سهمُ المُؤلَّفة قلوبُهم هل هو رشوة أو وشراءٌ للذمم!

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد

 

الشبهة:

﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(1).

إنَّ إعطاء المؤلَّفة قلوبُهم من مال الزكاة عبارة عن رشوة تستقبحُها الضمائر النزيهة وتستهجنها العقول بل هو من أسوأ أنواع الرشوة والشراء للضمائر، فهل عجز الإسلام أنْ يُقنع الناس بالبراهين لذلك استعمل الزكاة لشراء الضمائر والذمم؟!

الجواب:

إنَّ تشريع إعطاء سهمٍ مِن الزكاة للمؤلَّفة قلوبُهم ليس من الرشوة في شيء لكنَّ صاحبَ الشبهة أراد من توصيف سهم المؤلَّفة بالرشوة التلبيسَ على القارئ واستغفالِه طمعًا في النكاية بدينِ الله تعالى وزرع الاستيحاش في قلوب أتباعه ممَّن لا دراية لهم بتفاصيل الشريعة وملاكاتها، وهذه الوسيلة إنَّما يتوسَّلُ بها من أعيته الحيلةُ واستعصى عليه الوقوفُ على مدخلٍ يلجُ منه للطعن على الدين لذلك فهو يلجأُ للتدليس والخداع فيضعُ الأمور في غير نصابِها ويسمِّي الأشياء بغير أسمائِها.

فالرشوةُ التي لا ريبَ في بشاعتِها وقبح التعاطي لها تعني تقديم المال أو شبهه - ممَّا ترغبُ فيه النفوس- لمتنفِّذٍ طمعًا في مؤازرتِه على الاستحواذ على مالٍ غير مُستحَقٍّ أو الكسبِ لقضيَّةٍ لا يستحقُّ الكسبَ لها أو الغضِّ عن حقٍّ عليه لخصمه أو ما أشبه ذلك من الأغراض الدنيئة التي لا يتيسَّر للراشي التحصيل لها إلا من طريق إغراء المتنفِّذ واستمالتِه.

فالمُتنفِّذ قد يكون قاضيًا يملكُ من السلطة أنْ يحكم في أموال الناس وأعراضِهم ودمائهم ويكونُ حكمُه نافذًا، والسلوك الذي يتعيَّن على القاضي أنْ لا يحيد عنه أيَّاً كانت الظروف هو النظر في الخصومات المرفوعةِ إليه بمنتهى الحياديَّة، ويستفرغُ وسعَه في التثبُّت من أدلَّة الطرفين أو الأطراف بقطع النظر عن هويَّة أطراف الخصومة ثم يحكمُ وفق ما تقتضيه أدلَّة الإثبات والنفي، فلو قدَّم أحدُ أطراف الخصومة للقاضي مالًا أو حاباه في معاملةٍ طمعًا في استمالة القاضي ليحكم لصالحِه فهذا الذي قدَّمه للقاضي فقبِلَه يُعدُّ من الرشوة.

ومنشأ الاستهجان والقبح للرشوة هو ما يترتَّبُ عليها من الظلم، فقد يحكمُ القاضي للراشي بحقٍّ أو مالٍ ليس له، وقد يغضُّ الطرْفَ عن حقٍّ هو عليه، وقد يحكمُ على خصمِه بما لا يستحقُّ فيزجُّ به في السجن لجنايةٍ لم يفعلها أو يُلزمُه بغرامةٍ لم يصدر منه ما يُوجبُها أو يحكم بمصادرةِ أمواله أو تطليقِ زوجته دون وجهِ حقٍّ أو يحرمُه من حقٍّ هو له، وقد يقضي عليه بقصاصٍ أو حدٍّ أو تعزيرٍ دون أنْ يكونَ قد ارتكب ما يُوجبُ شيئَاً من ذلك، كلُّ ذلك نشأ عن قبضِه من أحد أطراف الخصومة أو مَن يتَّصلُ به مالاً ليحكم لصالحه أو للإضرار بخصمِه.

