام (ع) كانوا من أهل الصلاح والإيمان ثم إنَّ الدنيا غرَّتهم فانحرفوا عن خط أهل البيت (ع).

النقطة الثانية: إن الوكالة في بعض الأحيان لا تنشأ عن تعيين الإمام ابتداءً، فقد يتفق لرجلٍ أن يكون وجيهاً في مجتمعه وعالماً وله صحبة طويلة مع الإمام فيحظى لذلك بثقة الناس، لذلك يُكلِّفونه بإيصال الحقوق التي عليهم للإمام (ع)، ويستمر الأمر على هذا الحال برهةً من الزمن فيتوهم الناس أنَّه وكيل من قبل الإمام (ع) فلا يرى الإمام مصلحة في نفي ذلك، ولا يبعد أن ذلك هو ما كان عليه واقع حال رؤوس الوقف إذ لم يثبت أنهم كانوا وكلاء بتعيينٍ من الأمام الكاظم (ع) ابتداءً.

والمتحصل أنَّ الوكالة حتى وإن كانت صادرة ابتداءً عن الإمام (ع) فإنها لا تقتضي الكشف عن ضمان عدم انحراف الوكيل حتى في مستقبل الزمان، بل هي لا تكتشف عن أكثر من وثاقة الوكيل وأنه على ظاهر الصلاح ، وذلك واضح عند عقلاء المؤمنين، لذلك لا يكون موجباً عندهم للوقوع في أدنى شبهة.

الشُّبهة الثانية:

يقال إنَّ المذهب الإمامي الإثنى عشري لم يكن حينذاك متبلوراً في الذهنية الشيعية، لذلك نلاحظ أنَّ مثل هذا الشبهة وجدت لها سوقاً رائجة في الوسط الشيعي، وإلا لو كان المذهب متبلوراً لما كان لمثل هذه الشبهات من أثرٍ أصلاً.

الجواب:

لابدَّ من أن تكون المقدمة حول الظروف السياسية التي بدأنا بها الحديث حاضرة في الذهن فبها يتضح أحد مناشئ رواج مثل هذه الشبهات، هذا أولاً، ثم إنه ليس صحيحاً أنَّ كلَّ مسألة واضحة ومحقَّة لا تكون مورداً للشبهة فمثلاً مسألة التوحيد، وهل يوجد ما هو أوضح من عقيدة التوحيد؟ وأنَّ الله عزَّ وجل خالق الخلق، وهو الواحد الأحد؟ فرغم ذلك فإنَّ الكثير من الشبهات قد أُثيرت حول هذه العقيدة وتجد أنَّ الكثير من السّوقة والعوامّ والبسطاء يقبل بهذه الشبهات، بل إنَّ هذه الشبهات تنطلي -بعض الأحيان- حتى على بعض المحسوبين على أهل العلم! فليست هناك ملازمة بين وضوح الشيء، وعدم طروء شبهةٍ عليه. فقد يكون الشيء واضحاً جليّاً، ولكن يتنكَّر له بعضُ الناس أو يقعون فريسةً لشبهةٍ يُثيرها المضلِّون ممن يُحسنون الجدل والمغالطة والتعمية على الحقَ، فليس كلُّ الناس يملكون من الوعي والمعرفة والنظر الثاقب ما يُحصِّنهم من الوقوع في شَرَك المضلِّين لذلك تروج الشبهات بين أمثال هؤلاء وهم كثيرون في كلِّ مجتمع، فرواج شبهةِ الوقف في بدايات عهد الإمام الرضا (ع) لا يعبِّر عن عدم تبلور المذهب الإمامي وحقانية متبنياته وإلا كان رواج الشبهات على أصول العقيدة مقتضياً لذلك أيضا!!

والمتحصَّل أنَّه لا ملازمة بين وضوح الشيء وحقانيَّته وصوابيَّته، وبين عدم عروض أيِّ شُبهةٍ عليه. فعليُّ ابن أبي طالب (ع) كان إماما حقّاً، والروايات المتواترة التي نصَّت على إمامته أوضح من الشمس، والآيات، والمواقف، والملكات التي كانت تختزنها شخصية عليِّ (ع) هي من الجلاء بحيث لم يكن ينبغي خفاؤها على أحدٍ إلا أنَّ كلَّ ذلك لم يدفع اشتباه الكثير من الناس! ممن عاصره ومن جاء بعده، وذلك إنما نشأ عن قصورٍ في اطلاعهم أو عن حسن الظنِّ في رجالٍ كانوا على ظاهر التقوى والورع وشدة التمسُّك بسنة النبي (ص) إلا أنَّ واقع حالهم كان على خلاف ذلك فقد كانوا من المنابذين لسنةِ النبيِّ (ص) والماقتين لعليٍّ وأهل البيت (ع) فحسن الظن في هؤلاء الرجال كان منشأً لضلال الكثير من خلق الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور


1- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج 2 ص 103.

2- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج 2 ص 104.

3- (نص الرواية): كان بدؤ الواقفة أنه كان اجتمع ثلاثون ألف دينار عند الأشاعثة زكاة أموالهم وما كان يجب عليهم فيها، فحملوا إلى وكيلين لموسى عليه السلام بالكوفة أحدهما حيان السراج، والاخر كان معه، وكان موسى (ع) في الحبس، فاتخذا بذلك دورا وعقدا العقود واشتريا الغلات. فلما مات موسى عليه السلام وانتهى الخبر إليهما أنكرا موته، وأذاعا في الشيعة أنه لا يموت لأنه هو القائم فاعتمدت عليه طائفة من الشيعة وانتشر قولهما في الناس، حتى كان عند موتهما أوصيا بدفع ذلك المال إلى ورثة موسى عليه السلام، واستبان للشيعة أنهما قالا ذلك حرصا على المال. اختيار معرفة الرجال -الشيخ الطوسي- ج 2 ص 760.

4- (نص الرواية): لما مات أبو الحسن (ع) وليس من قوامه إلا وعنده المال الكثير فكان ذلك سبب وقفهم وجحودهم لموته وكان عند زياد القندي سبعون ألف دينار وعند بن أبي حمزه ثلاثون ألف دينار قال: فلما رأيت ذلك وتبين لي الحق وعرفت من أمر أبي الحسن الرضا عليه السلام ما عرفت تكلمت ودعوت الناس إليه قال فبعثا إلي وقالا لي: ما يدعوك إلى هذا؟ ان كنت تريد المال فنحن نغنيك وضمنا لي عشره آلاف دينار وقالا لي: كف فأبيت فقلت لهما: انا روينا عن الصادقين عليهما السلام انهم قالوا: إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه فإن لم يفعل سلب نور الايمان وما كنت لأدع الجهاد في أمر الله عز وجل على كل حال فناصباني وأظهرا لي العداوة. عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج 2 ص 103.

5- اختيار معرفة الرجال -الشيخ الطوسي- ج 2 ص 763.

6- سورة النساء / 140.

7- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج1 ص286.

8- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج 1 ص 285.

9- سورة الحجرات / 6.