وقد يكونُ المتنفِّذ سلطانًا أو موظَّفًا قد أُعطيتْ له سلطةٌ على شأنٍ من الشؤون، فحين يقبضُ مالًا من أحدٍ ليغضَّ الطرف عن حقٍّ هو عليه وهو مكلَّف بتحصيلِه منه أو يقبضُ مالًا مقابل المُساندة للمعطِي في تحصيل مالٍ أو منفعةٍ أو منصبٍ أو وظيفةٍ لا يستحقُّها المعطِي وهي من حقِّ غيره أو يقبضُ مالًا وشبهه مقابلَ المؤازرة للمعطِي في النكاية أو الإضرار بطرفٍ آخر أو ما أشبه ذلك من صور الظلم والفساد، فإنَّ هذا المال يُعدُّ من الرشوة، والتعاطي لها يُفضي إلى ضياع الحقوق والتبوأ لمواقع على غير أهليَّة وذلك هو أحدُ أهمِّ أسباب فساد الأنظمة.

فهذه هي الرشوة، وتلك هي مناشئُ قبحها واستبشاع العقلاء لها، وقد تصدَّت النصوص الدينيَّة المستفيضة الواردة عن الرسول الكريم (ص) وأهلِ بيته (ع) للتنشنيع والتحذير المشدَّد مِن تعاطِي الرشوة واعتبرت الرشوة في الحكم على حدِّ الكفر بالله العظيم(2)، ولا أعرفُ فيما أعلم أنَّ دِينًا أو نظامًا شدَّد النكير على مُتعاطِي الرشوة كما هو دين الإسلام، وقد تصدَّى الفقهاءُ على اختلاف مذاهبِهم وطبقاتهم للتفريع على النصوص الواردة في تحريم الرشوة والشرح لمفاداتها والبيان لمواردها ومصاديقها.

وبقليلٍ من التأمُّل والإنصاف يتبيَّن أنَّ إعطاء المؤلَّفة قلوبُهم سهمًا من الزكاة لا يمتُّ للرشوة بصلةٍ قريبةٍ أو بعيدة، فسهمُ المؤلَّفةِ قلوبُهم من الزكاة يُعطى لصنفين من الناس:

الصنف الأول: هم الذين أسلموا حديثًا.

الصنف الثاني: هم كفارٌ يُعطون من الزكاة ليُسلموا فينعموا بالهداية أو يكفُّوا بإسلامِهم شرَّهم عن الدين وأهلِه أو يُستدفعُ بهم شرور كفَّارٍ آخرين، فهم يُعطَون من الزكاة وإنْ لم يُسلموا، وذلك ليُستعان بهم على دفع عدوٍّ للمسلمين أو جلب منافع لهم.

فالغرض من دفع الزكاة للصنفين هو كسبُ مودَّة من تُعطى لهم الزكاة إمَّا للحرص على هدايتهم وإمَّا لكفاية شرِّهم أو لضمان مؤازرتِهم على دفع عدوٍّ للمسلمين أو تشجيعهم على الانخراط في صفوف المؤمنين، وشيءٌ من ذلك لا يدخلُ في دائرة الرشوة كما سيتَّضح.

أما الصنف الأول: وهم اللذين أسلموا حديثًا فالغرضُ من تشريع إعطائهم من الزكاة هو إمَّا تشجيعهم على الانخراط في صفوف المؤمنين أملًا في أنْ يُفضي ذلك إلى تقويَّة إيمانهم ولو بعد حين، وإمَّا أنْ يكونَ الغرضُ هو كفاية شرِّهم أو الاستعانة بهم على دفع عدوٍّ من الكفَّار المحاربين.

أمَّا إعطاء الزكاة لمَن أسلم - تحصيلًا للغرض الأول- فليس فيه ظلمٌ لأحدٍ، ونفعُ هذا المال يعودُ على المُعطَى، فهو ينتفعُ بالمال وفي ذات الوقت يَنتفِعُ بانخراطِه في صفوف المؤمنين والذي قد يُفضي لهدايته وتثبيت إيمانه، وأمَّا المُعطِي فهو لا ينتفعُ من الإعطاء بشيء، وذلك على خلاف طبع الرشوة التي يُقدِّم فيها الراشي مالاً لتحصيل مالٍ أكثر أو منفعةٍ أعظم.

ويمكن التنظير لهذه الصورة بما لو قدَّم الأب لابنه هديةً جزيلة لتشجيعه على مواصلة تحصيله العلمي، فقد يجدُ الأب في ابنه تلكُّؤًا أو تكاسلًا وتبرُّمًا من مواصلة التحصيل العلمي، فلأنَّه حريصٌ على أنْ يتبوأ ولدُه موقعًا علميًّا متميِّزًا لذلك يعملُ على تشجيعه بمختلف الوسائل التي تُسهم لدى العقلاء في التحفيز والشحذ للهِمم، وكذلك لو كان الأب حريصًا على أنْ يُغيِّرَ ابنُه سلوكًا يراه سيئًا فيُقدِّم له المحفِّز تلوَ المحفِّز لحثِّه على ترك ذلك السلوك السيء والاستعاضة عنه بسلوكٍ حسن، فهل يعدُّ ذلك من الرشوة؟!

إنَّ إعطاء الزكاة لمَن هو حديث عهدٍ بالإسلام لتأليفه وتشجيعه لا يختلفُ عن الصورة التي نظَّرنا بها بل هي أشدُّ وضوحًا منها في عدم صدق الرشوة عليها لو أحسنَّا الظنَّ بالدين، فالمشرِّعُ لسهم المؤلَّفة هو اللهُ تعالى والذي لا ينتفعُ مِن إسلام مَن أسلم، فالخيرُ كلُّ الخيرِ، والنفعُ كلُّ النفع إنَّما هو متمحِّض لمَن أسلم وجهَه لله جلَّ وعلا، يقول الله تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾(3) ويقول تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾(4) ويقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾(5) وكذلك فإنَّ الرسول الكريم (ص) لا ينتفعُ مِن إسلام مَن أسلم، فمحمَّد (ص) هو بالدرجة الأولى رسولٌ من عند الله تعالى مكلَّفٌ بالسعي لهداية الناس إلى دين الله وتوحيدِه وإرشادهم وتبصيرهم وانتشالهم من ضلالات الجاهليَّة ووحشيتها، فهو حين يسعى جاهدًا لهداية أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس لا يبتغي من ذلك الاستكثار من الأتباع وإنَّما الاستكثار من الموحِّدين النابذين للشِرك ومساوئ الجاهليَّة شأنُه في ذلك شأنُ الأنبياء وليس شأن القادة السياسيين أو العسكريين، لذلك كان حريصًا على هداية الفقير والغني على حدٍّ سواء، والوجيه والوضيع، والقويِّ والضعيف، ومَن يكون إسلامُه عبئًا على المسلمين ومَن يكون إسلامُه مقويَّاً لشوكة المسلمين، يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾(6).

فكان يعزُّ عليه تعنُّت المشركين ومكابرتهم وكان حريصًا على هدايتهم واستقامتهم، لذلك كان يتوسَّل بكلِّ وسيلةٍ مباحةٍ ومُتاحةٍ من أجل أنْ يُصغوا إلى دعوته ويتعرَّفوا على ما يَرمي إليه من استنقاذهم من براثن الجهل ورذائل الجاهليَّة التي هُمْ عليها، ولم يكن هؤلاء جميعًا يُحسن الإصغاء للبراهين أو تجتذبهم القِيم التي يدعو إليها بل كان فيهم مَن يرى مناقضة هذه القِيم لمصالحِهم وأهوائهم، فمثلُ هؤلاء دخل الكثيرُ منهم في الإسلام على غير قناعةٍ تامَّة بل لأنَّهم لم يجدوا طريقًا لمناهضته ومقارعته بعد أنْ قويت شوكتُه أو لأنَّهم وجدوا أنَّ التعقُّل يقتضي الدخول فيما دخل فيه الناس، فمثلُ هؤلاء لم يُصغوا يومًا لبرهان ولا حدَّثوا أنفسَهم بمراجعة موقفِهم من هذا الدين لذلك دخلوا في هذا الدين شُكَّاكًا يُبطنون الزهد فيه وعدم القناعة به لأنَّهم لا يجدون فيه ما يجتذبهم أو يبعثُهم على مراجعة موقفِهم منه سوى التعاطي معه على أنَّه واقعٌ فرَضَ نفسه، فمثلُ هؤلاء اللذين دخلوا الإسلام من هذا الطريق مشمولون لعطف النبيِّ (ص) ورأفته وحرصه على هدايتهم، فهم حين يجدون إكرامًا وحفاوةً وإحسانًا وتجاوزًا عن عداوةٍ قد خلَتْ فإنَّ ذلك -وكما هو مقتضى طبع الإنسان- سيبعثُ فيهم شعورًا مُلحًّا بمراجعة أنفسِهم ومواقفهم وسيحدو بهم ذلك إلى أنْ يُصغوا إلى ما كانوا يتعمَّدون الإعراض عن سماعه فضلًا عن التأمُّل فيه، وحينذاك قد يُفضي بهم التأمُّل والمراجعة إلى أنْ يُصبحَ الشكُّ الذي يعتلجُ في قلوبهم يقينًا والزهدُ الذي يُبطنونه حبًّا ورغبةً وعشقًا لهذا الدين ومبادئه، فالموعظةُ حين تطرقُ قلباً نافرًا لا ينتفعُ منها بشيء ويظلُّ العقلُ مُقفلًا أمام كلِّ برهان وإنْ كان ساطعًا إذا كان مصدرُه رجلًا بغيضًا، تلك هي طبيعةُ الإنسان، فكانت الغايةُ من إكرامِهم هي تأليفهم وإزالة الوحشة من قلوبِهم لعلَّ ذلك يبعثُهم على إعادة النظر، فتلك هي الغايةُ من اكرامهم وإعطائهم من سهم المؤلَّفة قلوبُهم، فأين الرشوة من ذلك؟!!

فلو أنَّ معلِّمًا نبيلًا مُخلصًا لمهنتِه ومحبًّا لتلامذتِه فلو أنَّه كان يحبوهم بالجوائز والحوافز والمكافئات طمعًا في شحذ هِممِهم وتشجيعهم على الجدِّ والمثابرة هل يُعدُّ ما يفعلُه مُستهجَنًا وداخلًا في حيِّز الرشوة؟!! وهل يصحُّ القولُ إنَّ هؤلاء لا يستحقُّون التكريم لأنَّ جِدَّهم ومثابرتهم كان عن طمعٍ في المكافئة؟! أو يُقال إنَّهم ونتيجة قلَّة وعيهم وضيق أُفقِهم كانوا لا يُدركون أهميَّة التحصيل العلمي فحين طمعوا في الحوافز جدَّوا، وحين جدَّوا أدركوا، وبعد أنْ أدركوا أهميَّة العلم وذاقوا حلاوته أصبحوا وليس لهم من باعثٍ على التحصيل إلا الإدراك لأهميته والرغبة الجامحة في الاستزادة منه، فبدأوا طامعين في مصالحَ ضيِّقة وانتهى بهم المطاف إلى حبِّ العلم لذاته والحرصِ الشديد على تحصيله، فهل يُلام معلِّمُهم على مكافئتهم في أول الأمر أو يستحقُّ الإكبار والإجلال؟!

كذلك هو الشأن في إعطاء الزكاة لحديثي العهد بالإسلام واللذين لم يتمكَّن الإيمان من قلوبهم فإنَّ ذلك لم يكن عن قصورٍ في قابليَّة الإسلام وبراهينه للإقناع بل لأنَّ حائلًا يحولُ دون الإصغاء بقلوبِهم ومحضِ عقولهم لآياته وحُججِه وبراهينه، هذا الحائل هو مثل الإستيحاش من أمرٍ كانوا قد ألِفوا غيرَه وشاخوا وهم يأنسون به أو أنَّ الحائل هي العداوة التي خلَّفتها الأيامُ وأكَّدتها الأحداث الخالية، وقد يكون الحائل هي الخشية من أنْ لا يتمكَّنوا من الانخراط في صفوف أتباع هذا الدين الجديد بعد أنْ تخلَّفوا طويلًا عن الالتحاق بركبِه أو كان لهم من المواقف ما يسوء أتباعه أو غير ذلك من المناشئ التي قد تحول دون الإصغاء بصدقٍ لآيات الدين وبراهينِه، فحين يجدون الحفاوة والإكرام وحرص الدين على تأليفِهم فإنَّ ذلك قد يُسهمُ في رفع ما يجدونه من استيحاش وحينذاك ينتفي ما يحولُ دون مراجعتِهم الصادقة لموقفِهم من هذا الدين، فأين هي الرشوة من اكرامهم وإعطائهم من الزكاة حرصًا على هدايتهم وانتشالهم من وحل الجاهليَّة التي كانوا عليها؟! وأين هو الشراء للذمم كما يزعمُ صاحب الشبهة؟!! فهل المطلوب منهم مقابل اكرامهم وإعطائهم من الزكاة أن يبيعوا قيم الإنسان أو ينسلخوا عن إنسانيتهم أو أنْ يمالئوا على الظلم أو ينقضوا عهودًا قد أبرموها؟! أليس ذلك هو معنى الشراء للذمم؟ فهل شيءٌ من ذلك أو شبهه مطلوبٌ منهم مقابل إعطائهم من الزكاة؟ وهل كانت القيم التي كانوا يتعاطونها قبل الإسلام خيرًا من القيم التي جاء بها الإسلام؟! وهل كان الدين الذي يعتقدونه أقرب للفطرة من الدين الذين صاروا إليه؟! قليلًا من الإنصاف.

أليست الغاية من إكرامهم وإعطائهم من الزكاة هي الحرص على أنْ يألفوا - بعد الإستيحاش- قِيم الدين والتي هي العدلُ والإنصاف والمساواة والإحسان والأخوَّةُ والسلام وبرُّ الوالدين وصلةُ الأرحام والرعايةُ للحقوق ونبذُ الفواحش والرذائل والعدوان والعصبية والاستعلاء والخديعة والمكر وأكلُ أموال الناس بالباطل واحتقارُ الضعيف وامتهانُ الفقير وأكلُ مال اليتيم والسجودُ للأصنام والاستقسام بالأزلام، فهل التشجيع على تمثُّل القِيم الفاضلة يُعدُّ من الشراء للذمم؟!!.

هذا ما يتَّصل بالغرض الأول، وأما إعطاء الزكاة لمَن أسلموا حديثًا تحصيلًا للغرض الثاني وهو الكفاية لشرِّهم أو الاستعانة بهم على دفع شرور الأعداء فهو كذلك ليس من الرشوة في شيء، فمَن أسلم حديثًا قد يدفعُه عدم تمكُّن الإيمان من قلبِه إلى مكايدة الإسلام وأهلِه خصوصًا إذا كان من ذوي الوجاهات والنفوذ، ولأنَّ الدافع الأقوى لمكايدة الدين وأهله عند أمثال هؤلاء هو الطمعُ في المال لذلك فإنَّ إعطاءهم من الزكاة وشبهها قد يصرفُهم عن التفكير في الكيد بالمسلمين والتحالف مع أعدائهم لأنَّه إذا كان غرضُهم تحصيل المال فإنَّهم قد أدركوا غرضَهم دون تكبُّد عناءِ المكايدة وما يكتنفُها من المجازفة، فمقتضى تعقُّلِهم هو أنْ يكفُّوا شرَّهم بعد أنْ أدركوا غايتهم.

قد تقول: إنَّ أمثال هؤلاء لا يستحقُّون الإكرام والمكافأة، فأقولُ إنَّهم لا يستحقُّون ولكنَّ المسلمين يستحقُّون وكيانُهم يستحقُّ الرعايةَ والحياطة من شرور هؤلاء ومكرِهم، فإعطاؤهم من الزكاة ليس لأنَّهم يستحقُّون بل لأنَّه سبيلٌ من سُبل الرعاية لمقدَّرات المسلمين ومصالحِهم، فصرفُ شيءٍ من الزكاة عليهم أيسرُ من تبعات طردِهم أو التضييق عليهم، وهذا ليس من الرشوة في شيءٍ، فحين يُبتلى أبٌ بولدٍ مشاكس سيء الخُلق يؤذي إخوته وجيرانه ويسرقُهم أو يبتزُّهم -لفرط جشعه- أو يُعرفُ من طباعه القابليَّة لذلك فحين يتصدَّى الأب لترويضه بوسائل منها إسداء المال له بما يسدُّ نهمَه فإنَّ ذلك لا يكون مُستهجَنًا منه بنظر العقلاء ولا يدخل بذلُه المال لولده في حيِّز الرشوة بل إنَّ ما يفعلُه في سبيل كفِّ الأذى عن سائر أولاده وجيرانِه جديرٌ بالتقدير والاحترام لأنَّه بذلك يدفعُ الأذى عن جيرانه وقد يُسهم في ترويض ابنه والتحسين من طباعه، كذلك هو الشأن فيما شرَّعه الإسلام من فرض سهمٍ من الزكاة للمؤلَّفة قلوبُهم فإنَّه يبتغي من وراء ذلك كفَّ أذى هؤلاء للمسلمين وقد يُسهم في ترويضِهم وأين ذلك من الرشوة؟!

وكذلك ليس من الرشوة في شيء حين يكون الغرض من إعطائهم من الزكاة الاستعانة بهم على كفِّ شرور الأعداء، فأكثرُ هؤلاء كانوا من ذوي الوجاهات والنفوذ، وقد كان الكثيرُ من أعداء المسلمين حلفاءَ لهم في الجاهليَّة فإعطاؤهم من الزكاة قد يدفعُهم لتوظيف نفوذِهم وعلائقهم-بالقبائل المعادية للإسلام- لردِّ مكائد الأعداء عن المسلمين دون الحاجة إلى تجشُّم عناء الحروب والسفك للدماء أو يدفعهم إعطاؤهم من الزكاة للمساهمة بجدٍّ في مواجهة أعداء المسلمين، فثمة الكثير من القبائل والكيانات تتربَّص بالمسلمين الدوائر وقد تقوم الحرب بينهم، فتأليفُ هؤلاء يقوِّي من شوكة المسلمين، فهو نحوٌ من التجنيد لهم في مواجهة الأعداء، فهل تُعدُّ المكافئة للجندي وتحفيزه وإسداء المال له من الرشوة؟! وهل تنتظم جيوشُ الدول دون مكافئتها وتأمين معاشها؟! نعم هذه الجيوش قد تكونُ لدولٍ جائرة وقد تكونُ لدولٍ عادلة وكلُّ هذه الدول تُؤمِّن معاش جنودها ولا يُعدُّ ذلك من الرشوة، وأما أنَّ هذه الدول جائرة أو عادلة فهو بحث آخر، فحين يكونُ رأيك في دولةٍ أنَّها جائرة فقد تكون محقًّا أو مخطئًا لكنَّ ذلك على كلا التقديرين لا يُصحِّح لك عرفًا وصف مكافئتها لجنودها أو تحفيزهم أنَّه من الرشوة. فما يقبضُه جنود الدول العادلة من دولِهم ليس من الرشوة كما أنَّ ما يقبضُه جنود الدول الجائرة من دولهم ليس من الرشوة.

هذا ما يتَّصل باعطاء الزكاة للصنف الأول من المؤلَّفة قلوبُهم

وأمَّا الصنف الثاني: من المؤلَّفة قلوبُهم وهم الكفَّار، فالغرض كما تقدَّم من صرف شيءٍ من الزكاة عليهم هو إمَّا السعي لهدايتهم إلى دين الله تعالى أو الكفاية من شرورهم وغوائلهم أو الاستعانة بهم على دفع شرور أعداء الإسلام والمسلمين، ولا يصدقُ على شيءٍ من ذلك عنوان الرشوة أو الشراء للذمم كما زعم صاحبُ الشبهة.

أمَّا في مورد الغرض الأول فواضح فإنَّ النفع من إعطائهم من الزكاة إنَّما يعود لهم، فهم ينتفعون بالمال وقد يُفضي ذلك إلى هدايتهم إلى دين الله وتوحيده والتمثُّل بقيم الدين ومبادئه ونبذ رذائل الجاهليَّة ومساوئها، وتلك هي الغاية من بعث الرسل وإنزال الكتب.

وإعطاء مثل هؤلاء من الزكاة لحضِّهم على الهداية والدخول في دين الله تعالى لا يُعبِّر عن عجز الإسلام والرسول الكريم (ص) عن إقناع الناس بالآيات والبراهين والحُجج بل لأنَّ الناس متفاوتون في الاستعداد والأهليَّة، فمنهم مَن لا يكون مستعدًّا للإصغاء إلى حجَّةٍ أو النظر في برهان، ومنهم من يفتقرُ لأبسط مراتب الأهليَّة القاضية لاستيعاب ما يُعرضُ عليه من براهين، فمثلُ هؤلاء لا يُقرِّبهم من الهداية سوى العطاء والبذل، وحرصُ الإسلام على هداية مثل هؤلاء إنَّما هو لغرض ضبط سلوكِهم وتحسين أخلاقهم وتهذيب نفوسهم وإلا فلا يُرجى غالبًا من مثل هؤلاء القناعة المبتنية على التفكر والتروِّي والنظر في الأدلَّة والبراهين، فأنْ يلتزم هؤلاء بشعائر الدين وقيمِه ولو من طريق تأليفهم بالعطاء خيرٌ لهم وللمسلمين من أن يظلُّوا غارقين في مقابح الجاهلية.

وأمَّا إعطاء الكفَّار من الزكاة لكفِّ أذاهم وغوائلهم فكذلك لا يُعدُّ من الرشوة في شيء، فأنْ تدفع بمالك عن نفسك وأهلك غائلة عدوٍّ غاشمٍ أو أحمق سلوكٌ يعتمدُه العقلاء، وهو خيرٌ من مقارعته ومنابذته وتجشُّم عناء التربُّص لعواقبَ لا يُعلم إلى أيِّ مآلٍ تتجه. فإذا كان ثمة من لومٍ أو ذمٍّ فهو لمَن يقبضُ المال في مقابل أنْ يكفَّ أذاه عن الآخرين وأما مَن يبذل المال ليدفع عن نفسه أو كيانه شرورَ الأعداء فهو غيرُ مُلام، فكما يحقُّ له أنْ يدفع عن نفسه العدوانَ بالحرب فإنَّ خيرًا له أنْ يصرف عن نفسه وكيانه تبعات الحرب ببذل شيءٍ من ماله، فمثلُ هذا البذل لا يُعدُّ بنظر العقلاء وذوي الإنصاف من الرشوة.فإنَّ الرشوة تُعطى في مقابل سلب حقٍّ أو الغضِّ عن حقٍّ مسلوب أو إيقاع الظلم على طرفٍ ثالثٍ، وشيءٌ من ذلك لا يصدق على بذل المال للكفَّار لكفِّ أذاهم وشرورهم عن المسلمين، فإنَّ هذا البذل يدخلُ في دائرة دفع الظلم والأذى عن النفس.

وكذلك لا يُعدُّ من الرشوة إعطاء شيءٍ من الزكاة للكفَّار للاستعانة بهم على دفع عدوٍ غاشم فإنَّ ذلك يدخلُ في دائرة دفع الظلم عن النفس، فإنَّ من الكفَّار مَن لا طمع لهم إلا بالمال، فهم على استعدادٍ لمؤازرة المسلمين لو بُذل لهم شيءٌ من مال، فإعطاء الزكاة لمثل هؤلاء لا يعدو التجنيد لهم وضمَّهم إلى صفوف وأجناد المسلمين، وقد بيَّنا فيما تقدَّم أنَّ مكافئة الجنود وتحفيزهم ليس من الرشوة في شيءٍ.

وخلاصة القول: إنَّ شيئًا من موارد إعطاء الزكاة للمؤلَّفة قلوبُهم لا يصدقُ عليه عنوان الرشوة، وذلك لأنَّ الرشوة المُستقبَحة لدى العقلاء لا تصدقُ إلا في موردٍ يكون بذلُها في مقابل ظلمٍ لطرفٍ ثالث أو في مقابل السكوت عن ظلمٍ أو الممالئةِ عليه، وإعطاءُ الزكاة لكلا صنفي المؤلَّفة قلوبُهم ليس فيه ظلمٌ لأحد، نعم يستهدفُ الإعطاء في بعض موارده الاستعانة بالمؤلَّفة قلوبُهم ولكنَّه استعانةٌ بهم على دفع الظلم والعدوان وليس على إيقاع الظلم بآخرين.

وأمَّا دعوى أنَّ إعطاء الزكاة للمؤلَّفة قلوبُهم يدخل في دائرة الشراء للذمم فقد تبيَّن فسادُها فإنَّ شراء الذمم يعني بذل المال وشبهه لأحدٍ في مقابل تخلِّيه عن قيم الإنسان والتجاوز للمبادئ الفاضلة والخُلق الرفيع، وليس ثمة من موردٍ تُصرفُ فيه الزكاة للمؤلَّفة قلوبُهم يكون المقابل له التخلِّي عن القِيم والمبادئ الفاضلة كما اتَّضح ممَّا تقدَّم بل إنَّ الغاية الأولى من صرف الزكاة للمؤلَّفة قلوبُهم هي ترويض المعطى على تمثُّل القيم الإنسانيَّة ونبذ رذائل الجاهليَّة. فدين الإسلام هو دين الفطرة والقيم الإنسانيَّة الرفيعة لو كان ثمة إنصاف.

والحمد لله ربِّ العالمين

 

 

مقتبس من كتاب من شبهات الملحدين حول القرآن

الشيخ محمد صنقور


1- التوبة/60.

2- يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

وفي الفقيه للصدوق بسنده عن أبي عبد الله الصادق (ع) عن آبائه - في وصيَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله لعليٍّ عليه السلام - قال: يا علي من السُحت ثمنُ المِيتة وثمنُ الكلب، وثمنُ الخمر، ومهرُ الزانية، والرشوةُ في الحكم، وأجرُ الكاهن"

وفي الكافي بسنده عن أبي جعفرٍ الباقر (ع) قال: ".. والسُحتُ أنواعٌ كثيرة منها أُجور الفواجر، وثمنُ الخمر والنبيذ والمسكر والربا بعد البيِّنة، فأمَّا الرشا في الحكم فإنَّ ذلك الكفر بالله العظيم - جلَّ اسمُه- وبرسوله صلَّى الله عليه وآله".

وفي الكافي بسنده عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: "..وأمَّا الرشا في الحكم فهو الكفرُ بالله العظيم".

وفي عقاب الأعمال للشيخ الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "أيُّما والٍ احتجبَ من حوائج الناس احتجبَ اللهُ عنه يوم القيامة وعن حوائجِه، وإنْ أخذ هديةً كان غلولًا، وإنْ أخذ الرشوة فهو مشرك" أي أنَّ جريرة أخذ الرشوة على حدِّ الشرك في الإثم وكذلك هو معنى قوله (ع): فهو الكفر بالله العظيم أي هو على حدِّ الكفر في الإثم.

3- الحج/37.

4- الحجرات/17.

5- النساء/125.

6- التوبة/128-129.